أشواك البراري والسيرة الواقعية لكاتب

clip_image002_85cc7.jpg

صدر كتاب "أشواك البراري – طفولتي" للأديب المقدسي جميل السلحوت عام ٢٠١٨ عن منشورات مكتبة كل شيء الحيفاوية، ويقع الكتاب الذي يحمل غلافه الأوّل لوحة للفنّان التّشكيليّ محمد نصر الله في ٢٠١٤ صفحة من الحجم المتوسّط.

أشواك البراري هو عنوان السّيرة الذّاتيّة في مرحلة الطفولة للكاتب جميل السلحوت، والتي تناول فيها المرحلة الأولى  من حياته مرحلة الطفولة، التي تبدأ من مولده عام 1949 في قرية السّواحرة قرب القدس، ويختمها بنهاية المرحلة الثانويّة، وامتحان التّوجيهي الذي وقعت في أثنائه هزيمة حزيران عام 1967م، أمّا المكان فهو الرّقعة الجغرافيّة الممتدّة من قمّة جبل المكبر إلى عين الفشخة على البحرالميت، هذا بالإضافة إلى مدينة القدس، التي احتلت قسطا وافرا ومهمّا في سيرة طفولته، أمّا غيرها من المدن التي جاء على ذكرها فكانت عابرة لم تترك بصماتها على طفولته. في مقدمته التي أسماها (قبل الدخول) وضّح الكاتب أنّ غايته من كتابة هذه السّيرة ليس نقل عذاباته واستدرار العطف، وإنّما نقلُ واقع اجتماعيّ عاشه الملايين من أبناء شعبه وأمّته، ونقل تجربة يفيد منها الأجيال، والحقّ أنّ الكاتب رسم فيها لتلك الحقبة ملامح مهمّة ودقيقة للحياة السّياسيّة والاقتصاديّة والمدنيّة (متعلقات الحياة) في تلك الفترة، وكذلك رصد عادات وأعرافا منها المحمود ومنها المذموم، وكان لهذه السّيرة قيمة جغرافيّة لا تنكر، فالموقع الجغرافيّ للسّواحرة في تلك الحقبة وما قبلها المتمثل في القرب من القدس، والوقوع على الطريق التي تربط جنوب فلسطين بالضفّة الشرقية لنهر الأردن، وتحوّل طريق بيت لحم والخليل إلى جبل المكبر، كان له أثر لا ينكر في حياة الناس، فكانت ملجأ الثوار وطريق التّجار، وهناك إشارات مهمّة لبعض المواقع والمعالم العمرانيّة في القدس من مثل المدرسة التنكزيّة التي نالت منه قسطا محترما من التّعريف العمرانيّ والتّاريخيّ، وقد عرج على بعض التّراث الشعبيّ في بلدته السّواحرة مثل ألعاب الأطفال وأغانيهم، ورصد فيها أيضا التّطوّر التّعليمي في قريته والقرى المحيطة بها وفي مدينة القدس، ويبدو من سيرته هذه أنّ قريته السواحرة كانت في طريقها نحو التمدّن، والانتقال التدريجي من حياة البداوة، التي يغلب عليها الطابع الرّعويّ والزّراعيّ إلى حياة الاستقرار والتّوجّه المدنيّ، من خلال تلك السّيرة وجدنا الكاتب يدور حول محورين هما: محور العلم والتّعليم، ومحور الجهل بمتطلّبات الحياة المدنيّة، من مثل تربية الأطفال، والرّعاية الصحيّة وغيرها. ونجد الكاتب في بدايات سرده لقصّة طفولته يستغرق في وصف شقاء الأطفال في تلك البيئة، وانعدام رعايتهم، وذلك من خلال أحداث مرّ بها شخصيّا، حتى ليخيّل للقارئ أنّه لا شيء في تلك الطفولة يحمد، والتّجربة التي ينقلها الكاتب لنا وللأجيال، وهي بالتأكيد تجربة طفل أعطي نباهة وذكاء ولم يرض بتلك الظّروف، وتحدّاها عندما اشتدّ عوده أو ما استطاع إلى ذلك سبيلا، هي أنّه بالعلم والتّعليم تتقدّم المجتمعات وتهدم الكثير من المفاهيم والأعراف التي تختزل الجهل والتّخلف، العلم والتعليم الذي لا يفرّق فيه بين الذّكور والإناث، وكان للمرأة الحضور الوافر في قصّة طفولة الكاتب فهي أمّ وأخت وعمّة وزوجة أب وغيرها، وقد أكثر الكاتب من الإشارة إلى أمرين تعلقا بالمرأة، وكانا يقضّان مضجعه، أو أثّرا في نفسه، هما النّظرة الدونيّة لها والتّمييز بينها وبين الذّكور، وحرمانها من التّعليم، وفي ثنايا هاتين القضيّتين وجدناه قد بيّن مكانتها في تحمّل أعباء الحياة مع الرّجل سواء بسواء.

 هناك أحداث يبدو أنّها تركت أثرا في نفسه وورّثته سخطا على مجتمع طفولته، ونقدا حادّا له هي حادثة فقدانه عينه، وما ترتّب عليها من شعور من حوله بأنّه بسببها عاجز عن تحقيق حياة ناجحة، وهذه ربّما أنسته فكرة أنّ الحياة الخشنة أو التي فيها شيء من الشّظف تصقل شخصية الطفل وتمنحه شيئا من العصاميّة وتحمّل المسؤوليّة، ونجد أنّ هذه الحدّه تخفّ بالتحاقه بالمدارس والتّفوّق في الدّراسة، حتى إنّه عندما يصف بعض الأساليب التّربويّة الخاطئة التي تقع من مدرّس أو مدير مدرسة من عقوبة أو طرد من المدرسة بسبب أخيه، جاء على سردها بطريقة لطيفة تميل إلى روح الدّعابة، وكأنّ تقديسه للتّعليم والتّعلم جرّده من الحدّة التي بدأها، بل يبدو أنّه مازال يكنّ الاحترام لشخصيّة مدير مدرسة صورباهر داود وهبة، ويدلّ على تقديسه هذا تعريفه بمدرّسيه في المعهد العلمي الاسلاميّ-ثانوية الأقصى الشّرعيّة حاليا- وتتبّعه لسير حياتهم، ويبدو من خلال سرده لقصّة طفولته ميله الشّديد لتسجيل التّراث الشّعبيّ ،والقوليّ منه بخاصّة، وقلقه وخشيته أن يضيع، لذلك نجده قد بالغ في ذكر واستقصاء أغاني الطفولة والهدهدة، وكانت نظرته إليها تأخذ بعدا تربويّا علميّا إلى جانب البعد التّراثيّ.      

أمّا عن الشّخصيّات في قصّة طفولته، فنجد الشّخصيّة الممتدّة هي شخصيّة أبيه -رحمه الله-، الرّجل المكافح الكريم المنتمي لوطنه، والحريص على أبنائه، والمحبّ للعلم والتّعليم، المفتخر بنجاحاتهم. وكذلك أمّه المكافحة الولود الودود التي كانت له الصّدر الحنون، وهناك شخصيّات مرّ على ذكرها تعلقت بأحداث طفولته من أقاربه وأساتذته وأبناء بلدته من عشائر أخرى، كانت ذات مكانة ليس في قصّة طفولته بل في المجتمع.

غلب على الكاتب أسلوب السّرد القصصيّ التي كان فيها يسترجع الماضي بلغة فصيحة بسيطة تناسب كلّ قارئ، وبخاصّة الأجيال الصّغيرة والقرّاء العاديين، فكأنّي به يتجنّب اللغة الأدبيّة التي يخصّ بها المثقفين فقط، فبدت الغاية منها نقل التّجربة، أكثر من الحرص على التّلوين الفنّيّ، وهذا ديدن معظم كتّاب السّير. ولكنّ الفنيّة في مثل هذه السّيرة أنّها جاءت في عناوين فرعيّة غير متباعدة أو منقطعة، ويبدو أنّ أسلوبه الرّوائيّ قد غلب عليها.

القارئ لهذه السّيرة يجد نفسه أمام طفل عانى وشقي في طفولته، ولكنّ الحياة القاسية منحته شخصيّة قويّة وعصاميّة، صادفت منه الذّكاء والنّجابة، ولمّا شاءت له الأقدار أن ينال نصيبه الوافر من التّعليم، جعلت منه شخصيّة اجتماعيّة نبذت الأنانيّة، والتفت إلى إصلاح مجتمعه ومحاربة الجهل والدّعوة إلى التّعليم وإنصاف المرأة. فنحن بحقّ أمام ناقد اجتماعيّ أكثر منه راوي أحداث شخصيّة، وأخيرا ننتظر البقيّة من السّيرة الذّاتيّة التي أتوقع أن تكون مثار نقاش وأخذ وردّ، وأمام مساحة زمنيّة أوسع ومكان جغرافي أرحب، وأحداث أعمق. 

وسوم: العدد 778