ليلة تسليم جلجامش لليهود؛ فضح مغالطات التناص بين الفكر العراقي القديم والفكر التوراتي (29)

# الصحيح هو "اللاتناص" بين جلجامش ويوسف التوراتي وهذه هي الأدلة :

سأنتقل الآن إلى القسم الذي يتحدث فيه الأستاذ ناجح عن (ملحمة جلجامش وقصة يوسف التوراتي) ، ومن العنوان أتساءل هل يجوز مقارنة ملحمة أبطالها - بالتعريف - خارقون ومنهم من هم آلهة ونصف آلهة بقصّة بطلها إنسان بشري عادي حتى لو كان نبيّاً ؟؟

الجواب هو : كلّا .

لكن متى يصحّ ذلك ؟

يصحّ ذلك تحت خيمة الفهم التبعي والمستسلم لأطروحة (التناص - Intertextuality) التي تحدثتُ عنها سابقا حيث يصبح كل شيء شبيها بكل شيء لمجرّد أنه يشبهه في شيء بسيط ومحدّد . ووفق هذا الفهم المطّاط يبدأ ناجح بذكر التناصّات بين جلجامش ويوسف التوراتي على الشكل التالي :

(-ساهم الإله انو بخلق الملك جلجامش وكان شبيها له وسيما وجميلا ، ومنحه الاله (انليل) سلطة قوية ومنحه الملوكية ، وفوضه حكم الشعب . لقد صممت هيأة جسمه الالهة العظيمة

الملحمة/ ص 76 )

أما يوسف التوراتي :

(منح يعقوب (اسرائيل) ولده يوسف مكانة خاصة ومتميزة بين اولاده الكثر. واما (اسرائيل فاحب يوسف اكثر من سائر بنيه لانه ابن شيخوخته فصنع له قميصا ملونا فلما رأى اخوته ان اباهم احبه اكثر من جميع اخوته ابغضوه ولم يستطيعوا ان يكلموه بسلام.

تك 37 : 3-4) (6) (ويقصد ناجح بالـ "تك" سفر التكوين)

وحسب رأي ناجح سنجد في المقطعين السابقين "تناصا" بين جلجامش ويوسف التوراتي !!

وأنا أسأل : أين التناص ؟

دعوني أحدّث ناجح عن "اللاتناص" بين جلجامش ويوسف التوراتي :

-         جلجامش خلقه إله ، ومنحه مكانة مميزة على شعب سومر ، ويوسف – حسب النص التوراتي – بشر مولود ، ميّزه أبوه يعقوب الشيخ ومنحه مكانة خاصة بين إخوته وهو أمر بشري طبيعي جدا حيث يكون الطفل الأصغر الجميل مميّزا من قبل أي أب خصوصا عندما يكون الأب طاعناً في السن (يوسف هو الإبن الحادي عشر ليعقوب وبعده بنيامين).

-         ويقفز ناجح فوق حقيقة أن الملحمة تقول إن جلجامش ثلثه بشر وثلثاه إله ، في حين أن يوسف كلّه إنسان عاديّ .

-         وإن جلجامش بدأ أصلاً ملكاً منحته الآلهة السلطة ، ويوسف بدأ صبيّاً راعياً (عمره 17 سنة) يلعب ويرتع ..

-         جلجامش كان جبّاراً شجاعا ماردا وله حق الليلة الأولى ، ويوسف صبي ألقاه أخوته في البئر بسهولة ..

-         وهذا الصبي في الوقت الذي كان فيه جلجامش يجوب جهات العالم الأربع ، تاه وظل الطريق عندما ترك بيتهم  حين أرسله ابوه ليتفقّد إخوته ودلّه أحد الرجال على الطريق !! .

إذا ، أين التشابه بين يوسف وجلجامش ؟ ناجح يقفز فوق عشرات الإختلافات بين الإثنين ، ويتمسك بتشابه أو تشابهين بينهما !! ولكي لا أتعب السادة القرّاء لنقرأ ما سطرته الملحمة عن البطل العراقي جلجامش في اللوح الأول منها :

(إنه البطل ، سليل أوروك ، والثور النطّاح

انه المُقدّم في الطليعة

وهو كذلك في الخلف ليحمي اخوته واقرانه

انه المظلة العظمى ، حامي اتباعه من الرجال

انه موجة طوفان عاتية تحطّم حتى جدران الحجر

نسل "لوكال – بندا" . إنه جلجامش المُكتمل القوّة

ابن البقرة الجليلة "رمات – نُنسن"

جلجامش المُكتمل في الجلال والألوهية

إنه هو الذي فتح مجازات الجبال

وحفر الآبار في مجازات الجبال

وعبر البحر المحيط ، إلى حيث مطلع الشمس

لقد جاب جهات العالم الأربع ، وهو الذي سعى لينال الحياة الخالدة

وبجهده استطاع أن يصل إلى "أوتو – نبشتم" ، القاصي

وأعاد الأحياء التي دمّرها الطوفان

من ذا الذي ضارعه في الملوكية ؟

من غير جلجامش من يستطيع أن يقول : أنا الملك ؟

ومن غيره من سمي جلجامش ساعة ولادته ؟

ثلثاه إله ، وثلثه الباقي بشر

لقد صمّمت جسمه الآلهة العظيمة) (7).

فانظر ، سيّدي القارىء ، إلى كل هذه الإختلافات الرهيبة – وهي غيضٌ من فيض - بين جلجامش البطل ويوسف التوراتي الصبي المراهق ذي السبعة عشر عاما ؛ كلّها قفز فوقها ناجح ، وبسرعة ، ليطلع علينا بنتيجة غير مقنعة ، وهي أن يوسف التوراتي في مرحلة مراهقته تلك يشبه البطل العراقي العظيم جلجامش تمهيدا للوصول – ومن دون أن يعلم طبعاً - إلى الغاية الخطيرة ، وهي أن يوسف التوراتي موجود أصلا في ثقافتنا ووجداننا كعراقيين ، وأن التوراة – وهذا هو الهدف المستتر البعيد الذي لا يدركه ناجح ويجب علينا تبصيره به – هي جزء من ثقافتنا العراقية القديمة وجذورها فيها !!

وسوم: العدد 784