رسائل رابعة وأسئلتها

د. يحيى مصطفى كامل

خمسة أعوامٍ مضت على مذبحتي رابعة والنهضة، اللتين راح ضحيتهما على الأقل ثمانمئة وسبعة عشر شخصاً، وفق أقل التقديرات، وما يزيد على الألف (وصل البعض بها لأكثر من ألفين) وفق تقديراتٍ أخرى أكثر واقعية. خمسة أعوامٍ مضت على تلك التي تعد من أكثر المذابح حصداً لأرواح المعتصمين والمتظاهرين في التاريخ الحديث، ومن حيث الأعداد فإنها تقارب مذبحة صبرا وشاتيلا.. خمسة أعوامٍ حُمّل فيها القتيل المسؤولية كاملةً، من دون أن يحاسب القاتل.

كأي حدث جوهريٍ وفاصلٍ في التاريخ، فإن مذبحة رابعة مذ خرجت إلى الوجود أضحت كياناً حياً، سيستمر في إثارة الجدل وسيخضع للبحث وإعادة التقييم والنظر إليه من جهاتٍ مختلفة ومواقف متباينةٍ، تباين مواقف الأطراف والفرقاء. لكننا الآن، في ذكراها الخامسة، وبعد أن راقبنا ورصدنا ما شهدته الحقبة «السيسية» من عنفٍ وضجيجٍ ومشاريع وهمية، وتنازلات وحربٍ طبقية ضد السواد الأعظم، فإننا نستطيع بثقة أن نعبر عن قناعات ترسخت لدينا بمضي الوقت، أو على الأقل إعادة تكرارها.

لست مبالغاً قط ولا أراني متخطياً الدقة أو مجانباً الصواب، إذ أؤكد على أن مذبحتي رابعة والنهضة هما «العمل المؤسس» بأل التعريف لنظام السيسي وتركيبته الحاكمة، العمل الكاشف، والمشهد «الماستر» الذي سيحتل مكاناً خاصاً في الكتب التي ستؤرخ لهذه الحقبة القبيحة البليدة، والغارقة في الدماء في تاريخ مصر، وعمر الثورة المضادة، فالطبقة الحاكمة ودولتها العميقة، كانت قد نجحت في إيجاد حصانها العسكري، كما نجحت في ترتيب الأوراق على الساحة الداخلية مع التيارات السياسية وممثليها، على خلفية تحضيرها الشارع بالأزمات المفتعلة تجهيزاً للانقلاب. ربما نجح الانقلاب بداية عهد السيسي، إلا أن رابعة كانت بمثابة إعلان نوايا وتدشيناً للحقبة الجديدة، عملاً محملاً بكمٍ هائلٍ من الرسائل والدلالات.

بدايةً كانت شهادة الوفاة لمحاولة التغيير الثوري، وإيذاناً حقيقياً ببداية حكم الثورة المضادة. لقد أراد السيسي أن يقول «نحن هنا، وباقون بالحديد والدم، مهما كان الثمن» لذا فإنني على الرغم من ولعي بالتفاصيل، واستعدادي لقبول الشهادات في محاولات الوصول إلى اتفاقٍ بين الجماعة والنظام، بت أرى أن كل هذا الكلام لا يعدو أن يكون لغواً، فكل الشواهد تؤكد بالنية المبيتة لتلقين الجميع درساً عن طريق «ضرب المربوط».

أراد السيسي أن يعلنها صريحةً مدوية: نحن الأقوى والأبقى، نحن من نملك البارود. لقد فُض المولد وانتهت الثورة، وقد تغيرت قواعد اللعبة وانهارت المحاذير القديمة، فلا حرمة لدم، ولن نتورع عن سفك أنهارٍ منه للبقاء في السلطة والسيطرة، فلا يستخفن الطيش بأحدٍ ليتصور أننا سنقف أمام أي شيءٍ، وها نحن ذا نقتل كل هؤلاء أمام نظر العالم أجمع، من دون أن يرمش لنا جفن، وباستدعاءٍ شعبيٍ واسعٍ أيضاً. ربما اختار البعض تجاهل الرسائل أو النظر بعيداً أو التشبث بالبلاهة والعبط، بيد أنها كانت، من دون أدنى شك واضحةً ماضية: لقد سقط أي سقفٍ للعنف.

كما أن الحدث برمته كاشفٌ عن طبيعة الطبقة الحاكمة في مصر، فمن الخطأ والقصور تصور بلادة السيسي وضحالة ثقافته وسلطويته وقمعه ودمويته، كظاهرةٍ منعزلةٍ تعكس ميله الشخصي للعنف والبطش وتعطشه للدم، إذ أن تصوراً كذلك قد يقودنا إلى ذلك المنحدر الزلق بأن المشكلة فيه، وأن تغييره كفيلٌ بإصلاح الحال، وعدل كفة الميزان. كلا، ما السيسي إلا ممثلٌ لطبقته، تلك التي ما زالت تحكم مصر، وما وصلت إليه من الرثاثة والجهل والانفضام والدموية، فهي لا تأبه بالدماء هي الأخرى، وما أكثر ما سمعنا ولم نزل أن هؤلاء «العيال لا بد أن يضربوا بالنار في ميدان عام» و»لا بد من الحسم والضرب بيدٍ من حديد» و»ما يموتوا في داهية»، وأنه لا بد من القضاء على الخونة، علماً بأن أياً من الضحايا لم يحاكم ولم تثبت عليه الخيانة.

نتيجةٌ أخرى نخرج بها من مجزرة رابعة، ألا وهي أن القوى غير الإسلامية، علمانية ومدنية بأطيافها (باستثناء مجموعاتٍ صغيرة كالاشتراكيين الثوريين وآحادٍ قلائل)، مسكونةٌ هي الأخرى بالسلطة، بالنظام الذي أثبت أنه أقوى الفصائل، رغم الهزة العميقة التي تعرض لها، فهم بذلك يحاكون الإخوان المسلمين تماماً، مهما ادعوا عكس ذلك، كلاهما لا يستطيع مقاومة إغراء السلطة ومراودتها لهم عن أنفسهم، وفي نهاية المطاف ليس لدى أيٍ من الطرفين أي تحفظٍ عن الاستعانة بالنظام، ذلك الذي ضربهم وكسحهم طيلة عقود، للاستقواء به وضرب غريمه، متجاوزاً تلك المبادئ الديمقراطية التي ينادي بها، وملقياً بحقوق الإنسان والمواطن والحيوان والجماد أيضاً في الوحل، ومصفقاً للدم والتعذيب. 

لذا فلست مبالغاً إذ أزعم أن طرفي المعادلة السياسية في مصر أفشلا الثورة، حين رقصا على لحن النظام، فكلاهما لم يقدم على الثورة ولم يمتلك الشجاعة على الإيمان والتصديق بإمكانية التغيير الثوري، ولعل الراحل رفعت السعيد عبّر جيداً عن ذلك، حين أطلق على الحراك (يوم وصل تعداد الناس إلى الملايين ) لفظة «اعتصام»- فهو لم يرد الثورة ولم يسع إليها، ولم يعمل لها ولا تعدو كلماتٌ كالاشتراكية والثورية أن تكون دبوساً أنيقاً في عروة سترته، سترات الكثيرين في الحقيقة.

أجل، رابعة هي العمل المؤسس، وكل ما تبع ذلك من ملاحقاتٍ وقمعٍ وقتلٍ وتهميشٍ مطلق للقوى السياسية التي غطت الانقلاب منتحرةً من الناحية الفعلية، كل ذلك تحصيل حاصل، كما أن رابعة أيضاً حدثٌ كاشف، فضح خللاً عميقاً وسقماً يسكننا ويستوطن مجتمعاتنا.

فقد كشفت أن كثيراً من نخبنا المزعومة لم تأخذ من الحضارة سوى قشرتها، إننا لا نقيم للحياة والكرامة الإنسانية وزناً، إننا منافقون، نستحل الدم ونلغ فيه، كما أن التيارات أو القوى السياسية لم تعد تستطيع أن تلقي باللائمة والمسؤولية عن هزالها على النظام وحده، بل إن خللاً عظيماً يتخلل تكوينها، بالإضافة إلى رهاب الإخوان، وليس أدل على ذلك من أولئك الذين ما زالوا يأملون وينتظرون إصلاحاً طوعياً من هذا النظام.

في ذكرى رابعة، ونحن نتدبر مآلات الثورة المضادة ووجهتها نحو رئاسةٍ مدى الحياة فلا بد أن نواجه أنفسنا بأخطائنا، ونبحث في ضمائرنا، أن نمارس نقداً بناء للذات، فجلنا في حاجةٍ للتطهر والتكفير، ومراجعة أوراقه ومنطلقاته وحساباته، وعلى رأسها الحاجة إلى تنظيمٍ ثوريٍ حقيقي متمترسٍ ضد النظام.

سؤال أخير أمام حالة التمزق والتردي التي نعيشها، سؤالٌ أخلاقي: هل تسقط جرائم الدم والمذابح بالتقادم؟ أم أن لعنتها تستمر لتسكن المستقبل فتلاحق أشباحها الأجيال القادمة؟

وسوم: العدد 786