تقديم ديوان نجاوى الروح لشاعر الإسلام مصطفى عكرمة

أستاذ في الجامعة العربية المفتوحة بالكويت

عضو مراسل بمجمع اللغة العربية بدمشق

بـســــــــــــــم الله الرحمن الرحيــــــــــــــــــم

سبحانك اللهم وبحمدك وتباركتْ أسماؤك، وتعالت صفاتك، وعزّ جاهك، وجلّ ثناؤك، ولا إله غيرك.

اللهم صلِّ على أشرف خلقك، وخاتم رسلك صلاةً تكون له فيها قربة، وتكون لنا فيها نجوةٌ، وعلى آله وصحبه ومن تبعه وسار على نهجه.

وبعد...

فهذي نجاوى لامست شغافَ القلوب.. وتضاريع رُفعت لحضرة علام الغيوب.. وتسابيحُ يمتزج فيها الثناء بالدعاء.. ويختلط فيها وجيبُ القلب بالنّغم الأصيل، والجرس النبيل..

وأنا أحسبُ أن كثيرًا منها قِطَعٌ من قلب قائلها شاعر الإسلام والعرب مصطفى عكرمة استحالت شعرًا يتردّد صداه بين حناجر المنشدين، وآذان المتذوقين.

والحق أني ما قرأتُ، أو سمعتُ شعرًا لمبدعنا المصطفى عكرمة إلا ذكرت ابن عباس رضي الله عنهما حين أنشده عمر بن أبي ربيعة قوله: تشطّ غدًا دار جيراننا، فقال ابن عباس t: ولَلدَّارُ بعد غدٍ أبعدُ. فقال عمر: كذا قلتَ، قال كذا يكون إن شاء الله، فاضطّرب ابن أبي ربيعة وخجل، فقال له ابن عباس: إنما عنيتُ أنك أنت قلتُه، قال: يا عمّ فكيف علمتَ؟ فقال: لا يكون بعد هذا إلا ذا.

فالوضوح، واليسر، والسهولة، والمباشرة، سماتٌ لا يكادُ يخطِئها أيُّ قاريء لشعره، وهي سماتٌ محمودة عند أهل البلاغة والبيان، بل هي المقدَّمَةُ عند أمير البيان الجاحظ حيث يقول:

«وقال بعضُهم ـ وهو أحسنُ ما اجتبيناه ودوّناه: لا يكون الكلام يستحق اسم البلاغة حتى يسابقَ معناه لفظه، ولفظُه معناه، فلا يكون لفظُه إلى سمعك أسبقَ من معناه إلى قلبك».

ولا ريب عندي أن مثل هذه الطواعية في شعر عكرمة إنما هي صدىً لنفس مصطفى الصافية، ومرآةٌ لقلبه النقيّ، ونتاجٌ لفكره الرائق، وجلاء لعقيدته المؤمنة، وخلقه القويم.

ذلك لأن شعر الأستاذ عكرمة من هذا النوع الفطري، السَّليقي الذي يصدُر عن موهبةٍ حقيقيةٍ، وينبع من منبع ثرٍّ، فيجري على لسانه جَرَيانَ الماءِ العذب في غديره، والنسيمِ العليلِ في فضائه، تسمعه فتخال أنك تحفظه، وتقرأه فتحسب أنك تجيد مثله، تدلّك الكلمةُ على أختها، ويُسلِمك الصدرُ إلى عجزه، ويقودك البيتُ إلى قافيته، في سلاسةٍ ويُسرٍ لا عناءَ فيه ولا عسر.

اقرأ معي إن شئت قوله:

قبل السؤال تجيبني لسؤالي

يا سامعًا قبلَ المقالِ مقالي

وقوله:

يا قاضيَ الحاجاتِ إني مُنزلٌ

بك حاجتي يا قاضي الحاجاتِ

وقوله أيضًا:

عليك اعتمادي أيا خالقي

وحسبيَ أنّ اعتمادي عليكْ

تجدْ شعرًا مرسلًا تنساب كلماتُه سهلةً رخيّة، وراضيةً مرضيّة.

وهكذا ترى أن مذهبَه في الشعر مذهبَ شيخنا الجاحظ حيث يقول: «وأجود الشعر ما رأيتَه متلاحمَ الأجزاءِ، سهلَ المخارجِ فتعلم بذلك أنه أُفرغ إفراغًا واحدًا، وسُبِكَ سبكًا واحدًا، فهو يجري على اللسان كما يجري الدِّهان».

وقد جاءت هذه النجاوى في كثير من مقطعاتها على بحورٍ من الشعر خفيفةِ الوقع، لطيفةِ الإيقاع، سريعةِ الوزن، نديّة الجَرْس، مساوقةً للنغم، فكانت بهذا أشبه بالأناشيد التي ما إن تُقرأ حتى يجري معها النغم، ويتبدّى من خلالها اللّحن، وتتحول على لسان القارئ إلى أنشودة يشدو بها، فكيف إذا كان هذا القارئ مُلحِّنًا متذوقًا؟!

إني لأحسب أن في هذا الديوان مادةً ثرّةً لكل السادة المنشدين، يُسمعوننا من خلالها أعذب الألحان، وأحلى الكلمات، وأصدق المناجاة، وأذكر أنني ـ وأنا من المنشدين ـ كنت أسعى جاهدًا لتلبية رغبة الأخ الكبير الأستاذ المفنِّ زهير منيني في انتقاء بعض ما يصلح للإنشاد والتلحين، فأوفق أحيانًا وأخفق في أحايين كثيرة، فلعله ـ وأمثاله من كبار الملحنين يجدون ضالَّتهم اليوم في هذه «النجاوى» فيكون لنا من ذلك خيرٌ كثير.

ولعلها أيضًا تحلّ محلّ بعض الأناشيد والموشحات التي كثر فيها الشطط، والخروج عن الأدب الذي أَدَّبَناه إسلامُنا في مخاطبة ربّنا جلّ وعلا، وفي مدح نبينا صلى الله عليه وسلم، وهو لَعمري أدبٌ رفيعٌ لا يحتاج إلى  تَزيُّدِ مُتزيّدٍ، أو تكلّفِ مُتكلفٍ، بل هو فطرة الإسلام التي فطر الله الناسَ عليها.

***

إن نجاوى الروح هذه فيها من سموّ المضمون ما يسعد النفسَ، ويُبهج الروحَ، وفيها من سموّ البيان ما يُطرِبُ العقلَ ويُغذِّي الفؤاد، وفيها من أطايب الكلام ما يَحسُنُ أن يُنتقى ويُحفظ ويُردّد، ويُنشد.

فهنيئًا لك أخي أبا رفاعة على ما ألهمك المولى منها، وهنيئًا لكل قارئ قرأ فتذوق، وحفظ فردّد، وناجى فحلّق، وهنيئًا لي أن حظيت بتقديمها، والنثر لا يسمو سموّ الشعر، فأنّى له أن يُقدِّم له أو يتقدّمه؟ وكيف له أن يصدِّر له أو يتصدَّره؟ حاشا ثم حاشا أن يكون كل هذا، إنما هي كليماتٌ كُتبت على استحياءٍ استجابةً لرغبة لا أملك ردّهاه، وامتثالًا لأمرٍ لا أستطيع مخالفته، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

* * *

أنت في الشعر طنطاوي عصرك

فلئن فاق الشيخ علي الطنطاوي

أنداده بنثره السهل الممتنع

لقد فقت شعراء عصرك

بشعر سهل 

يمضي عذبا مطربا

واضح الملامح

جميل القسمات

حلو الترداد

محكم القافية

لا سيما حين يشرف بمدح سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم

سلمت

وسلم حرفك النقي

وشعرك التقي

وقلبك العامر بالإيمان

واسلم لمحبك

حسان الطيان

وسوم: العدد 824