سفينة نوح عليه السلام

د.عدنان علي رضا النحوي

سفينة النجاة

د.عدنان علي رضا النحوي

www.alnahwi.com

[email protected]

( وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ . وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ . قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ . وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ . وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ . قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ)

[ هود : 41-46 ]

صورة مليئة بالحركة والمشاهد ، غنيّة بالألوان والجرس ، قويّة التصوير . إنها آيات منزلة من عند الله ، تصف مشاهد من أهم ما حدث في التاريخ البشري، تصف كيف ينجي الله المؤمنين حين يُحدق الخطر بالناس من كلِّ جانب .

وأهمية هذه المشاهد في هذه الآيات الكريمة تَبْرز ونحن نرى أنها تصوّر لنا مشاهد تتكرر في تاريخ الإنسان ، في المعركة الدائرة بين الإيمان والكفر ، حتى يكاد يُمثِّل التاريخ في معظم جوانبه هذه المعركة . وبذلك تصوِّر لنا هذه الآيات الكريمة سنَّة من سنن الله الثابتة الماضية على حكمة لله بالغة وقدر غالب .

إنها سفينة النجاة التي أمر الله نبيّه ورسوله نوحاً أن يُعدَّها للنجاة بها هو ومن اتبعه من المؤمنين ، " وما آمن معه إلا قليل " : " وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ..." .

وباب النجاة للمؤمنين مفتوح أبد الدهر رحمة منه سبحانه وتعالى . وجعل الله مفتاح النجاة بيد المؤمنين أنفسهم إن هم صدقوا الله وأوفوا بعهدهم وأدَّوا الأمانة. فلا يعمل المفتاح إلا بإذن الله ومشيئته . فهو الذي يعلم الجهر والسرَّ وما تخفي الصدور ، وهو العليم الخبير ، يقضي بالحق .

وعد من الله سبحانه وتعالى ، وعد ماضٍ أبد الدهر لا يتخلَّف :

( ........... وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ .........) [ التوبة : 111]

( ... وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ) [ البقرة : 40]

(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ )

 [ غافر : 51]

( ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ )

[ يونس : 103]

إنها سنة الله ماضية أبد الدهر ، وعد لا يتخلّف ما أوفى المؤمنون بعهدهم مع الله . وباب النصر ووسيلة النجاة ميسَّرة في كلِّ لحظة إذا أراد الله لعباده النجاة :

( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) [ يس : 82]

وسفينة نوح عليه السلام مثل على توافر سبيل النجاة لمن أراد وصدق . وتتعدّد الأمثلة مع التاريخ ، وتظل سفينة نوح هي النموذج الذي يصوّر الأمثلة كلها . ويظلُّ نداء النبوّة مدوّياً أبد الدهر يدعو المؤمنين ليركبوا سفينة النجاة ، ويلجوا باب النصر : ( وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا ) وكيف لا تكون السفينة سفينة النجاة وهي تجري باسم الله وترسي باسم الله ، والأمر كله لله ، والملك كله لله ، والحمد كله لله .

كلُّ مسلم يدرك اليوم أن الخطر محدق بالمسلمين ، يتهددهم رجالاً ونساءً ، أطفالاً وشباباً وشيوخاً ، دياراً وأقطاراً . إن الخطر أوضح من أن يتجاهله إلا غافل أو لاه ، غاب في لهو الدنيا ولعبها ، وزخرفها وزينتها .

ولكن قد يغيب عن بال بعض المسلمين اليوم أمران : الأول : أنه قد لا يدرك المسلم مدى دنوِّ الخطر منه ، من شخصه وأهله الأقربين . قد يظنُّ بعض المسلمين أن الخطر بعيد منه قريب من غيره ، وأنه لذلك في منجى . ويقع المسلم بذلك فيما وقع فيه ابن نوح :

( قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ... )

وما ارعوى ابن نوح حتى عندما ذكَّره أبوه النبيّ الرسول بحقيقة الخطر الذي لا نجاة منه إلا بسفينة النجاة التي أمر الله بإعدادها ، والتي جعلها الله السبيل الوحيد للنجاة :

( ... قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ )

إن الخطر قد يتهدّد الناس في أيِّ عصر أو أيِّ لحظة ابتلاء منه سبحانه وتعالى . وقد يحيط الخطر بالمؤمنين في مرحلة من مراحل التاريخ ، وتظلُّ الآيات الكريمة التي أوردناها من سورة هود تصوّر لنا هذا الخطر الذي يحيط بالناس وبالمؤمنين بين حين وآخر ، ويظل هذا الوصف هو النموذج الأقوى ليجلو لنا حقيقة الخطر الذي يتهدّد المؤمنين ، يجلوه في كلمات قليلة وبيان أعلى ، وحياً منزَّلاً من عند الله :

( ... وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ ... )

ولا تنحصر عظمة هذا البيان الربَّاني في ألفاظه الغنيّة وما تحمل من ظلال وجرس وإيجاز ، ولكنها تمتدُّ إلى الحقِّ الذي تعرضه ، والصدق الذي تصوّره لا وهم فيه ولا أساطير . وكم يلجأ الناس إلى الأساطير ليعلو بيانهم قيمة فنيَّة ، أو يدَّعون له جمالاً فنيَّاً مستقى من خرافة الأساطير .

وتمتدُّ عظمة البيان الرباني في هذه الآيات الكريمة إلى ما جمعته في هذه الصياغة من تصوير للخطر وعرض لوسيلة النجاة في الوقت نفسه ، من خلال صياغة فنيّة عالية معجزة . ويظل وصف الخطر ووصف سبيل النجاة هو النموذج لكل حالة ، ليعتبر المؤمنون وليطمئنَّ الصادقون إلى أنَّه مهما ادلهمَّ الخطر وتوالت الفواجع ، فإنَّ باب النجاة مُيسَّر لهم ، يطرقونه ويفتحونه بصدقهم ووفائهم بالعهد الذي أخذه الله عليهم :

( وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) [ المائدة : 7 ]

ومن هنا يتبين لنا الأمر الثاني الذي قد يغفل عنه بعض المسلمين . ذلك أنَّ من المسلمين من ينسى مسؤوليته حين يكون الخطر ، ويغفل عن أنَّ الله سبحانه وتعالى يسَّر للمؤمنين باب النجاة وسبيلها مع كلِّ خطر ، ولكنه جعل مفتاح الباب بيد المؤمنين أنفسهم ، وولوجَه مسؤوليَّتهمْ . ذلك هو محور العهد والميثاق مع الله، والله أعلم بهم .

ينسى بعض المسلمين التكاليف الربَّانيَّة التي وضعها الله في أعناقهم ، والتي سيحاسَبون عليها يوم القيامة بين يدي الله .ينسى بعضهم هذه التكاليف التي فصَّلها المنهاج الرباني ـ قرآناً وسنَّة ولغة عربية ـ وجعلها عبادةً خُلِقوا لها ، وخلافة جُعلتْ لهم ، وأمانةً حملوها ، وعمارةً للأرض بحضارة الإيمان أُمروا بها، من خلال ابتلاء وتمحيص كتبه الله على بني آدم . نسي كثير من المسلمين حقيقة : " المسؤولية الفردية " التي جعلها على كل مسلمٍ مكلَّفٍ في حدود وسعه الصادق لا وسعه الكاذب الموهوم .(1)

من خلال هذه الغفوة ظنَّ بعضهم أنهم ينجون لو نطقوا بالشهادتين ، وادعوا بهما ادعاءً لا يصدّقه الواقع والله أعلم بما في القلوب . وظنَّ آخرون أنهم ينجون لو أخذوا بالشعائر وحدها . وكأنهم فهموا من حديث رسول الله r الذي يرويه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : ( بُني الإسلام على خمس ...) أن معنى " بني الإسلام على خمس " أن الإسلام هو الشهادتان والشعائر ولا تكاليف بعد ذلك . فتركوا الميدان لأعداء الله يجولون فيه ويصولون ليكونوا الخطر الزاحف على المسلمين .

هذا هو الأمر الهام الثاني الذي قد يغفل عنه المسلم ، حين ينسى دوره ومسؤوليته الفرديَّة أمام الأحداث التي تلمُّ بالمسلمين ، فيغفو على صورة من صور الغفوة أو الغفلة أو العجز والتقصير ، فتضطرب مسؤوليّة الأمة كلها ، ويمتدُّ الضعف والهوان .

قد ينسى المسلم مسؤوليته التي يشير إليها الحديث الشريف : " بُنيَ الإسلام على خمس ..." ، حين يفهم الحديث على غير وجهه الصحيح . فالحديث الشريف يبيّن أن الشهادتين وأداء الشعائر من المسؤولية الفردية على كل مسلم ، وأنها هي الأساس الذي تقوم عليه سائر التكاليف في الإسلام ، وسائر تكاليف المسؤولية الفردية . فطلب العلم فريضة على كل مسلم . والعلم أساسه تدبّر منهاج الله ووعيه من أجل ممارسته في الواقع . وتبليغ الدعوة الإسلامية إلى الناس ، ودعوتهم إلى الإيمان والتوحيد ، لإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ، واجب على كل مسلم قادر ، والمساهمة في تحقيق الأهداف الربَّانيَّة الثابتة تكليف من الله لكل مسلم قادر على قدر وسعه وطاقته .

هناك إذن مسؤوليات وتكاليف أخرى غير الشهادتين والشعائر ، إلا أن الإسلام كله والتكاليف كلها تقوم على هذا الأساس المتين : الشهادات والشعائر .

هذا الأساس لا تصحَّ التكاليف كما لا يصحُّ البناء على غير أساس والأساس وحده دون البناء لا يوفّر ما يوفّره البناء من سكن وظل ومأوى من القرِّ والحر . إن الحديث الشريف يكشف لنا عظمة التكامل والتناسق بين جميع التكاليف وقوة الترابط بينهما ، والأساس المتين الذي تقوم عليه .

وفي الوقت نفسه يؤكد الحديث الشريف امتداد المسؤوليات وترابطها ليكون الوفاء بها هو الوفاء بالعهد مع الله ، وليكون هذا الوفاء كله هو سبيل النجاة وبابها ومنطلقها . ولتكون المسؤولية الفردية هي الأساس الذي تقوم عليه مسؤولية الأمة.

وعندما ينطلق المؤمن نفسه والمؤمنون إلى سبيل النجاة أو إلى بابها ، ويطرقونه ليفتحه الله لهم بصدقهم ووفائهم ، فإنَّ الكافرين يظلّون في عماءتهم وضلالهم ، غارقين في أوحال الدنيا ، فينفصل المؤمنون عنهم فكراً ونهجاً وموقفاً وممارسةً ، ويحول بين الفريقين حائل يدفع كل فريق إلى مصيره : فريق المؤمنين إلى النجاة وفريق الكافرين إلى الغرق :

( .... وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ )

" حال بينهما الموج !" صورة فنيّة معجزة لتبيّن انقطاع النداء بين الأب النبيّ الرسول وابنه المصرّ على الكفر ، وانقطاع الرجاء في نجاة من يصرُّ على الكفر . إنها الصورة المعبِّرة عن النموذج المتكرِّر ، حين تحين لحظة المفاصلة بين الإيمان والكفر . وإنها الصورة التي نراها في فرعون وجنوده وهم يغرقون ، وفي ثمود وعاد ومدين والمؤتفكات .

وإذا لم تحدث هذه المفاصلة في لحظتها المناسبة ، فلن ينفتح باب النجاة ، وتُسَدُّ سبيلها ، ويأخذ الله الجميع بعذاب أليم . إنَّ المفاصلة بين الكفر والإيمان بعد تبليغ الدعوة والوفاء بعهد الله ومسؤولياته واستكمال جميع التكاليف الربّانيّة مع الصبر والمثابرة ، وقبل نزول الخطر والعقاب ، ضرورة حتى يفتح الله باب النجاة .

إن تصوير سبيل النجاة في الآيات الكريمة من سورة هود ، وارتباط ذلك بتصوير الخطر وهوله ، رحمة من الله ومغفرة ونعمة سابغة . ولذلك أشرقت هذه الرحمة مع نور الآيات الكريمة :

( وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ )

نعم ! هكذا يأتي التعبير مشرقاً بالأمن والطمأنينة ، والمغفرة والرحمة :

( ... إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ )

وفي كتاب الله تفصيلات واسعة لهذه القضية ، تفصيلات تبيّن متى يحلّ الخطر وينزل العقاب ، ومتى يعمَّ ويمتدُّ ليأخذ الجميع ، ومتى تنجو طائفة المؤمنين . ولنستمع إلى قبسات من آيات الله :

( وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )

 [ الأنفال : 25]

فهذه صورة للحالة التي يعمُّ فيها عقاب الله فيأخذ الجميع ، لأنَّ الصالحين لم يدعوا إلى الله ورسوله ، إلى الإيمان والتوحيد ، ولم ينهوْا عن المنكر ولم يأمروا بالمعروف . ولو فعلوا ذلك ، لفتح الله لهم باب النجاة ومدَّ لهم سبيلها :

( وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ . فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ )

 [ الأعراف : 164-165]

وأما إذا غاب الجميع في متع الدنيا ، وغرتهم زينتها ، وأخذوا يلهثون وراء زخرفها ، فإن الله يمدُّ لهم من متعها ويفتح لهم أبوابها ، ثمَّ يأخذهم العذاب بغتة :

( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) [ الأنعام : 44-45 ]

إن عقاب الله للمجرمين المفسدين في الأرض حقٌّ ، واقع لا محالة في ذلك مهما طال الأمر . وإن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفْلتْه .

ولا ينزل العقاب بقوم مجرمين دون قوم ، ولكن الله يأخذ كل إنسان بذنبه ، كل قوم بعملهم ، فيغفر لمن يشاء ويعذَّب من يشاء ، يعذَّب من أبى النصيحة وأصرَّ على الفتنة والكفر ، وتمادى في ضلاله حتى حَقَّت عليه كلمة الله : فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال قال رسول الله r :

 ( إن الله ليُمْلي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفْلتْه ) [ رواه الشيخان والترمذي ](2)

وقوله سبحانه وتعالى :

( وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ )

 [ هود : 102]

وقوله سبحانه وتعالى :

( فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) [ العنكبوت : 40]

ولا يقبل الله من المؤمن أو المؤمنين أن يسألوا الله النجاة لأحد من الكافرين حين ينزلُ عذاب الله وعقابه . فما قبل الله من نوح عليه السلام أن يسأله نجاة ولده، ولا من إبراهيم عليه السلام أن يسأله المغفرة لوالده ، الذي ظلَّ على شركه.

( وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ . قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ )

وكذلك من إبراهيم عليه السلام واستغفاره لأبيه الذي أصرَّ على الشرك عدواً لله :

( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ) [ التوبة : 114]

وأصبح النهي عاماً بعد ذلك ، ينهى الله المؤمنين أن يطلبوا المغفرة من الله للمشركين ولو كانوا آباءهم وأبناءهم إذا أَصرُّوا على الشرك وماتوا عليه :

( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ) [ التوبة : 113]

إن إصرار الكافر على كفره والمشرك على شركه لا يقف ضرورة عند حدود التصوّر والكلمة العابرة . إن هذا الإصرار يمتدُّ في نتيجته إلى الموقف العمليّ في الحياة والجهد المبذول لنشر الفتنة والفساد في الأرض ، والاعتداء الظالم المستمرّ على المؤمنين .

( كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّاً وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ . اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ )

[ التوبة : 8-10]

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ) [ الأنفال : 36]

إن الكافرين والمشركين يعملون ليل نهار ، يُنفقون أموالهم ، ويُصُبُّون جهودهم ، ويشغلون أوقاتهم بنشر الفتنة والفساد في الأرض ، وبالظلم والعدوان والجرائم المروِّعة المستمرّة ، لا تأخذهم رحمة ولا يرقبون عهداً ، حتى ينتشر الفساد ويظهر في الأرض ، ما دام المؤمنون غافلين عن مسؤولياتهم ، يبخلون عن إنفاق المال والوقت وبذل الجهد في سبيل الله :

( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) [ الروم : 41 ]

إذا تخلى المسلم عن مسؤولياته في تدبّر منهاج الله وطلب العلم فيه ، وعن تبليغ الدعوة الإسلامية للناس كافة ، ونشر الخير والصلاح ، فإنَّ الإثم عليه يأتي من ناحيتين : أولاً : لعدم استجابته لأمر الله وهو قادر على الاستجابة والوفاء . وثانياً : لأنه أعطى الفرصة لأعداء الله كي ينشروا فسادهم وضلالهم . فلن يكون نتيجة ذلك إلا أن يظهر الفساد في البر والبحر ، وأن يظهر المشركون على المسلمين الذين قعدوا ولم ينهضوا للتكاليف الربَّانيَّة كما شرعها الله لهم .

إن نتيجة هذا التخلّي عن التكاليف الربانية أن لا يجد الناس سفينة نوح لينقذهم الله بها ، ولا يجدوا مفتاحَ النجاة يعمل وقد عطَّلوه أو تخلّوا عنه ، ولا يجدوا أبواب النجاة مفتّحة بل مغلقة . وربما تفتّح لهم عندئذ أبواب العذاب ولا يجدون لهم محيصاً عنها . عندئذ لن يجد الناس سبيلاً إلى النجاة إلا التوبة الصادقة لله رب العالمين ، والعودة الصادقة لمنهاج الله عودة منهجية تجمع المؤمنين في الأرض صفاً واحداً كالبنيان المرصوص ، أمة مسلمة واحدة ، لتكون خير أمة أخرجت للناس . وسفينة نوح عليه السلام كانت تحمل الصف المؤمن الواحد الذي صدق التوبة لله فصبر وجاهد .

               

(1) يراجع كتاب : " النظرية العامة للدعوة الإسلامية ـ نهج الدعوة وخطة التربية والبناء " من أجل تعريف الوسع الصادق والوسع الكاذب ، وفي غيره من الكتب للمؤلف .

(2) البخاري : 65/11/5/4686 ، مسلم : 45/15/2583 ، الترمذي : 48/3109