جداريات عنقاء للكاتبة مروى فتحي جرار، رواية مواقف ومشاهد سينمائية

clip_image001_a4a1d.jpg

صدرت رواية جداريات عنقاء للكاتبة مروى فتحي منصور عام 2019 عن مكتبة كل شيء في حيفا.

يتحقق التواصل الدلالي السيميائي بين  عنوان الرواية وغلافها ، فصورة غلاف الرواية من أشكال العنقاء التي تتجسد في لوحات تشكيلية عدة . وصورت بعض اللوحات  طائر العنقاء وهو يحترق ،  وفي لوحات تشكيلية أخرى يخرج طائر العنقاء من الرماد حيا قويا  . وهو طائر خرافي لا وجود له.  ورد ذكره في قصص مغامرات السندباد في ألف ليلة وليلة ، وفي غيرها من الأساطير العربية. والجدارية في الأصل لوحة مرسومة على الجدار أو السقف ، ولا تسمى اللوحة جدارية إلا إذا كان حجمها واسعا ، ويشترط فيها انسجام العناصر الفنية التي تتشكل منها .وقد تحقق الانسجام بين العناصر البنائية في الرواية في معظم المواضع.

يرد لفظ العنقاء في مواضع عدة في الرواية ، وبخاصة في المواضع التي تتجلى فيها  الإرادة والعنفوان بعد مشاهد من التحدي والمعاناة ، فكل امرأة في الرواية هي عنقاء استطاعت أن تولد من جديد مجتازة  العقبات والتحديات . فالعنقاء في الرواية تحترق وتتحول إلى رماد ثم تولد من جديد فإن النساء المعنفات لا ينهزمن ولا يمتن ، وإنما يحترقن وجدانيا وعصبيا ، فالاحتراق  بالنار في أسطورة العنقاء يناظره احتراق داخلي ناجم عن لهيب قلب عاشق أو حرارة قهر  وظلم ، أو رغبة جسدية ملتهبة ، أو احتراق قلب امرأة فقدت القدرة على الشعور بالأمومة. وتمثل الشخصية المحورية "لوليانة" العنقاء الكبرى التي تحترق جسديا ونفسيا وفكريا ثم تنهض من رمادها لتواصل التشبث بالحياة والحب والحلم ، والشخصيات النسوية الأخرى عنقاوات يجسدن مواقف التحدي ، تتحول هزيمتهن إلى عنفوان .

يبدو الإهداء في ظاهره شخصيا ، ولكنه يحمل دلالات مضمرة تنسجم مع رسالة الرواية وغايتها . واللافت أن الكاتبة أهدت الرواية إلى قطبي الصراع ..إلى الطيبين المعذبين وإلى الطغاة أيضا ، ففي قولها :( إلى كل متجبر طاغ ظن أنه بطمس الناطقين بالحق ...... هي أول الغيث والعاصفة قادمة ، ومصير فرعون آتيك ، أعدك)  يتجلى التحدي واليقين بالخلاص في الإهداء الذي يتحول من مساره الذاتي إلى مسار جمعي تلخص فيه الكاتبة هدف الرواية وغايتها .

يتشكل أفق توقع القارئ  لأحداث الرواية من الصفحة التي تلي الإهداء  لأنها تختزل دلالة مبأرة لمضمون الرواية إلى حد كبير . ففي الفقرة اختناق وغصة ، وفيها النسيم العليل ، ونبض القلب ، وهما دلالتان تشيران إلى انتصار الحق على الباطل . وإعادة تشكيل منظومة القيم بما يحقق المحبة والعدالة والحرية والسلام.

تقدم الكاتبة شخصيات روايتها بمشاهد منفصلة متباعدة ، وكأنها تريد أن تقول  إن القضية التي تمثلها الشخصية هي قضية مستمرة ، وليست  حادثة عابرة سرعان ما تنتهي . وتهتم الكاتبة بالبعد النفسي  أكثر من اهتمامها بالبعد المادي الجسمي كما في رسم شخصية لوليانة. وتعمد الكاتبة إلى تقديم الشخصية بضمير الغائب في مساحة سردية طويلة دون ذكر الاسم . وأحيانا يكتفي العرض السردي بالتعرف على الشخصية من خلال صفاتها أو مواقفها . وتظهر بعض الشخصيات مرة واحدة ثم تختفي (ربيع ، جابر ، رائد ، نصر ، شريفة ، ساجدة ، محمود أخ سمر ) 

تكاد الرواية لا تغفل نوعا من أنواع الشخصيات التي نعرفها أو نسمع عنها في واقع الحياة ، فشخصياتها نماذج لأناس يعيشون بيننا ، ومنها شخصية( لوليانة) وهي الشخصية المتمردة المعذبة المنطلقة للحياة المتفائلة المحبطة،  وهي شخصية محورية تدور الشخصيات كلها في محورها ، ولوليانة شخصية مركبة مكثفة تجسد الثنائيات الضدية؛  التألق والإحباط ، والأنوثة  والحرمان ، التحدي والانكسار ، السمو والسقوط ، الدفاع عن المبادئ والفساد ، هكذا تبدو لوليانه من بداية الرواية حتى نهايتها ، كلما انكسرت تنتصر ،  هي العنقاء بكل دلالاتها المجازية.

والشخصية الانفصامية الانتهازية التي تجسدها شخصية(وليد) الطبيب النفسي  الذي ينام بعد تناول الدواء المهدئ وشرب زجاجة كحول . والشخصية المكافحة المنتجة أو المرأة الحديدية كما تصفها الرواية  (سمر صاحبة صالون التجميل التي كانت أسيرة وتخلى عنها زوجها وهاجر إلى النرويج  ) . والشخصية الضحية  (زينة) التي اتهمت بالإجهاض في حين أن العملية الجراحية التي أجرتها كانت استئصال المرارة ، وأن الإجهاض كان لإحدى بنات مسؤول متنفذ  . والشخصية الثرية اللاأخلاقية (أبو العبد).والشخصية المسحوقة (هديل) أخت وليد التي فقدت عذريتها في مرحلة  الطفولة  .

ليس من السهل تحديد تيار واحد  لهذه الرواية ؛ لأنها تجمع بين الخطاب الاجتماعي المثقل بالخيبة ، والخطاب السياسي المثقل بالانكسار والفساد . كما أن الرواية تحفل بالمشاهد والوقائع التاريخية ، فالرواية ليست اجتماعية أو سياسية أو تاريخية وحسب ، وإنما هي رواية مواقف ومشاهد تبدو في ظاهرها متفرقة ، ولكنها مجتمعة بشبكة من الخيوط النفسية والخلايا الثقافية . ولو قلنا إن الرواية رواية شخصية فإن معظم أحداث الرواية يعزز خصائص الرواية الشخصية لأنها تصور واقعا إنسانيا سوداويا في الغالب بهدف الكشف عن عورات المجتمع للخروج من السوداوية إلى آفاق جديدة مشرقة.

كيف يمكن إيجاد علاقة دلالية نفسية بين أحداث الرواية والاقتباسات النثرية والشعرية التي جاءت بديلا لعناوين أجزاء الرواية؟ .

عمدت الكاتبة إلى توظيف الاقتباسات بدلا من العناوين الفرعية المألوفة . ويعد هذا التوظيف فتحا جديدا في أسلوب العرض الروائي. ويفضي الربط بين دلالة الاقتباس ومضمون الجزء المرتبط بالاقتباس إلى اكتشاف علاقة دلالية ووشائج نفسية بين الاقتباس والنص الروائي ، لأن الاقتباسات هي الأعصاب الدلالية النابضة في ثقافة الكاتبة ، وهي عصارة الشعور الذي في أثناء كتابة الرواية .

يتجلى في غير موضع الكشف المبكر عن البعد النفسي للشخصيات . ولم تترك الكاتبة مجالا للقارئ كي يكتشف البعد النفسي ، فالكاتبة سارد كلي المعرفة ، لا تكتفي بالوصف الخارجي جسديا ونفسيا في تصوير الشخصية ، وإنما تغوص في أعماق الشخصية لتخبر القارئ بما تفكر الشخصية .

الكاتبة مولعة بالتشبيهات في معظم الرواية ، ويتعدد المشبه به ويبقى المشبه واحدا في مواضع عدة . ولا خلاف في أن التصوير ولغة الشعر في الرواية مطلب فني بنائي ؛لأن الشعر والسرد لغة التعبير الإنساني لا يمكن فصلهما وفق الأجناس الأدبية ، ولكن ينبغي أن تكون الصورة الفنية سلسلة شفافة تثير الخيال وتدهش القلب . وقد تحققت هذه السمة في مواضع ولم تتحقق في مواضع أخرى .

يتفق النقاد  والدارسون  على  وجود علاقة  بين الرواية والسينما . فالكاتبة في مواضع كثيرة تبدو مخرجة سينمائية بمقدار كونها كاتبة روائية  من حيث تكسر الزمن ، وعرض أحداث الرواية وفق مشاهد تبدو منفصلة ولكنها متصلة عضويا ونفسها ، فالقارئ يشعر أنه يشاهد مقاطع سينمائية  أكثر من شعوره بقراءة رواية تنمو أحداثها وفق نظام زمني ينمو من الماضي إلى الحاضر ومن الحاضر إلى المستقبل ، فالزمن في هذه الرواية متكسر متقطع ، ينتقل من الحاضر إلى الماضي ، ويبدو زمن الأحداث في بعض المواضع متوقفا ساكنا حينما تلجأ الكاتبة إلى المونولوج الداخلي ، وفي مواضع أخرى تتجلى قفزات زمنية ، وهذا شأن الأفلام السينمائية المعاصرة التي تحتاج إلى مضاعفة اليقظة لدى القارئ .

تحفل الرواية بدور مواقع التواصل الاجتماعي (الفيس بوك) في المجالات العاطفية والسياسية . وتقف الرواية مطولا عند إضراب المعلمين والحشود في ميدان محمود درويش ومحاولة أجهزة السلطة منع المعلمين من الوصول للاعتصام المركزي  . وترصد مشاهد من الخيانة الزوجية .  وتعرض لثنائية الجسد والروح . والمتعة المؤقتة الزائلة والحب المشرق قلبا وروحا . والحنين إلى الأمومة . واغتراب الأزياء . والغزو الثقافي من خلال المؤسسات الدولية usaid  ، ومنظمات ngos  . وصورة المخيم بين البؤس والرمز . والشعور بالاشمئزاز  بين الرجل والمرأة في العلاقة الزوجية . وتأثير البيئة على السلوك وكأن المذنب ضحية مجتمع .ومشكلة الأخوة في الرضاعة. وتشير إلى قضايا خطيرة بعبارات أو سطور قليلة نحو قضية تعطيل المجلس التشريعي . والتستر بالدين .

تطرح الرواية بجرأة نادرة لبعض المخرجات السلبية لثقافة أوسلو ، نحو الفساد السياسي .  والمبالغ المالية المهولة المخصصة لسفر المسؤولين. وتنتقد شريحة المتنفذين ، و فساد بعض القضاة .وتشير إلى  إشكالية التطبيع الثقافي والاقتصادي.

أعتقد أن من بواعث الخطاب السردي في هذه الرواية التصدي لتسلط الثقافة الذكورية ، ولكن لا يمكن وضع الرجال في سلة واحدة . صحيح أن الفكر الذكوري ما زال متسلطا في تفاصيل الحياة الاجتماعية ، ومتحكما في العادات والتقاليد ، وسيدا في الخطاب الديني . وأكاد أجزم أن الرواية تخلو من شخصية رجل محترم بالمطلق ، لا وجود لرجل مظلوم ، لا وجود لرجل ضحية ، كل الرجال في الرواية أنصاف محترمين – إن جاز التعبير- ، ولكن الرجل الفاسد هو ضحية  الخيبة والإحباط والكبت والقهر.

هل تضمنت الرواية فكريا نقديا روائيا؟

يتجلى الفكر النقدي الروائي في حديث الأستاذة الجامعية الروائية التي لم تنشر كتابا معللة أن (الرواية التي  تحشد لك المعلومات التي تمت مطالعتها مؤخرا هي ليست رواية) . و(قصيدة النثر الحديثة لا تجمعك بل تبعثرك).

وسوم: العدد 851