نزار سرطاوي مُتَرجِمًا ومُقدِّمًا ومُقَرِّظًا كتابَ "المُنعَتِق" لناجي نعمان

إعادةٌ لِكِتابة أُسطورة الخَلق

clip_image002_065a4.jpg

clip_image004_7e9d4.jpg

نزار سرطاوي

clip_image006_d4616.jpg

ناجي نعمان

صدرت عن مؤسَّسة الثَّقافة بالمجَّان التَّرجمةُ الإنكليزيَّةُ لكتاب "المُنعَتِق" للأديب ناجي نَعمان. وكان الكتابُ نُشِرَ بالعربيَّة للمرَّة الأولى في العام 1997، وبالرُّومانيَّة (Emancipatul) في العام 2002، فيما نُشرَت منه إلى الآن مُنتَخباتٌ في إحدى وخمسين لغةً ولهجةً.

حملَت التَّرجمةُ الإنكليزيَّةُ عُنوانَ (The Emancipated)، وقد حقَّقَها الشَّاعرُ والمُتَرجمُ الفلسطينيُّ الأردنِّيُّ نزار سرطاوي الَّذي قدَّمَ الكِتابَ أيضًا وقَرَّظَه، فيما صَمَّمَ الغلافَ المُهندسُ والتَّشكيليُّ اللبنانيُّ نبيل رستم.

ويُمثِّلُ هذا الإصدارُ، بعد "الفِكرُ مُهَرولاً" لناجي نَعمان، و"قراءاتٌ في ناجي نعمان" للدُّكتور إميل كَبا، الكتابَ الثَّالثَ مِن خُماسيَّةِ كُتُبٍ تصدرُ لنَعمان، أو فيه، أو تُتَرجَمُ عن أعمالٍ له، تصدُرُ في الذِّكرى الخَمسين لِمِشواره مع القَلَمِ والأَلَم (1969-2019)، والذِّكرى الأربعين لتأسيس دار نَعمان للثَّقافة (1979-2019)، والذِّكرى الخامسة والعِشرين لرَحيل والده الأديب والشَّاعِر مِتري نَعمان (1994-2019).

***

كتبَ نزار سرطاوي مُقَدِّمًا الكتابَ تحت عُنوان "المُنعَتِق: إعادةٌ لكِتابة أُسطورة الخَلق" الآتي:

 

المخيِّلة في الواقع ليست سوى شكلٍ من أشكال الذَّاكرة، مُنعَتِقٍ من نظام الزَّمان والمكان.

صموئيل تايلور كولرِدجالحياة الأدبيَّة

 

يُعَدَّ المُنعَتِق واحدَا من الأعمال الأولى لناجي نَعمان الَّتي كرَّسَته مفكِّرًا. فهذا الكتاب، الَّذي سطَّره ناجي ما بين عامَي 1995 و1997،  يُقدِّم أحد المبادئ الأساسيَّة لرؤيته الكونيَّة، أي فَهمِه الكونَ: كيف بدأ، وإلى أين يتَّجه، وكيف سيَنتهي. وبهذا المعنى، فإن المُنعَتِق يتعاملُ مع مَوضوعاتٍ كونيَّةٍ تتعلَّقُ بالخَلق وبالإنسان ودوره على الأرض. وهذه مَوضوعاتٌ عُنيَ بها الفلاسفةُ والأنبياءُ عبرَ التَّاريخ.

ولم يتركْ ناجي مساحةً كبيرةً للآخرين لتفسير أو تحليل كتابه. فهو يُخبرنا في "التَّوطِئَة" أنَّ فكرة الكتاب موضَّحة في مَكانَين: "المقدِّمة" والفصل الأخير الَّذي يحملُ عنوانَ "حولَ الانعتِاق ومفهومه"، والَّذي يُمكنُ اعتبارُه كلمةً خِتاميَّة للكتاب.

ولعلَّ ناجي لم يُرِدْ أن يتركَ في ذهن القارئ أيَّ التِباسٍ حولَ مَقاصده. ومع ذلك، فإنَّ لديَّ، بوَصفي مُتَرجِمَا، نظرتي الخاصَّة في هذا الشَّأن. فقراءتي الشَّاملة للكتاب جعلَتني قريبَا منه إلى حدِّ أنِّي لا أستطيعُ أن أدَّعي أنِّي بقيتُ على الحياد بشأن المَوضوعات والأفكار الَّتي يقدِّمُها، أو الحَبكات الَّتي تتمثَّلُ من خلالها هذه المَوضوعات والأفكار، أو الشَّخصيَّات الَّتي تبسطُ الحَبكاتِ الرِّوائيَّةَ وتمنحُها مساحةً أكبر، وتحوِّلُ المَوضوعاتِ والأفكارَ أدوارًا. وعلى نَحوٍ أو على آخَر، نشأَتْ بيني وبين المُنعَتِق علاقةٌ خاصَّةٌ فيما كنتُ أتنقَّلُ بين الحلقاتِ المختلِفةِ الَّتي تُشكِّلُ جُزءَه الأوَّل، "العائِد"، وأحداثِ جُزئِه الثَّاني، "الشَّريف".

وأضافَ سرطاوي: لقد وقفتُ مشدوهًا إزاءَ هذا البطل غير العادي بصُوَرِهِ المتعدِّدة، وهو يتنقَّلُ من شكلٍ إلى آخَرَ من أشكال الوجود في كلِّ حَلقة، في إطارٍ زمنيٍّ ومكانيٍّ جديد، مُتَّخِذَّا شخصيَّةً مختلِفةً يتعذَّرُ التَّنَبُّؤُ بها. فيتحوَّلُ حيوانًا (الثَّور، الحمامة، إلخ)، أو كائِنًا بشريًّا (اللِص، الشَّاعر، إلخ)، أو جَمادًا (العَظْمة، الذَّرَّة، إلخ)، أو مُجرَّدَ فِكرة (القصيدة، اللَحن، إلخ). والمؤلِّفُ، بطبيعة الحال، يتركُنا في العَتمة في ما يتعلَّقُ بكيفيَّة حدوث التَّحوُّل من صورةٍ إلى أخرى. لكنَّنا نعلمُ أنَّنا نستمعُ إلى صوت بطلٍ واحدٍ يتحدَّث دائمًا بصيغة المُتكلِّم.

غيرَ أنَّ النَّظرةَ الفاحِصَةَ هذه الحلقاتِ وكيف تَتَسلسَل، وكيف تبدأُ وتنتهي، يطرحُ السُّؤالَ: هل كان ناجي في كتابته المُنعَتِق، يُعيدُ كتابةَ أسطورة الخَلق؟ حين ندقِّقُ في الحَلقات، نجدُ أنَّ لكلٍّ منها، باستِثناء السِّتِّ الأُوَل وتلكَ الأخيرة، زمنُها ومكانُها الخاصَّان بها. وعلى سبيل المِثال، فإنَّ حلقةَ "الطَّائِع" تحدثُ في عَهْد تْسين شِه هُوَنْغْ تي في الصِّين، وحلقةَ "الثَّور"  تحدثُ في زَمَنِ الإِجرام المُنَظَّم في مدينة شيكاغو بالولايات المتَّحدة الأَمِريكيَّة. وأمَّا بالنِّسبة إلى الحَلقات السِّتِّ الأُوَل، فتحدثُ "قبلَ تحديد المكان وتَدوين الزَّمان". والاستِثناءُ الوحيدُ هو الحلقةُ الأولى، وعنوانُها "ألباقي"، الَّتي تأتي "حيثُ لا تحديدَ لمكانٍ أو تَدوينَ لزمان". ومن الجدير بالملاحظة أنَّ الحلقةَ الأخيرة، والَّتي تحملُ عنوانَ الجُزء الأوَّل من المنعتق، تأتي هي الأخرى على نَسَق الحلقة الأولى في ما يتعلَّقُ بالزَّمان والمكان.

          ووجدَ سرطاوي أنَّ عناصرَ أسطورة الخَلق تتوفَّرُ على نحوٍ مَنهجيٍّ في "العائِد" في ثلاث مراحل:

أوَّلاً مرحلة ما قبل الخَلق، حيث الكونُ في حالةٍ غيرِ محدَّدة،  كما تَشي بذلك كلماتُ الباقي: "... وبَقِيتُ في القُوَّة، لا مكانَ لي ولا زمان، لا مَحسوسًا ولا مُدرَكًا".

ثانيًا، تبدأ عمليَّة الخَلق بالنُّور ثمَّ بالنَّسمة الَّتي تشيرُ بوضوحٍ إلى الرُّوح، يَليها الجنسُ البشريُّ في حالته البدائيَّة، ممثَّلاً بـ "الأمّ" و"الخائف"؛ ثمَّ تأتي عَيِّناتٌ من الحياة والطَّبيعة على الأرض كما نعرفُها، واحدةً تلوَ الأخرى.

وأخيرًا، تُكمِلُ الأسطورةُ دائرةً كاملة، فيعودُ الكونُ إلى حالته السَّابقة على الخَلق، مع عودة البطل إلى القوَّة، "حيث لا تحديدَ لمكانٍ أو تدوينَ لزمان". وهذه المرحلة الأخيرة تُمثِّل العنصر الرُّؤيويَّ، أو النَّبَويَّ، الَّذي يَتنبَّأُ بنهاية العالم، مع أنَّ نَعمان لا يُخبرُنا كيف يحدثُ ذلك.

***

 

ويُمكنُ بحَسَب نزار سرطاوي اعتِبارُ الجزء الثَّاني، "الشَّريف"، حكايةً موسَّعةً توضحُ فكرةَ الانعِتاق عندَ المؤلِّف:

يَتولَّى الشَّريف، وهو نفسه ابنُ ملك، إدارةَ شؤون بلاده الَّتي تُدعى أرض الماء والكلإ، وذلك بعد اغتيال والده على يد الغُزاة. وفي فترة حكمه، يُنقذُ الشَّريفُ مملكتَه مرَّتين: أوَّلاً من الغُزاة، ثمَّ من الصِّراعات السياسيَّة الدَّاخليَّة. وفي الخِتام يَمضي إلى صومَعَته الَّتي تُشبهُ الخلوةَ البوذيَّةَ، حيث يموتُ في سلام.

ويأتي تقديمُ الشَّريف على صورة نبيٍّ تجدُ تعاليمُه وسيلةً للتَّعبير عن نفسها من خلال أفعاله بدلاً من النُّصوص المقدَّسة، وذلك على عكس الأنبياء. وعلى الرَّغم من أنَّه يضعُ نظريَّةً تستندُ إلى ثلاثة مبادئ: "أنسَنَة خلال الحَياة، واندِماج عندَ المَوْت، وانعِتاق ذاتيّ في الحَياة، ومن المَوْت"، إلاَّ أنَّه يُضرمُ النَّارَ في ما دَوَّنه، مُدرِكًا أنَّ عليه أن يكتفيَ "بالانعِتاق شخصيًّا".

ويجدُ سرطاوي أنَّ أحدَ الجوانب المُثيرة للاهتِمام في الجُزء الثَّاني، "الشَّريف"، ما يربطُه في كيفيَّة ترتيب الزَّمان والمكان بالجُزء الأوَّل من المُنعَتِق، وما يَجعلُه، في الوقت عَينه، مُختلِفًا عنه: " إِنْصَدَعَ الفَجْرُ في اللازَمان واللامَكان، ووَسْطَ الزَمَكان". وهذا يذكِّرُنا بالملاحظات التمهيديَّة المتعلِّقة بالمكان والزمان في الحلقات السِّتِّ الأُوَل من "العائِد". ومع ذلك، فإنَّ الزَّمان والمكان في عالم الشَّريف يختلفان عن الزَّمان والمكان الدُّنيَوِيَّين المُحَدَّدَين في كلِّ الحَلقات ابتداءً من السَّابعة، "الرَّقم". ففي عالم الشَّريف، تتكوَّنُ وحدات الزَّمن من أيَّامٍ وأسابيعَ وفُصولٍ وأعوام (الأشهرُ ليست جُزءًا من التَّقويم)، إلاَّ أنَّ طولَها يختلفُ عَمَّا يُقابلُها في "العائِد"، من الوحدات الزَّمنيَّة الخاصَّة بنا. وعلاوةً على ذلك، يبدأ التَّقويمُ من "عام البُركان". فثَوَرانُ البركان هو حدثٌ عظيمٌ يُمكنُ اعتبارُه مُعادلاً أسطورةَ الفيضان في سِفر التَّكوين. إذًا، فالجُزء الثَّاني، "الشَّريف"، يستعرضُ الحياة الكاملة للإنسان المُنعَتِق حقًّا، لكنَّ هذا الإنسان لا يَنتمي إلى عالمنا.

***

ويخلُصُ نزار سرطاوي إلى أنَّ ناجي نَعمان، كاتبٌ ومُفكِّرٌ غزيرُ الإنتاج، ويمارسُ كتابةَ الخَواطر النَّثريَّة أيضًا، رافِضًا أن يُسَمَّى شاعِرًا، مع أنَّه حازَ جائزةَ الشِّعر العالميَّة الكبرى من رومانيا في العام 2002. وقد تُرجِمتْ مُقتَطفاتٌ أو مُختاراتٌ من أعماله إلى أكثرَ من 50 لغةً ولَهجة، ممَّا يجعلُه مؤلِّفًا عالميًّا. ومع ذلك، يرتبطُ اسمُ ناجي إلى حدٍّ كبيرٍ في أذهان معظم النَّاس بالجوائز الَّتي يحملُها هذا الاسم، أي جوائز ناجي نعمان الأدبيَّة. والكثيرُ من الكُتَّاب، بمَن فيهم الشُّعراء والرِّوائِيُّون وكتَّاب القصَّة القصيرة والكُتَّاب المَسرحيُّون من أربعة أصقاع الأرض يُرسلون بأعمالهم إلى داره ومؤسَّسته كلَّ عام، إمَّا على نَحوٍ مُباشَر أو من طريق التَّرشيح، على أمل أن يتمَّ اختيارُهم لإحدى الجوائز. ويفوز العشرات من هؤلاء الكُتَّاب بواحدة أو أخرى من الجوائز، ويجري نشرُ مُختارات من أعمالهم في كِتاب الجوائز السنوي.

وبالتَّالي، يُمكنُ القَولُ إنَّ جوائزَ ناجي نعمان الأدبيَّة، وأنشِطَتَه الثَّقافيَّةَ المجَّانيَّةَ الكثيرة، قد طَغَتْ جُزئيًّا على الجانب الإبداعيِّ في حياته. لكنْ يَبدو أنَّ ناجي لا يهتمُّ لذلك. فالأهمُّ بالنِّسبة إليه هو التَّواصلُ الإنسانيّ. والأفكارُ والمُثُلُ العُليا الَّتي يَتَبنَّاها، كالانعِتاق والأنسَنَة والاندِماج، ليست مجرَّدَ نظريَّاٍت أو فرضيَّات يغرقُ فيها أو يختبئُ وراءها، بل مبادئُ توجِّهُه في حياته باعتِباره "مفكِّرًا إنسانيًّا وكاتبًا ومُروِّجَ ثقافة" كرَّسَ نفسه وجَنى تَعَبِه لما هو به شغوف، وهو "الثَّقافة بالمَجَّان"، حتى لُقّب بمجنون الثقافة بالمَجّان.

***

كما يخلُصُ إلى أنَّه، في الرِّوايات والقصص والحكايات وما شابهها من الأشكال الأدبية، كثيرًا ما يخلقُ الكاتب بطله أو بطلته على صورته، سواء أفعل ذلك عن وعيٍ منه أو غير وعي. وعلى سبيل المثال فإنَّ دون كيخوته، الفارسَ ذا الوجه الحزين، هو في كثير من الجوانب انعكاسٌ لـ سيرفانتس. وبالمِثل، فإنَّه يُنسبُ إلى فلوبير أنَّه قال عن أشهر بطلاته: "مدام بوفاري، تلك هي أنا". ولعلَّ في وُسْعِنا أن ننظرَ إلى ناجي والمُنعَتِق من هذه الزَّاوية.  

إنَّ المُنعَتِق عملٌ أدبيٌّ يُعالجُ مَوضوعاتٍ كونيَّةً، كما أنَّه يَزخَرُ بالأبعاد الذَّاتيَّة. ولعلَّه واحدٌ من تلك الأعمال الَّتي تكون بمَثابة مرآةٍ يحلمُ المؤلِّفُ أنْ يرى نفسَه فيها. وإذا كانت كلُّ تلك الأشكال لبطل الرِّواية الَّذي تتغيَّرُ صورتُه باستِمرارٍ في "العائِد" هي عناصرُ مُمكِنَةٌ للنَّفس البشريَّة، فيُمكنُ تصوُّرُ الشَّريف بأنَّه الإنسانُ المِثاليُّ أو البطلُ بالنِّسبة إلى ناجي – الرَّجلُ الَّذي ينظرُ إليه بإعجابٍ كبير، إنْ لم يَكنِ الشَّخصَ الَّذي يتمنَّى أنْ يكون. أم أنّ بإمكاننا أنّ نخْلُصَ إلى أنّ الشريف هو ناجي نَعمان بعَينه؟

وسوم: العدد 853