الظاهرة الأدبية (5) في ضوء نظرية المعرفة القرآنية

ومن النصوص والشواهد التي تكلمت عن القلب في القرآن الكريم نقتطف الآيات الكريمة التالية:

أ.قال تعالى:

1.{أفلم يسيروا في الأرض فتكونَ لهم قلوب يعقلون بها... فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} [الحج: 46].

2.{لهم قلوب لا يفقهون بها} [الأعراف: 179].

3.{وطبع على قلوبهم فهم لا يعلمون} [التوبة: 93].

4.{ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} [البقرة: 225].

5.{وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به، ولكن ما تعمدت قلوبكم} [الأحزاب: 5].

6.{ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم} [غافر: 80].

7.{وحصّل ما في الصدور} [العاديات: 10].

ب.ومن الأحاديث الشريفة نقتطف هذه المجموعة من أقواله صلى الله عليه وسلم:

1.\"إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب\" (2).

2.\"استفت قلبك وإن أفتاك الناس\" (3).

3.\"الإثم ما حاك في الصدر وكرهت أن يطّلع عليه الناس\" (4).

4.\"التقوى ها هنا\" (5) وأشار إلى القلب.

هذه الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة تكشف لنا خطر مملكة القلب وأهميتها ومكوناتها: فهو مستودع الفطرة، التي تحمل خصائص الإنسان، وهو الشاشة الحساسة التي تستقبل جميع إرساليات الشخصية من حاجاتها العضوية والفكرية والروحية، وعلى شاشته تتواجد جميع ألوان الشعور والأهواء والعواطف والرغبات والحاجات والنوايا والمقاصد التي تمثل الموقف والإرادة والاختيار تحت إشراف الفكر وإرشاده.

وفيه تكمن القيمة الحقيقية للأشياء عند الإنسان لأن علمه يظهر على شكل مشاعر وإرادة واختيار تكشف البواعث والنوايا والتوجه الحقيقي الذي ارتضاه هذا الإنسان بعيداً عن ضغوط الواقع وإغراء المصالح.

وقد ربط الإسلام الأعمال بسببها الحقيقي وباعثها في القلب \"إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى\" (6)، ويحاسب الإنسان عند الله على ما استقر في قلبه من مواقف واختيار ونوايا وبواعث، لأنها تمثل وتفسر أفعاله وأقواله ومواقفه. فقال تعالى: {وحصّل ما في الصدور} [العاديات: 10].

وهو منطقة مقفلة سرية لا يملك أحد مفاتيحها إلا خالقها وصاحبها، لأن الله سبحانه وتعالى جعله الحصن الأول والأخير لحرية الإنسان وعلامة تكريمه، حتى يختار موقفه بحرية تامة، دون أن تتحكم فيه العوامل الخارجية من ظلم وأحداث وضغوط، ومنه يبدأ الإنسان مواجهة الظلم معتمداً على ما فيه من رصيد الموقف، ومنه تبدأ عملية التغيير نحو الهزيمة أو النصر {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} [الرعد: 11].

والقلب أيضاً هو مركز الشعور بالجمال والقبح والزمان والمكان والإثم والفضيلة والحق والباطل، والممكن والمستحيل.

والأهم من ذلك كله، هو أن ندرك وظيفة القلب في عملية المعرفة، كيف تتم وكيف يكون مسارها؟ فقد وصفته الآيات الكريمة بأنه هو الذي (يعقل ويعلم ويفقه).

ونظن أن ذلك يتم من خلال قبوله لعلم الدماغ وفكره وإرشاداته أو رفضه لها، لأن الدماغ والحواس تشكل بوابة لعلم القلب عن الواقع الخارجي، وهذا القلب هو الذي يختار الموقف من الأشياء فيميل إليها أو يميل عنها، قال تعالى: {ولكن ما تعمدت قلوبكم} [الأحزاب: 5].

ويكون ذلك عندما تطرح عليها حقائق الفكر والدماغ وجهودهما في الإدراك والفهم، فيدرك القلب وجه المصلحة والإشباع لذاته وفطرته من هذه الحقائق، فيصدر موقفاً شعوريّاً يبين قيمة هذه الحقائق في ضوء المصلحة والإشباع الفطري لذاته وحاجاته.

أما قلب المسلم فالأصل فيه أن يعدل من رغباته لتخضع إلى تعلم الحق من حقائق الدماغ، ويسترشد بها في إشباع فطرته من خلال الخضوع لمنهج الحق، قال صلى الله عليه وسلم: \"لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به\" (7)، ويرتقي في هذا الاتجاه.

وأما قلب الكافر فهو كما وصفته الآية الكريمة بصيغة الجمع {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها} [الحج: 46]. لأنها تتعلق بتعلم الإشباع من حقائق الدماغ والفكر، ولا يهمها تعلم الحق، بل يلح عليها الإشباع الغريزي دون منهج أو نظام من الحق، لأن لهفتها إلى هذا الإشباع تعميها عن البحث في الحق، بل هو ليس من أهدافها، ولذلك فقلوبهم لا تنتفع كثيراً من حقائق الفكر، بل تحاول أن تحرف تفكير الدماغ وجهوده لخدمة هواجس نفوسهم وإشباع رغباتها، قال تعالى: {وكانوا لا يستطيعون سمعاً} [الكهف: 101].

فوظيفة التفكير عند الكافر محصورة في تحقيق الإشباع والبحث عن طرقه ووسائله، وهذا هو نهاية المطاف عنده، وقد وصفتهم آية أخرى في قوله تعالى: {إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً} [الفرقان: 44].

وصفة قصر الحياة على الإشباع الغريزي واضحة في سلوك الحيوان بشكل جلي، وهذا هو سبب عقد المقارنة بين الأنعام والكفار.

وتكشف آية أخرى علمهم من الحياة الذي أوقعهم في هذا السلوك، في قوله تعالى: {يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون} [الروم: 7].

لأن الكافر يبحث عن الإشباع ويقصر الحياة عليه ويفكر من أجله، ويخضع لضغطه، ولذلك فاندفاعه في الإشباع يشبه اندفاع الأنعام والبهائم نحو حاجاتها، لأنه يخضع (للدوافع) الغريزية والحاجات العضوية دون هدي من عقيدة أو ضابط من شرع، ولذلك يمتاز سلوكه بالاندفاع والتهور وعدم الاتزان والتقلب، وتأتي الصورة الأخرى وهي صورة المؤمن بسلوكه في الإشباع.

وهي صورة الإنسان الذي يملك عقيدة تحدد له مقصد وجوده في الحياة، وتشرف على تهذيب (الدوافع) الغريزية والحاجات العضوية حتى ترتقي إلى مرحلة جديدة تتحول فيها دوافعه إلى (ميول). والميول هي دوافع محكومة بالخضوع لضوابط العقيدة وأحكام الشرع، لذلك يتحول اندفاعه إلى (ميول) هادئة مسترشدة بالحق تمتاز بالحكمة والاتزان والثبات (8).

*(عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية )

وسوم: العدد 853