مفهوم الكتابة بين الإبداع والتصور

الكتابة هي فعل إبداع وخلق، وهي عملية ذهنية وروحية وجسدية تحتاج إلى مهارة وقدرة وعبقرية، وطقوس، وأجواء لترجمة الرؤى، والأفكار، والطموحات، والأحلام إلى لغة جارفة . لذلك عرفها القلقشندي بأنها لغة. فيماعرفها ابن الأعرابي بأنها علم من العلوم فيما اعتبرها صاحب المقدمة ابن خلدون من عداد الصنائع الإنسانية الدالة على مافي النفس.

فالكتابة تعد مجالا خصبا للإبداع، وهي تحتاج إضافة إلى الموهبة تحتاج الى المقروء والخبرة، والتضحية لأنها تشبه الشمعة التي في فعل الاحتراق تأتي على نفسها بالنار  لكي تضيء لنا الطريق والكون، والذات والآخر، باعتبارها فعل تنوير وفعل إضاءة وفعل تغيير، وإعادة ترتيب للأشياء،  والتصورات، والكون .فأي نوع من الكتابة هذه التي تخلق الوعي وتؤجج العواطف ، وتغير من منطق الإنسان، وموقفه، وسلوكه وتغني متخيله، وتسافر بروحه ووجدانه وعقله؟فهل هي تلك الكتابة التي وصفها ابن منظور بضم الحروف إلى الألفاظ ، والألفاظ إلى أمثالها أم هي كيفية اختيار المعاني والحروف ، والألفاظ لما يخدم المعنى ويجمله في عقل وروح المتلقي؟

إن الكتابة كما يرى جون بول سارتر صاحب "ما الأدب" تحتاج إلى قارئ ماهر لأن به تكتمل؛ ومثلما تختلف درجات الكتابة من كاتب لآخر، تختلف درجات القراءة من قارئ لآخرحسب ذوقه ، وقدرات وعيه، وفهمه لما يقرأ. فقد تقوم القراءة النص، وتضيف إليه ما ينقصه ويحتاج إليه وتغنيه، وقد تنقص منه، بل أكثر من ذلك قد تعيث في فسادا كالناقة العمياء، وتطفئ ما تبقى من نوره  وجماله. فالقارئ قد تبقى قراءته تعوم على السطح وقد تغوص إلى العمق والجوهر .فالكتابة والقراءة وجهان لعملة واحدة .لأنه لا يمكن أن تقوم الكتابة من غير مقروء،  ومن غيرقراءة نوعية مستدامة.ولا يمكن أن تفهم وتتذوق الكتابة كنص إبداعي من غير ذوق راق ومقروء أصيل كذلك؛ فالكتابة مثل القراءة عليها أن تغترف، وترتوي من الينابيع الصافية المتلئلئة، والمتدفقة كالشلالات الأسطورية، وتتخذ من إبداعات العباقرة نماذج ومصابيح تهتدي بها، وهي تتلمس الطريق نحو واحات الإبداع والخلق. وتعمل بجد، ومثابرة للوصول إلى مصافها. وتغني بالتأمل، والعزلة متخيلها عبر السؤال، والسفرفي الذات والبياض، والعبارة وجمال الطبيعة. وإلا كان مصيرها التشرد والضياع ثم الموت، من غير أن تترك أثرا يدل على مرورها بين

ضفاف الخلق والإبداع .

ويمكن تقسيم الكتابة بمقياس القراءة النقدية الرصينة إلى ثلاثة أنواع:

فالنوع الأول هو النوع الذي يولد ميتا أومشوه الخلقة أو معتوها منذ البداية، وهي تلك الكتابة(النصوص) التي لايكمل القارئ قراءتها لنهايتها فيتوقف في بدايتها،أو في وسطها على أقل تقديرلفساد طعمها، وهي الكتابة التي ينطبق عليه قول "أبو الهلال العسكري" في كتاب "الصناعتين الكتابة والشعر" " مدار البلاغة يقوم على تحسين اللفظ وتجميل الصورة وإذا أراد أيضا تصنيف كلام منثورأو تأليف شعر منظوم وتخطى هذا العلم ساء اختياره له وقبحت آثاره فيه...فدل على قصور فهمه، وتأخر معرفته وعلمه"1.

والنوع الثاني من الكتابة هي تلك النصوص التي نكمل قراءتها فلا تترك أثرا يذكر لا في أرواحنا ولا في عقولنا ولا نعود لقراءتها مرة ثانية.

أما النوع الثالث والأخير فهي تلك الكتابة الملهمة الساحرة، والمغرية التي تدفعك إلى قراءتها أكثر من مرة، وربما أغوتك للكتابة عنها في محاولة للقبض على مكامن سحرها وجمالها . وهي الكتابة المنتجة بتعبير أمبرتو ايكو .مثلما فعلت بنا مجموعة من الكتابات الأدبية والفكرية والفلسفية كرويات كابرييل  كارسيا ماركيز ورويات عبدالرحمن منيف  ونجيب محفوظ وحنا مينه ...و المعلقات أشعار المتنبي ومحمود درويش.. وغيرها من الكتابات المنتجة.وهي الكتابة التي وصفها رولان بارت بالكتابة "التي تنقل الإنسان الى عتبة القوة والسحر"2 .

وتختلف الكتابة من كاتب الى كاتب آخر باختلاف الموهبة، والينابيع والروافد، والنماذج والتجارب والمحن، وباختلاف الوعي بها، وبكيفية ممارستها. وقد كان بشر بن المعتمر، حسب ما يذكر الجاحظ يقول" ينبغي للمتكلم أن يعرف أقدار المعاني، ويوازن بينها وبين أقدار المستمعين، وبين أقدار الحاجات ، فيجعل لكل طبقة من ذلك كلاما ولكل حال من ذلك مقاما"3.  فالسحر الأسلوبي والبلاغي، واللغوي إذاغاب عن النصوص الإبداعية غاب النص، وضاع الإبداع والخلق معه، وضاع المعنى فيه بضياع اللفظ .فالمعاني مطروحة في الطريق كما قال الجاحظ ، وإنما يتفاضل البلاغاء أي الكتاب والمبدعون في حسن اختيار اللفظ . فالفرق ليس في معدن الذهب، ولكن الفرق في حسن صياغة الذهب أي في حسن صياغة الكتابة. فالكتابة هي معاني ورؤى قالبها مصنوع ومبتكر من اللغة قبل كل شيء، واللغة هي علم وتخييل وذوق وصياغة وفن " اللغة هي التفكير وهي التخييل بل لعلها هي المعرفة نفسها"4  .

ولكي ترقى الكتابة (النصوص الإبداعية)إلى النضج، والاكتمال، والعبقرية ، وتفعل فعل السحر، والعشق في القارئ . لا بد لها من تخييل، ومقروء، وخبرة .أما الكتابة من فراغ فمحكومة بالموت والزوال  نظرا لضعفها، وفقرها وكثرة عللها .حتى وإن عمل بعض أشباه النقاد والأدباء والكتاب على التطبيل لها والاحتفاء بها في المناسبات، وبعض المهرجانات في إطار المنفعة، والمصالح المادية المتبادلة وتبادل الأدوار كالممثلين على الخشبة باعتماد القياس الفاسد "اكتب عني اكتب عنك، واستحضرني استحضرك،  وصفق لي أصفق لك " لأنها مثل الفقاعات الفارغة الخفيفة التي تظهر فجأة وتنتشر بسرعة على سطح الماءالمتدفق وتختفي، ومثل زبد البحر يلقى بها مع الفضلات والقارورات الفارغة ذلك أن مآلها هامش الشاطئ ، والزوال، والنسيان .فما ينفع الناس هو الذي يمكث في الأرض كما قال تعالى.

فالكتابة الحقيقية إذن هي الكتابة المكتملة الناضجة الواعية بدورها ووظيفتها، المؤثرة الملتهبة الحارقة والمنتجة .التي تجمع بين جمال المعنى وغناه، وسحراللفظ وبلاغته؛ تلك الكتابة التي بقدر ما تغني، وتضيف شكلا ومضمونا . تخلق المتعة، واللذة في روح القارئ قبل عقله فتدفعه إلى قراءتها أكثر من مرة.

الهوامش:

1-   "الصناعتين الكتابة والشعر" أبوالهلال العسكري ص 3 المحقق علي محمد البجاوي محمد أبو الفضل إبراهيم الناشر عيسى الباب الحلبي.

2-   مفهوم الكتابة عند الكاتب رولان بارت ترجمة سعيد بوخليط مجلة الحكمة.

3-   كتاب الاتجاه الاجتماعي في النقد الروائي في المغرب العربي"دراسة في نقد النقد"  أنيسة أحمد الحاج ص 114.

4-   نفس المرجع ونفس الصفحة

وسوم: العدد 878