لماذا تراجع الأدب المعاصر؟

في فترة قريبة مضت قرأت بعض الأخبار الأدبية عن دعوة وجهتها لجنة فحص الروايات بجائزة أدبية شهيرة إلى إحدى الكاتبات للتقدم بروايتها بعد فوات الوقت المحدد لقبول الأعمال المتنافسة. يبدو أن الكاتبة التي تحظى بتأثير واضح على اللجنة المذكورة كانت تتمنّع لأمر ما، ولكنها في آخر الأمر قدّمت روايتها التي أعلن فوزها على الفور!

اتيح لي أخيرا أن أقرأ هذه الرواية الفائزة، وللأسف لم أجد فيها قيمة أدبية حقيقية أو مذاقا إنسانيا يوحي بأنها تخاطب الحياة. كانت أقرب إلى تقديم دعوة إلى الموت الحقيقي والمجازي. كل ما فيها ينضح بالقبح والدمامة والبؤس الشعوري. حتى اللغة والصياغة والتركيب، كانت كلها بعيدة عن البناء الجمالي الممتع. صفحات الرواية تفيض بالسلبية والهروب من مواجهة الواقع، فضلا عن اكتظاظها بالجنس المقزّز، والشذوذ المثلي، والخداع السلوكي، والدم المسفوك، والابتزاز الرخيص، واللصوصية البشعة، والمسوّغ لذلك كله يتمثل في إشارة خاطفة إلى أن الشخصية الرئيسة تعرضت للتعذيب في سجون النظام! أي نظام؟ ومن أجل ماذا؟ وكيف؟ لا نعرف. المهم أن الرواية تجعلنا نعيش في مستنقع لا تضيء فيه قيمة إنسانية، أو عاطفة بشرية نقية، أو شعور فطريّ طبيعيّ. لقد تحول الإنسان العربي في الرواية إلى مشرّد في عشوائيات أوربة وشوارعها الخلفية المظلمة، لا يمت بصلة إلى العرب- بلاش المسلمين- ولا إلى قيمهم ولا إلى همومهم، ولا تبدو لديه قضية تتجاوز حاجاته البيولوجية وجواز السفر.

هذا نموذج للأدب السائد اليوم الذي تشجعه وتحضّ عليه بعض الجهات التي تملك المال والنفوذ والقدرة على التخطيط لما تريد، لذا نفتقد أدبا عربيا يتوافق مع حركة التطور الاجتماعي وارتفاع عدد المتعلمين وحملة الشهادات العليا.

للأسف فقد تراجع المستوى التعليمي والإدراكي، لحساب شيوع بعض الاهتمامات الهامشية غير المثمرة، وخاصة بعد التوسع في استخدام الإنترنت أو الشبكة الضوئية. وترتب على ذلك ضحالة المستوى الأدبي والفني في النصوص المكتوبة على الورق أو المنشورة في الفضاء الإلكتروني. لقد تراجعت اللغة الأداة الأولى للتعبير، وصارت الروايات والقصائد والمسرحيات والدراسات الأدبية والموضوعات الصحفية بل العناوين الرئيسة، مليئة بالأخطاء الإملائية والنحوية والتركيبية، فضلا عن تشوّش الرؤية وخلل التصور، وكل هذا يجد ترحيبا آليا في دور النشر والصحافة التي لا تعرف مصطلح مدقق أو مصحّح، فتظهر الأعمال الضعيفة والرديئة، التي يتوّج بعضها بجوائز كبيرة وصغيرة، ثم إشادات عظيمة بالفائزين ممن تنصّبهم الحظائر الثقافية في العواصم العربية، نقادا وباحثين ودارسين ومتابعين!

تاريخيا بدأت عملية التراجع مع انهيار التعليم والثقافة في بعض الدول العربية المؤثرة قبل ستين عاما تقريبا، حين صار الهدف العام تخريج أكبر عدد من حملة الشهادات، دون الاهتمام بالمستوى أو الكيف، ثم سيطرة التيار الشيوعي وما يشبهه على المرافق الإعلامية والثقافية والتعليمية والفنية كافة، وتوجيهها بما يبعدها عن الثقافة القومية والإسلامية والخلقية التي عُدّت في أدبيات هذا التيار ومن والاه رجعية وظلامية وتخلفا!

ثم تدخلت بعض السلطات في تجنيد بعض من يسمونهم مثقفين وأدباء ليكونوا عيونها على الحركة الثقافية والأدبية، ووصل الأمر إلى حد انعقاد أول مؤتمر لما سمي بالأدباء الشبان في إحدى الدول العربية تحت رئاسة وزير الداخلية في فترة الستينيات وكان مشهورا بالقسوة والوحشية وكان أعوانه الكبار في المؤتمر من الشيوعيين وأشباههم،  وصار بعضهم ضيفا دائما على مكاتب المسئولين الأمنيين ليحدثهم عن زملائه ورفاقه وخاصة ممن يتصعلكون في مقاهي العاصمة وخماراتها..

منذ ذلك الحين تقريبا لم نجد موهوبين كبارا، أو أصحاب رؤية إنسانية تمثل روح الإسلام وحضارته،  وباسم التجديد والحداثة صار أصحاب المواهب الضحلة الذين لا يقرءون ولا يتثقفون ثقافة حقيقية ولا يملكون الأدوات الأولية للتعبير، هم أعلام المرحلة والمراحل التالية.. تتردد أسماؤهم في الصحف والإعلام والمؤتمرات دون الموهوبين الحقيقيين، فلا تعرف الأجيال الجديدة غيرهم، وامتدت الكارثة إلى الجامعات والباحثين والنقاد، الذين يطالعون الصحف ويفتحون الإذاعات ويشاهدون القنوات فلا يرون غير أسماء هؤلاء وأشكالهم وشخوصهم، أما الموهوبون الحقيقيون والجادون، فغائبون أو مغيّبون، وأضحت عملية الإقصاء بل الاستئصال أمرا عاديا منذ ذلك الحين، فقد مكنت السلطة المعادين للإسلام من الشيوعيين وأشباههم من الاستيلاء على الصحف والمجلات ودور النشر الرسمية، وامتدّ نفوذهم إلى وسائل الإعلام والثقافة والتعليم غير الرسمية. وشكلت أجهزة الثقافة بالنسبة للقوم بقرة حلوبا يحلبونها، ويستحلون أموال المسلمين الأغنياء والفقراء بغير حق، نظير محاربتهم للإسلام، ونشر ثقافة معادية للوطن والأمة والإنسان، من أجل هذا يدافعون عن الوزارة وأجهزتها، كي لا يفقدوا الحليب (الحرام!)، لدرجة أنهم خوفا على مكاسبهم غير المشروعة، بعد ثورة 2011م في مصر احتلوا وزارة الثقافة ومنعوا وزيرها الرسمي من دخول مكتبه لمدة شهر، إلى أن  سقطت الوزارة والوزير!

كان الإقصاء أو الاستئصال لكل صوت موهوب جاد، يردد اسم الله، أو يحمل روح الإسلام، منهجا شيطانيا يسير على هديه هؤلاء، فلا ينشر للموهوب الجاد المسلم مقال في جريدة أو مجلة ولا يصدر له كتاب ،ولوكان من أعلم أهل الأرض أو أكثرهم موهبة، وفي الوقت الذي ينشرون فيه الآراء والأفكار المعادية للإسلام بكثرة ملحوظة، وحفاوة بالغة وسرعة صاروخية، فإنهم لا يسمحون بالرد على ما ينشر وتصويبه من أهل العلم والاختصاص، وقد اشتكى شيخ الأزهر الحالي من أنه لا يستطيع الرد في الإعلام الرسمي على ما يشوّه الإسلام ويسيء للأزهر، وقد رأينا قبل شهور كيف كان موقفهم العدواني من الإسلام حين ردّ شيخ الأزهر على أحد المتحدثين الداعين إلى تغيير الإسلام باسم تجديد الخطاب الديني!

أذكر أن أحد أصدقائي وكان يعمل في هيئة نشر رسمية طلب ذات يوم بعض كتبي لنشرها، قلت له: لن ينشروها. فأثني على أعمالي وقال: إنك تتحامل عليهم! قلت: لننتظر. وكانت النتيجة تقريرا يقول فيه المحكّم وهو أستاذ جامعي محترم: إن الكتب تهاجم إحدى الدول العربية مما يسيء للعلاقات بين دولتنا وهذه الدولة! كانت الكتب في النقد الأدبي تتناول روايات وأشعارا لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالدولة المذكورة أو السياسة، ولا يرد فيما كتبت اسم هذه الدولة أو غيرها. ولكن القوم لهم قوانينهم.

هكذا تسير الأمور في الواقع الثقافي والأدبي، وفي الوقت الذي يحجبون فيه الأعمال الجيدة لأن أصحابها ليسوا على هوى المتحكمين في الثقافة الرسمية وغير الرسمية، يتم الإلحاح على بعض الكتابات التافهة وطبعها مرات عديدة في جهات رسمية عديدة، وتكتمل ذروة المأساة حين يجمع الكاتب الضحل كتاباته لتنشر تحت ما يسمى الأعمال الكاملة، في مقابل مكافآت سخية من جيب الشعب المسكين، ثم تعود المطبوعات إلى المخازن لتكون وليمة ممتدة لفئران الحيّ القريبة! 

والأخطر من ذلك نشوء ما يمكن أن نسميه ميليشيات أدبية تنتشر في المقاهي التي يجلس عليها صعاليك الأدب، ويقودها من يسمون أنفسهم بالنقاد اليساريين الكبار، ومهمة هذه الميليشيات إخضاع من يريدون الانضواء تحت راية الأدب والثقافة من الشباب (أكثرهم عاطلون أو شبه عاطلين)، وتبدأ عملية الإخضاع بامتهان الشاب وتحقيره، وتنتهي عندما يعلن ولاءه للفتوة الشيوعي الذي يدخله جنة الوزارة أو ما عرف بالحظيرة الثقافية حيث يجد المال والشهرة وصك الاعتراف!

وتعجب لأن هؤلاء القوم يرفعون راية حرية الفكر والتعبير، ومقاومة الظلم والقمع، ولكنهم يمارسون كل الموبقات، ويقفون  ضد حرية التفكير والتعبير بكل قوة ووما يملكون من نفوذ، ويدعون أنهم مناضلون وثوريون وديمقراطيون، وأصحاب مبادئ وقيم، ثم لا تجد شيئا من ذلك. تجد المصلحة الشخصية وحدها، والانتهازية الرخيصة فقط، والعداوة الرخيصة للإسلام.

من المفارقات أن الصحافة الأدبية في العهد الملكي وتحت الاحتلال الأجنبي؛ كانت أكثر ثراء وانتشارا وتعبيرا عن هوية الأمة وتراثها ومستقبلها ،وكانت تتجاور فيها الآراء المختلفة ويتداخل القراء لإثراء المناقشات والمفاهيم والقضايا، وكان للكلمة تأثيرها الفعال، وكان القراء في وجود نسبة الأمية المرتفعة أكثر من القراء في الوقت الحالي، فكانت "الرسالة" مثلا توزع ستين ألف نسخة في كل أسبوع عندما يكتب فيها مصطفى صادق الرافعي (انظر: علي شلش، المجلات الأدبية: تطورها ودورها، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة ،1988،ص 126)، بينما جرت النكتة الأدبية في العقود الأخيرة عن مجلة رسمية بأن عدد المرتجع منها أكثر مما يطرح في الأسواق! لقد سيطر الشيوعيون وأشباهم على المجلات الأدبية والثقافية فحولوها إلى إقطاعيات خالصة لهم ولأتباعهم ينشرون فيها إنتاجهم الغث الرديء، فطردت القراء، ولم تثر اهتمام أحد إلا عندما نشر بعضها صورا إباحية! لقد اكتفوا بتقاسم المكافآت، والتفاخر بإنجازات خرافية لا ظل لها على أرض الواقع. قبل ربع قرن من الزمان أعلن وزير ثقافة أسبق أن المثقفين دخلوا الحظيرةـ أي رضخوا لإرادته، وإرادة السلطة، وطلّقوا وظيفتهم في رفع الوعي وتنمية الفكر والدفاع عن الحرية والهوية والجمال، والارتقاء بالأدب والذوق والثقافة، وكان هذا إعلانا بموت الثقافة مثلما ماتت السياسة والحريات والقيم والتقاليد والأخلاق.. والضمائر.

صار المنتج الأدبي السائد في الواقع الثقافي يعادي اللغة الراقية والمضمون الإنساني. واضحت سيولة القيم هي الطابع العام لمعظم ما ينشر أو ينشره المهيمنون على الساحة الأدبية والثقافية. إذا تحدثتَ عن الاهتمام باللغة والقواعد الأدبية والتقاليد الفنية، عدّوا ذلك من مخلفات الماضي، وإذا أشرتَ إلى التقاليد الأدبية والفنية، قالو: نحن نجدّد ونحدّث، وهي دعوى حق أريد بها باطل، فالشخص الذي لا يفقه شيئا في عروض الشعر، يقول إنه يجدد في فن الشعر، من خلال ما يسمّى قصيدة النثر! طيب، ما قوانين هذه القصيدة؟ أليس لكل فنّ قوانينه وأصوله؟ يرد عليك: القصيدة تصنع قانونها! سفسطة وثرثرة وخواء وضحالة، ومع ذلك يتم التمكين لأصحابها في الإعلام الضارب أو الدعاية القوية.

القوم يصنعون أدباء ومثقفين من الورق المقوّى، ويمنحونهم لقب "المبدع"(!) ولا يخجلون من مديح أنفسهم، مع أن مادح نفسه كذّاب كما يعلمنا الأثر. ثم إنهم يلحون على ذكر آحاد لا ثاني لهم عند ما يكتبون أو يتناقشون يقولون لك: نجيب محفوظ، أدونيس، سعد الله ونوس، وكأن من خلق هؤلاء لم يخلق غيرهم عشرات بل مئات الروائيين والشعراء والمسرحيين. إنهم يصنعون فرعونا أدبيا يعبدونه على غرار كهنة آمون. وبالطبع لا يأتي ذكرهم أبدا على اسم شاعر مثل محمود حسن إسماعيل ولا روائي مثل نجيب الكيلاني ولا مسرحي مثل علي أحمد باكثير، لأن واحدا منهم لم يتخل عن إسلامه ولم يكفر بدين الله.

إن تراجع الأدب المعاصر  في البلاد العربية، وتهافت مستواه الفني والفكري يستدعي اهتماما كبيرا من القابضين على الجمر في ثقافتنا المعاصرة، فالأدب مرآة لتراث الأمة وحاضرها ومستقبلها، وأحسب أن الدعوة للأدب الإسلامي، انتفاضة على واقع أدبي بائس، من أجل إعادته إلى طريقه الطبيعي، وتجديده بمتغيرات العصر والمستقبل.

وسوم: العدد 883