سُلطان النُّحاة-2

د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي

مساقات

ناقشنا في المساق السابق الشُّبهات النحويَّة لأحد القمامصة المشلوحين، حول الآية القرآنيَّة: "لـكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ مِنْهُمْ، والْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ، ومَا أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ، والْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ، والْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ، والْمُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ، والْيَوْمِ الْآخِرِ، أُولَـئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا "، (النساء: ١٦٢). معيدًا القمُّص شريطًا مكرورًا، قديمًا وحديثًا، حول كلمة "المقيمين" في الآية، زاعمًا أنَّ غلطًا نحويًّا فيها! وقلنا: إنَّنا لن نقول بالنَّصب على الاختصاص، ولا بالجَرِّ عطفًا على الكاف في "قَبْلِكَ"، لكنَّ الأمر أيسر من ذلك: بالعطف على "ما"، في "بما أُنْزِلَ". فـ"المقيمون الصلاة"- حسب هذه القراءة- لا تعني المصلِّين من عامَّة البشر، بل هي إشارةٌ إلى (الملائكة، والمرسلين). فاعترض صاحبي المتنحوي السليقي:

- ولماذا تذهب إلى (الملائكة)، ولا تقول بفهم معنى "المقيمين الصلاة": المقيمين الصلاة من عامَّة الناس؟

- إنَّ القول بفهم معنى "المقيمين الصلاة" على أنهم: المقيمون الصلاة من عامَّة الناس، بلا معنى مقبولٍ، عندي. فكيف يؤمن المؤمنون بالمقيمين الصلاة من الناس؟ ولو سُلِّم جَدَلًا بذلك، فكيف يُصبِح معيارًا من معايير الفوز بالأجر العظيم عند الله، وفي نسقٍ واحدٍ مع الإيمان بالله، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر؟ ولهذا كُلِّه، لعلَّ الإيمان بـ"المقيمين الصلاة" المقصود به: "الإيمان بالملائكة والرسل". وهذا القول الأخير هو الأرجح.

- أ وسبقَك بهذا أحدٌ من المفسرين؟

- لستُ، في كلِّ حالٍ، من المؤمنين بعبادة السَّلف، من المفسِّرين أو غير المفسِّرين، ولا بأننا- معشر الأصحَّاء عقليًّا- متعبَّدون باتِّباع ما فهمته عقول الماضين، وإنَّما هذه عادةٌ بدائيَّة، وعقيدةٌ جاهليَّة، تُجِلُّ الآباء فترفعهم إلى سماوات التقديس. فأهل الدثور كان منهم العقلاء، ونحن منَّا كأولئك. ومع هذا، فلقد وجدتُ جَدَّكَ (الطبريَّ) انتهى إلى ما انتهيتُ إليه، قبل الاطِّلاع على تفصيل رأيه. لعلَّك ارتحت الآن؟! ها هو ذا جدُّك ابن (طبريَّا)، رحمه الله، يسير أمامك، فاطمئن، ولا تخش غائلة الطريق، وسيقتادك إلى المرعَى!

- الحمد لله! حبيبي الإمام الطبري، وما أدراك ما الإمام الطبري!

- غير أن إمامك المجتبَى هذا أضاف ملحظًا حاسمًا، وهو وجود العبارة "وبالمقيمين" في مصحف (أُبَيِّ بن كعب)، وهو مصحفٌ مستقلٌّ، وليس من المصاحف التي أنجزها الكَتَبَة، وزُعِم فيها الغلط في الكتابة. ولئن سُلِّم بأنه لم يكن يومئذٍ من أحدٍ يحفظ القرآن كلَّه، فإنَّه يبدو من أخبار المصاحف- كمصحف (ابن مسعود)، ومصحف (أُبَيِّ بن كعب)، ومصحف (عَليٍّ)...- أن مصاحف مكتوبة كانت موجودة، وإنْ لم تكن متداولة. ولا يعني اختلافها أنَّه اختلافٌ جوهريٌّ، غير مستوعَبٍ في لسان العَرَب، ولا مفهومٍ من المتلقِّي العَرَبي عصرئذ. فسواء أجاءت الآية: "والمقيمين" أو "وبالمقيمين"، فالمعنى واحد، والنَّظْم سائغ، والمقصود مفهومٌ، حسب التخريج المذكور في المساق السابق.

- بل أكثر من هذا كلِّه: مَن قال إن القواعد النمطيَّة التي فرضها النحويُّون، وجعلوها النموذج المتَّبَع، هي كُلُّ لغة الضاد بأوجهها التي كانت سائغةً مستعملةً إبَّان البعثة النبويَّة؟!

- تمامًا. وإنَّما كان النحويُّون يرتضون وجهًا من الاستعمال، سمعوه سائدًا على ألسنة الناس، مصطَفِين من لهجات القبائل ما يصطفون، مهملين أكثرها، مُقَوِّين ومُضَعِّفين، لا على أن ما ضعَّفوه غلطٌ، بل على أنَّه قليل الاستعمال، حسب استقرائهم. ولأجل هذا كان من العَرَب- على سبيل الشاهد- من يُعرِب بعض الأسماء المعروفة بالأسماء الخمسة بالحروف، وكان منهم من يعربها بالحركات، وكان منهم من يبنيها على نحوٍ واحدٍ، بغير تغيير. فسُمِع: «جاء أبوك، رأيت أباك، مررت بأبيك»، وهو الغالب، وَفق النصوص المدوَّنة وتقعيد النحاة، لكنه سُمِع أيضًا: «جاء أبُك، رأيت أبَك، مررت بأبِك»، وسُمِع: «جاء أباك، رأيت أباك، مررت بأباك». واستشهدوا على هذه الصورة الأخيرة بالبيت:

إنَّ أباها وأبا أباها ... قد بلغا في المجدِ غايتاها

- البناء المعياري، حسب قواعد النحاة:

إنَّ أباها وأبا أبيها ... قد بلغا في المجد غايتَيها

- وثمَّةَ مسائل من هذا القبيل يعرفها ذوو الاختصاص كثيرة. بل أزيدك من الشعر بيتًا!

- زدني بيتين!

- ستقرأ في إحدى الوثائق المخطوطة من العهد النبوي، لا المروية شفويًّا، قولهم: «علي بن بو طالب».(1)

- عجيب! وهذا خلاف القاعدة المدرسيَّة.

-ما يدلُّ على أن من العَرَب من كان يقول: «جاء أبوك، رأيت أبوك، مررت بأبوك»، كما في عامِّيتنا اليوم، وكما سجَّلَ لنا اللغويون في كلمة (ذو): أنَّ من العرب من يُجريها على نحوٍ واحدٍ، أيًّا كان موقعها من الجملة. أو ربما قيل إن ذلك، في نحو "أبو طالب"، جارٍ على الحكاية. وهذا استعمالٌ يراه بعض النحويِّين أنسب؛ لأنه الاستعمال الحقيقيُّ في واقع الحياة؛ فيبقونه على حاله حيث جاء من الجُملة. ومنهم مَن حبَّذه في المعاملات الرسميَّة بخاصَّة. (2)

- هذا يعني، إذن، أن قواعد اللغة العربيَّة، التي اصطُلح عليها بـ(النحو)، إنَّما هي على الأكثر سماعًا عن العَرَب، وبحسب استقراء النحاة الأوائل، سُنَّتْ تيسيرًا، وتوحيدًا، وليست بمعايير قطعيَّة للحكم بغلط ما خالفها ممَّا استُعمِل قبل وضع تلك القواعد.

- أجل. ومن جاء ليُحاكِم لغة العَرَبيِّ إلى قواعد النحو المتأخِّرة وضعًا، فقد جَهِل العَرَبيَّة اتساعًا، وتاريخ وضع النحو، ومنهاج ذلك الوضع، بل، بالحَريِّ، جَهِل سُنَن اللغات بصفة عامَّة.

- أهذا في النحو دون غيره من علوم اللسان؟

- كلَّا! فكما أن قواعد النحو إنَّما هي قواعد الأكثر سماعًا عن العَرَب، كذلك قواعد الصرف والأسلوب.

- مثلًا؟

- مثلًا، لا حصرًا، لَكَم لقَّننا أساتيذنا الأصوليُّون محرَّماتٍ لغويَّةً أو أسلوبيَّةً اكتشفنا لاحقًا أنها كانت مباحات. وسأضرب لك بعض الأمثلة ولكن في المساق التالي؛ فاستعدَّ للضرب، ولا تستعجلنَّ رزقك!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) انظر: ابن فضل الله العمري، (2003)، مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، تحقيق: عبدالله بن يحيى السريحي، (أبو ظبي: المجمع الثقافي)، 1: 225- 227.

(2) انظر مثلًا: حسن، عبَّاس، (1974)، النحو الوافي، (مصر: دار المعارف)، 1: 114.

وسوم: العدد 908