القولُ اليَسيرُ في جُمُوع التَّكسِير

د. محمد عناد سليمان

د. محمد عناد سليمان

[email protected]

إنَّ جموع التَّكسير من المباحث التي يعتلج فيها القياس وعدمه، وقد اختلف الصَّرفيُّون فيها بين مجيز لبعضها، ومانع لبعضها الآخر، ومردُّ هذا في غالب الظَّنِّ إلى عدم اكتمال استقرائهم لهذه الجموع في مظانِّها الأساسية، فكثيرًا ما تتداخل أبنيتها فيما بينها، وقد ظهر كثيرٌ من الجموع التي خالفت بابها، فحُكم عليها بعدم الاطِّراد، وتكاد تكون أكثر مِمَّا اطَّرد في بابه؛ بل إنَّ المتمعِّن في قضية جموع التَّكسير، والنَّاظر إليها نظرة واقعيَّة بعيدة عمَّا أقرَّه الصَّرفيُّون يجد أنَّ هذه القضية يمكن هدمها من أساسها، فجموع التَّكسير كما يظهر من حيث الواقع اللُّغويّ نوع واحد لا غير([1])، يدفعنا إلى ذلك أمور:

منها: أنَّ أبنية جموع التَّكسير كما تقدَّم تتداخل فيما بينها كثيرًا، وكأنَّ المستعمل العربيَّ لهذه الأبنية لم يكن متقيِّدًا في استعماله لما قرَّره الصَّرفيُّون من ضوابط وقواعد وأحكام.

ومنها: أنَّ بعض ما ورد عن العرب ليس له إلا بناء واحد في القلَّة، فإذا ما أرادوا الكثرة استعملوه من دون تغيير، فالقلَّة والكثرة في عرف الاستعمال اللُّغوي عند العرب واحدة.

ومنها: أنَّ الواقع اللُّغويّ يُشير بوضوح إلى عدم صحَّة ما قرَّره الصَّرفيُّون من تحديد لأبنية كلِّ نوع من جموع التَّكسير، فها هو ذا القرآن وهو قد بلغ من الفصاحة ذروتها يؤكِّد بطلان زعم الصَّرفيِّين، فيستخدم القلَّة للدَّلالة على الكثرة، والكثرةَ للدَّلالة على القلَّة، ومثال الأوَّل قوله تعالى: }مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً{([2])، فـ«أضعاف» على مثال «أفعال»، وهو من الأبنية التي قرَّرها الصَّرفيون للدَّلالة على القلَّة والقرآن يستخدمها للكثرة. ومثال الثَّاني قوله 
تعالى: 
}وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ{([3])، فالثَّلاثة في عرف الصَّرفيين عدد يدلُّ على القلَّة، وكان الواجب - على زعمهم - أن يكون القرء مجموعًا على «أقراء»، إلا أنَّه جاء على غير ما قرَّروا فدلَّ على الكثرة.

ومنها: أنَّ كثيرًا من الأسماء قد خرجت عمَّا قرَّره الصَّرفيُّون من قواعد وأحكام، فجاءت مخالفة لها، على الرَّغم من توافر الشُّروط التي تؤهلها لأن تكون على بابها وقياسها، لكنَّها خالفت فخرجت عن القياس مِمَّا يؤكِّد أنَّ استقراء الصَّرفيِّين لكلِّ ما ورد عن العرب من هذه الجموع لم يكن على الوجه الذي نحتكم إليه في وضع الأسس والقواعد. وليس من الضَّرورة أن تكون هذه الأسماء الكثيرة الخارجة عن القياس ضعيفة أو متروكة أو شاذَّة، وإنَّما تحدَّث بها العرب الفصحاء على سجيَّتهم، من دون إخضاعها إلى ما تقرَّر عند أهل الصَّرف.

ومنها: أنَّ الواقع اللُّغويَّ المستعمل يُشير إلى وجود أبنية لجموع التَّكسير غير ما ذكره علماء الصَّرف، وهذا أمر أخر ينهضُ دليلاً قويَّا على عدم استقرائهم لكلَّ ما ورد من هذه الجموع، ففي القرآن الكريم وحده اثنان وأربعون بناء لجموع التَّكسير([4])، وهو عدد يكاد يكون ضعف ما ذكره الصَّرفيُّون في مصنَّفاتهم، ومن هذه الأبنية الجديدة «فَعَّالة»، و«فِعَالَة»، و«فَعِيل» وغيرها، وأمثلتها على التَّرتيب، قوله تعالى: }وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ{([5])، وقوله: }قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً{([6])، وقوله: }وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا 
تَعْلَمُونَ
{([7]).

ومنها: أنَّ الاستعمالَ اللُّغويّ لجموع التَّكسير يدلُّ على أنَّ العرب كانوا يُفرِّقون بين الدَّلالات التي يُستعمل فيها الجمع، فإذا ما أرادوا العين الباصرَة مثلاً جمعوها على «أعين»، أمَّا إن قصدوا عين الماء ونحوها فإنَّما جمعوه على «عيون»، ولقد ورد هذان الجمعان في القرآن الكريم، فتكرَّر الأوَّل اثنين وعشرين مرَّة، والثَّاني في عشرة مواضع، ولم يُستعمل أحدهما لمعنى الآخر([8])

وبالمحصِّلة فإنَّ جموع التَّكسير من القضايا المتشعِّبة التي حيَّرت في تنوع روافدها الباحثين قديمًا وحديثًا، ولن تتكشَّف حقيقتها إلا في أمرين:

الأوَّل: دراسة جموع التَّكسير دراسة استقرائيَّة لجميع ما سمع عن العرب الفصحاء، ولو انَّ دراسًا يتصدَّى لدراستها في معاجم اللُّغة!

الثَّاني: ربط ما سمع من العرب بالاستعمال اللُّغويّ، وإظهار دلالة القلَّة والكثرة حسب هذا الاستعمال. وهل كان العرب يقصدون بجمع القلَّة دلالة معينة؟ فإذا ما أرادوا دلالة أخرى نحوا إلى الكثرة؟

               

([1]) من قضايا جموع التَّكسير «بحث منشور»: ص78.

([2]) البقرة: 2/245.

([3]) البقرة: 2/228.

([4]) من قضايا جموع التَّكسير: ص121، وملاحظات على قياسية الغالب من جموع التكسير «بحث منشور»: ص30.

([5]) يوسف: 12/10.

([6]) الإسراء: 17/50.

([7]) النَّحل: 16/8.

([8]) جموع التَّكسير والعرف اللُّغوي «بحث منشور»: ص188، 189.