مَعَ إعرَابِ القُرآنِ...

أ. د. سعدالدين إبراهيم المصطفى

أستاذ النَّحو والصَّرف بجامعة طيبة

وَقَالَ تَعَالَى: (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرعَونَ يِسُومُونَكُمْ سُوءَ العَذابِ، يُذَبِّحُونَ أَبنَاءَكُم وَيَستَحيُونَ نِسَاءَكُم، وَفِي ذلِكُم بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُم عَظِيمٌ) . وَ(إِذْ) فِي موضِعِ نَصبٍ عَطفًا علَى (نِعمَتِي)، وَكذلِكَ الظُّرُوفُ الَّتِي بَعدَهُ نَحوُ: (وَإِذْ وَاعَدْنَا) (وَإِذْ قُلْتُم). وَقُرِئَ: (أَنجَيْتُكُم) علَى التَّوحِيدِ، وَهذا خِطَابٌ لِلمَوجُودِينَ فِي زَمنِ الرَّسُولِ-علَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ_ وَلا بُدَّ مِن حَذفِ مُضَافٍ، أَي: أَنجَيْنَا آَبَاءَكُم، نَحوُ: (حَمَلْنَاكُم فِي الجَارِيَةِ) أَو لأَنَّ إِنجَاءَ الآَبَاءِ سَبَبٌ فِي وُجُودِ الأَبنَاءِ.

وَ(مِنْ آَلِ) مُتَعَلِّقٌ بِهِ، وَ(مِنْ) لِابتِدَاءِ الغَايَةِ. وَ(آَلِ) اختُلِفَ فِيهِ علَى ثَلاثَةِ أَقوَالٍ، قَالَ سِيبَوَيهِ وَأَتبَاعُهُ: إِنَّ أَصلَهُ أَهلٌ، فَأُبدِلَتِ الهَاءُ هَمزَةً لِقُربِهَا مِنها، كما قَالُوا: مَاءٌ وَأَصلُهُ: مَاْهٌ، ثُمَّ أُبدِلَتِ الهَمزَةُ أَلِفًا، لِسُكُونِهَا بَعدَ هَمزَةٍ مَفتُوحَةٍ نَحوُ: آَمَنَ وَآَدَمُ، وَلِذلِكَ إِذا صُغِّرَ رَجَعَ إِلَى أَصلِهِ، فَتَقُولُ: أُهَيلٌ. قَالَ أَبُو البَقَاءِ: وَقَالَ بَعضُهُم: أُوَيلٌ، فَأُبدِلَتِ الأَلِفُ وَاوًا، وَلَم يَرُدَّهُ إِلَى أَصلِهِ، لأَنَّ النَّحوِيِّينَ قَالُوا: مَنِ اعتَقَدَ كَونَهُ مِن (أَهلٍ) صَغَّرَهُ علَى (أُهَيلٍ) وَمَنِ اعتَقَدَ كَونَهُ مِن: آَلَ يَؤُولُ، أَي: رَجَعَ، صَغَّرَهُ علَى: أُوَيلٍ. وَذَهَبَ النَّحَّاسُ (ت338هــ) إِلَى أَنَّ أَصلَهُ: (أَهلٌ) أَيضًا، إِلَّا أَنَّهُ قَلَبَ الهَاءَ أَلِفًا مِن غَيرِ أَنْ يَقلِبَهَا أَوَّلًا هَمزَةً، وَتَصغِيرُهُ عِندَهُ علَى: أُهَيل. وَقَالَ الكِسَائِيُّ: أُوَيلٌ. وَمِنهُم مَنْ قَالَ: أَصلُهُ: (أَوَلَ) مُشتَقٌّ مِن آَلَ يَؤُولُ، أَي: رَجَعَ، لأَنَّ الإِنسَانَ يَرجِعُ إِلَى آَلِهِ، فَتَحَرَّكَتِ الوَاوُ وَانفَتَحَ ما قَبلَهَا فَقُلِبَتْ أَلِفًا، وَتَصغِيرُهُ علَى: أُوَيلٍ.

قَولُهُ: (فِرعَونَ) خَفضٌ بِالإِضَافَةِ، وَلكنَّهُ لا يَنصَرِفُ لِلعُجمَةِ وَالتَّعرِيفِ. وَ(يَسُومُونَكُم سُوءَ العَذَابِ) هذِهِ الجُملَةُ فِي مَحَلِّ نَصبٍ علَى الحَالِ مِن (آَلِ) أَي: حَالَ كَونِهِم سَائِمِينَ. وَقِيلَ: هِيَ خَبرٌ لِمُبتَدأٍ مَحذُوفٍ، أَي: هُم يَسُومُونَكُم. وَ(كُم) مَفعُولٌ أَوَّلُ، وَ(سُوءَ) مَفعُولٌ ثَانٍ، لأَنَّ (سَامَ) يَتَعدَّى لِاثنَيْنِ كَــ أَعطَى.

قَولُهُ: (يُذَبِّحُونَ) هذِهِ الجُملَةُ يُحتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مُفَسِّرَةً لِلجُملَةِ قَبلَهَا، وَتَفسِيرُهَا لَهَا علَى وَجهَيْنِ، الأَوَّلُ: أَنْ تَكُونَ مُستَأنَفَةً، فَلا مَحَلَّ لَهَا حِينَئِذٍ مِن الإِعرَابِ، كأَنَّهُ قِيلَ: كَيفَ كَانَ سَومُهُمُ العَذابَ؟ فَقِيلَ: يُذَبِّحُونَ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ بَدَلًا مِنهَا، كَقَولِهِ :

مَتَى تَأتِنَا تُلمِمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا   تَجِدْ حَطَبًا جَزلًا وَنَارًا تَأَجَّجَا

وَمِنهُ قَولُهُ تَعالَى: (وَمَنْ يَفعَلْ ذلِكَ يَلقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ يَومَ القِيَامَةِ وَيَخلُدْ فِيهِ مُهَانًا) ، وَلِذلِكَ تَركَ العَاطِفَ، وَيُحتَملُ أَنْ تَكُونَ حالًا ثَانِيَةً، لا علَى أَنَّهَا بَدَلٌ مِن الأُولَى، وَذلِكَ علَى رَأيِ مَنْ يُجَوِّزُ تَعَدُّدَ الحَالِ.

فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَمْ يُؤتَ هُنَا بِوَاوِ العَطفِ، كَمَا اُتِيَ بِهَا فِي سُورَةِ إِبراهِيمَ؟ (يَسُومُونَكُم سُوءَ العَذَابِ وَيُذبِّحُونَ أَبنَاءَكُم) . فَالجَوابُ أَنَّهُ أُرِيدَ هُنا التَّفسِيرَ، وَفِي سُورَةِ إِبراهيمَ مَعنَاهُ: يُعَذِّبُونَكُم بِالذَّبحِ وَبِغَيرِ الذَّبحِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الوَاوُ زَائِدَةً فَتَكُونَ كآَيَةِ البَقرَةِ.

قَولُهُ: (وَيَستَحيُونَ) عَطفٌ علَى ما قَبلَهُ، وَأَصلُهُ: (يَسْتَحْيِيَونَ) فَأُعِلَّ بِحذفِ اليَاءِ بَعدَ حَذفِ حَرَكتِهَا، فَوزنُهُ: (يَسْتَفْعُوْنَ).

قَولُهُ: (وَفِي ذلِكُم بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُم عَظِيمٌ) الجارُّ وَالمَجرُورُ خَبَرٌ مُقدَّمٌ، وَ(بَلَاءٌ) مُبتَدأٌ مُؤخَّرٌ. وَلامُهُ وَاوٌ لِظُهُورِهَا فِي الفِعلِ، نَحوُ: بَلَوْتُهُ، أَبلُوهُ، فَأُبدِلَتْ هَمزَةً.

وَ(مِنْ رَبِّكُم) مُتَعَلِّقٌ بِــ (بَلَاءٌ)، وَ(مِنْ) لِابتِدَاءِ الغَايَةِ مَجَازًا. وَقَالَ أَبُو البَقَاءِ: هُوَ رَفعٌ صِفَةٌ لِــ (بَلاء) فَيَتَعلَّقُ بِمَحذُوفٍ. وَفِي هذا نَظَرٌ، مِن حَيثُ إِنَّهُ إِذا اجتَمَعَ صِفَتانِ، إِحدَاهُما صَرِيحَةٌ، وَالأُخرَى مُؤَوَّلَةٌ قُدِّمَتِ الصَّرِيحَةُ. وَ(عَظِيمٌ) صِفَةٌ لِــ (بَلَاء) .

العَرُوضُ:

مَتَى تَأتِنَا تُلمِمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا   تَجِدْ حَطَبًا جَزلًا وَنَارًا تَأَجَّجَا

العَرُوض: (دِيَاْرِنَا، مَفَاْعِلُنْ: //ه//ه)، وَالضَّربُ: (َتَأَجْجَجَاْ مَفَاْعِلُنْ: //ه//ه). من الطَّوِيلِ.

القَبضُ: حَذْفُ الخَامِسِ السَّاكِنِ. جَاءَ فِي العَرُوضِ وَالضَّربِ، وَأَيضًا فِي الحَشوِ.

عَرُوضُهُ مَقبُوضَةٌ وَضَربُهُ مَقبُوضٌ.

العَرُوضُ فِي البَحرِ الطَّوِيلِ مَقبُوضَةٌ دائِمًا مَا لم يُصَرَّعِ البَيتُ، فَتَتَّفِقْ عِندَئِذٍ مَعَ الضَّربِ، وَتَكُونُ تابِعةً لِوَزنِهِ فِي البَيتِ الأَوَّلِ فَقط، فَتَأتِي صَحِيحَةً أَو مَحذُوفَةً علَى حَسَبِ الضَّربِ.

التَّصرِيفُ:

آَلِ : علَى وَزنِ فَعْلِ. اسمٌ ثُلاثِيٌّ مُجرَّدٌ، صَحِيحُ الآَخِرِ، مُذَكَّرٌ حَقِيقِيٌّ، وَهُوَ اسمُ جَمعٍ جامِدٌ، يَدُلُّ علَى ذَاتٍ.

أَصلُهُ: (أَهْلٌ) أُبدِلَتِ الهَاءُ هَمزَةً، علَى غَيرِ قِيَاسٍ: (أَاْلٍ). التَقَتْ فِيهِ هَمزَتَانِ، الأُولَى مَفتُوحَةٌ، وَالثَّانِيَةُ سَاكِنَةٌ، فَأُبدِلَتِ الثَّانِيَةُ أَلِفًا. يُوقَفُ علَيهِ بِالسُّكُونِ المُجَرَّدِ. وَيَجُوزُ الرَّومُ وَالتِقَاءُ السَّاكِنَيْنِ، فِي الوَقفِ.

وسوم: العدد 919