اللحن ودواعيه السردية في رواية "مأساة كاتب القصة القصيرة"

يُعرّف اللحن-اصطلاحاً بأنه "مخالفة الفصحى في الأصوات، أو تركيب الجملة وحركات الإعراب أو في بنية الكلمة أو في دلالة الألفاظ". وهو مختصّ-كما يظهر في الدراسات العربية التراثية- بتلك "الأخطاء" التي تقع في الأحاديث الفصيحة للناس والكتاب وليست في اللغة العامية، ويفسّر اللحن على أنه خطأ، ولا بد من تصحيحه، فهو يخالف القواعد المقررة عند أهل الاختصاص فيما لا يجيزه أي رأي نحوي، ضعُف أو قوِي.

وقد أولى الدارسون العرب اللحن عناية خاصة؛ فدرسوا مظاهره في الكلام الفصيح، وألفوا فيه الكتب، وهو مبثوث في كتب الأخبار واللغة والتفسير، وعلى ما يبدو لقد استفاد إبراهيم نصر الله من آراء العلماء العرب القدماء والمعاصرين الذين أجازوا اللحن في بعض المواقف، كالجاحظ مثلاً وأيده من المعاصرين في موقفه هذا العلامة إبراهيم أنيس، ومدار الحديث كله "موافقة الكلام لمقتضى الحال". ولم تكن تخلو تلك المواقف المُجاز فيها اللحن من الاستظراف المحمّل بنوع من النكتة والمشاكسة، كما قال الشاعر القديم:

منطق صائبٌ وتلحن أحياناً// وأحلى الحديث ما كان لحنا

ولعل أشهر خطأ نحوي مقصود في كتب النحو، ما عرف بالمسألة "الزنبورية" بين الكسائي وسيبويه التي قيل فيها أنها السبب في موت سيبويه قهراً، ولا حاجة إلى الاستطراد في توضيحها فهي متاحة في كتب التراث لمن أراد الاستزادة، وإنما أريد فقط أن أسلّط الضوء على ما جاء في رواية إبراهيم نصر الله "مأساة كاتب القصة القصيرة"* من "أخطاء لغوية" متعمّدة، ومحاولة تفسيرها، ومدى ارتباطها بالبنية النصية وأهدافها.

في البداية لا بد من التقرير أن اللغة في الرواية-أيّ رواية- يرتبط-جزء منها- بالشخصيات، فهي –كما الواقع تماماً- تعبّر فيها تلك الشخصيات عن أفكارها، ولا بد من أن تكون لغة الشخصيات موافقة للغتها الواقعية، حتى بعد أسلبتها واستبدال لغة السارد بها، فتنطق وتعبّر كما لو أنها شخصيات من لحم ودم؛ تفكّر، وتغضب وتتظارف ونحو ذلك، ولكل حالة من حالات الشخصيات مستوى لغوي يخصّها، وتختزن فيها مرجعياتها الثقافية والاجتماعية والدينية، وتعبر عن حالتها النفسية. فاللغة في أبسط تعريف لها: "أصوات يعبر فيها كل قوم عن أغراضهم"، فالهدف إذاً من اللغة هو إحداث التواصل المفيد بين شخصين أو طرفين على أقل تقدير.

ومن اللافت للنظر في لغة رواية إبراهيم نصر الله هذه، تخلّلها مجموعة من "الأخطاء اللغوية" المقصودة التي جاءت على لسان أخت السارد، وكانت بينه وبينها. وأخت السارد هذه ليست أمّيّة تتحدث حديثاً عاميّاً، بل كانت مديرة مدرسة، وذات شخصية مسيطرة، ولذلك فإنها كانت تتعمد الخطأ، وهي تتحدث مع السارد، والسارد يقوم بتصحيحها في كل مرة، فيكون الحوار الآتي تعقيبا على تلك الحالة التي لم تخل من السخرية ومن الهدف:

- لكنك فهمت عليّ، أليس كذلك؟

- طبعاً.

- أين المشكلة إذن (ص36)

كان هذا الحوار يتكرر، مع بعض التغيير، في أعقاب كل خطأ تنطق به أخت الساردة عن قصد، وكانت أخطاؤها في اللفظ والدلالة والتصريف.

وفيما يأتي سأورد هذه الأخطاء القصدية لأخت السارد، وقد اشتملت على بعض مظاهر اللحن الواردة في التعريف الذي أوردته آنفاً، علماً أنّ هذه المواقف قد خلت من أي خطأ نحوي، واقتصر اللحن فيها على توظيف المفردات دلالياً أو صياغتها صياغة صرفية غير صحيحة أو غير مناسبة للمعنى المقصود:

- "أنا حريصة على مقامتى" وتقصد مقامي. (ص33)

- "إنها خالية من التشواق، كما أن البطلة مكتلفة جدا" وتريد التشويق ومتكلفة. (ص33)

- أرجو أن يكونوا قد فهموا مستوى إبداعك، فوسموك وجلجلوك. والصواب أعطوك وساماً وأجلّوك. (ص36)

- هذا كان في الأيام المغبرّة. وهي تقصد الغابرة (ص38)

- ما رأيك بأن تزور المدرسة لتحظو بلقائها. والمقصود لتحظى. (ص38)

- إن أظلَّتنا لا تتعب من محالقتنا. وكان عليها أن تقول: ظلالنا وملاحقتنا. (ص38)

لم تمر هذه الأخطاء على فريدٍ السارد دون أن يعطيها البديل الصائب مع بعض الشرح أحياناً، وأحياناً يعبر عن ضجره من هذه الأخطاء المستفزة، فينتفض "محتجاً على أخطائها، ولذا باتت تكررها" (ص37). فهل كان لهذا التكرار من هدف؟

يكشف السارد خلال حديثه عن أخته التي يصفها بـ "الخبيرة اللغوية" (ص60) أنها كانت تكرر هذه الأخطاء من أجل لفت انتباهه، فهو الوحيد من العائلة مَنْ كان يلاحظها ويصححها وتثير دهشته واهتمامه، "ولم تكن تريد أن تجد نفسها خارج هذا الاهتمام". (ص37)

هذه المشاكسات اللغوية التي كانت تقوم بها الأخت تجاه أخيها السارد أوحت له أن يكتب من وحيها قانوناً لغويا إنسانيا في مدونة "حقوق الإنسان" التي يعمل على إنشائها، ويلخص هذا القانون في ما يأتي: "لكل إنسان الحق في التعبير عن نفسه كما يريد، ما دام يتعامل مع أناس لا يجدون صعوبة في فهم كلامه". (ص38) لقد كان يفهم عليها. إذن فمن حقها أن تختار الطريقة التي تريدها. وفي هذا القانون الإنساني سمو كبير في النظرة إلى فردية الإنسان أولا، واحترام لغته وطريقة حديثه، بشرط الفهم وتوصيل الرسالة، ويُبنى على ذلك بطبيعة الحال، لغة الفنون جميعها، لغوية وغير لغوية، ومدار كل لغة وكل فنّ أو تعبير هو الفهم وإحداث التواصل الفعال. وفي هذه الحالة لا اعتبار للتشدد في استخدام القواعد الصارمة في الكتابة الأدبية والتقيد بالشروط الموضوعة، فثمة جرأة مشاكسة تلفت انتباه الآخرين من وراء ذلك الخروج القصدي عن القواعد المقررة.

لقد كانت الحالة اللغوية لأخت السارد في الرواية مرتبطة باللغة وبالحوار مع السارد نفسه، وكأن الرواية تريد أن تقول إن لهذه الحالة اللغوية حالة مشابهة في مجموع السرد المكون لهذه البنية السردية في هذه الرواية، فقد بنيت بطريقة مغايرة، تكسر بعض القواعد الروائية لعلها تلفت انتباه القراء والنقاد، فيدخلون معها في نقاش أو جدال، فمن يخطئ عن عمدٍ، هو الأقدر على معرفة الصواب وممارسته، ولا يستطيع كسر القواعد العامة الفنية إلا المتمرس بها المتقن لصنعتها، وهذا هو، في الأصل، باب الإبداع وسرّه؛ تجاوز المألوف والمعروف.

من باب آخر، فإن هذه الحالة اللغوية لها معادل سرديّ في النص، والجامع بين الحالتين هو "لفت الانتباه والغرابة"، كأن هذين الأمرين هما سر آخرَ للإبداع، وقد أشار إليه السارد عندما أخذ يتأمل الشارع الخالي من المارة أيام الحجر المنزلي، فـ "مرور شخص وحيد يولّد في عقلي عشرات القصص أو لنقل السيناريوهات، مع أن مرور مائة شخص في السابق لم يكن يفعل بي ذلك". (ص175) إذاً، فهذه الغرابة هي التي تولد القصص وتكون المحفز على الإبداع، لذلك فقد وجد في عمل أخته مديرة للمدرسة مكانا خصباً لكتابة القصص كونها ستواجه كثيرا من النماذج الغريبة، ووجده السارد كذلك في أخيه، كحالة تصلح أن تكون نموذجاً قصصيا ناجحاً، ففكر أن يستفيد منه كنموذج غريب، ويعلق على ذلك قائلا: "فما الذي يعنيه أن نتحدث مع نموذج لا جديد فيه ولا غرابة، ....، لذا، كان أخي هذا، مصدراً جيّداً للإلهام". (ص41)

في الحقيقة، قد يبدو هذا الربط تعسفيا بين اللغة وأخطائها والبحث عن الغرابة في السرد، لولا ما أشار إليه السارد نفسه، جامعاً ما بين أخته وعملها من جهة، وما بين الغرابة المطلوبة واللغة المنحرفة عن المعيارية اللغوية من جهة أخرى. يقول فريد في أثناء مناقشته لعلاقته بأخته: "لا أبالغ إذا قلت: إن معرفة أختي الكبيرة لكثير من النماذج الإنسانية، كونها مديرة مدرسة ناجحة، ساعدتها على اكتشاف تلك "المتعة السرية الغاضبة"التي تعصف بي، كلما انتفضت محتجاً على أخطائها، ولذا باتت تكررها". (ص37)

لقد تم توظيف هذه الحالة اللغوية إذاً، لإبراز الدور الحيوي للغة على مستويين؛ لفظي تواصلي بين الشخصيات، وإبداعي ذي رسالة أكبر من مجرد تواصل الشخصيات في الحوارات الخارجية بينها. وقدمت الرواية عبر هذا النموذج الحيّ للاستعمال اللغوي رسالة لعلها ملخصة في أن القانون اللغوي يمكن أن يكون دليلا لما هو أبعد من اللفظ ليشمل العمل الأدبي كله، فكأنّ ما يصدق على جزء منه، وهو هنا اللغة، قد يصدق بحكم منطق ما، على العمل الأدبي بـأجمعه الذي توظف اللغة لتصبح كلاماً خاصاً محكوما بمنطق الإبداع نفسه بما يوحي بفردانيته داخل نطاق الرواية، كما يقول دي سوسير في تعريفه للكلام: "هو كلام الفرد، أو المنطوقات الفعلية نفسها، أي التمثيل المادي اللفظي للغة". ولا بدّ في هذه الحالة من أن يختلف الكلام بوصفه متغيراً عن اللغة ذات النظام الثابت، وهذا عينه ما توفره هذه الرواية كنموذج حيوي لكلام واحدة من الشخصيات المتحركة في الفضاء الروائي.

 

* صدرت الرواية في عدّة طبعات، وقد اعتمدت على طبعة دار طباق للنشر والتوزيع، رام الله، 2021.

وسوم: العدد 926