الاتجاه الاسلامي في شعر عمر أبو ريشة (10 أبريل 1910 – 14 يوليو 1990)

 

DFGHNDGHMDG940.jpg
  هو شاعر سوري معاصر.
يعد من كبار شعراء وأدباء العصر الحديث، وله مكانة مرموقة في ديوان الشعر العربي وهو الشاعر والأديب والدبلوماسي الذي حمل في عقله وقلبه الحب والعاطفة للوطن وللأنسان وللتاريخ السوري والعربي والاسلامي وعبر في أعماله وشعره بارقى وأبدع الصور والكلمات والمعاني .

المولد، والنشأة:

ولد الشاعر عمر أبو ريشة في منبج في محافظة حلب سوريا في 10 ابريل عام 1910م، ونشأ في بيت يقول أكثر أفراده الشعر،
وتنحدر العائلة من الموالي من آل حيار بن مهنا بن عيسى، وهم من الفضول نسبة إلى فضل بن ربيعة من طيء ، وكانت ولادة عمر بن شافع في أسرة يغلب عليها التصوف، فوالده :

  هو شافع بن الشيخ مصطفى أبو ريشة، وُلِدَ في القرعون على ما يروي عمر. وعلى الرغم أنه أصبح قائم مقام في منبج والخليل، فإنه أمضى سنين طويلة منفياً أو دائم الترحال، وبعد عودته من المنفى أقام في حلب، حيث عمل في الزراعة، ثم ترك الزراعة، وقبل منصب قائم مقام طرابلس.

    وكان شافع شاعراً مجيداً، فقد كتب عدة قصائد في رثاء شوقي وحافظ وعمر المختار.

وأما والدته فهي :  خيرة الله بنت إبراهيم علي نور الدين اليشرطي، وهي فتاة من عكا، أما أبوها فقد كان شيخ الطريقة الشاذلية اليشرطي التي كثرت فيها البدع والمنكرات واستحلال المحارم.

      وعنها يقول عمر: «كانت طيَّب الله مثواها مكتبة ثمينة، عنها حفظت الأشعار، والقصائد، والمطوّلات».

    كما يذكرها عمر بالتقدير والثناء، فيقول: «والدتي متصوفة منذ صغرها، أحاطتنا منذ صغرنا بعناية ذكية، وأشاعت حولنا جواً روحانياً، جعلنا لا نقيم وزناً للفوارق المذهبية، تربيتها أمدتني بقوة استطعت بها ولوج دروب الحب. فالضعف يجعل من يبتلي به أضعف من أن يحب».

    ويتحدث عن جانب مهم منها، هو جانب الصوفية، فيقول: «عالم من الأنوثة زاخر بالحب مضيء بالرقة والحنان. غلبت عليها النزعة الصوفية، تشعر بالألم فتغني بصوتها الرخيم لتبدد الألم.

    أحبت من الشعراء المتصوفين علي وفا ، وبحر الصفا، وعبد القادر الحمصي، وحسن الحكيم».
 
    ويضيف: «لقد اتسع حديثها دائماً للحب المحدود والحب المطلق للذات الكبرى، وعلاقة الإنسان بها».

    ومما هو جدير بالذكر أن «أم عمر كانت تروي الشعر وبخاصة الشعر الصوفي.

    وقد عرف عمر التصوف منها، وكذلك أخذ عنها نظرته إلى الدين والحياة والحب، وكذلك مفهومه للتصوف، وكلفه بالجمال، وصداقته للموت».

إخوته، وأخواته :

    اشتهر من إخوته وأخواته ظافر وزينب.

    أما ظافر فله ديوان شعر بعنوان "من نافذة الحب" طُبِعَ عام 1981، وأيضاً له ديوان ثانٍ "لحن المساء"، وأما زينب فكانت شاعرة جيدة، تهافتت كبريات الصحف على نشر قصائدها».

    أما الأخت الكبرى فاسمها سارة.

الوظائف والمسؤوليات :

عمل مديرا لدار الكتب الوطنية في حلب.

انتخب عضوا في المجمع العلمي العربي بدمشق عام 1948م.

وهو عضو الأكاديمية البرازيلية للآداب كاريوكا- ريودي جانيرو

وعضو المجمع الهندي للثقافة العالمية.

وملحق ثقافي لسورية في الجامعة العربية.

وزير سوريا المفوض في البرازيل 1949 م 1953 م

وزير سوريا المفوض للأرجنتين وتشيلي 1953 م 1954 م

سفير سوريا في الهند 1954 م 1958 م.

سفير الجمهورية العربية المتحدة للهند 1958م 1959 م.

سفير الجمهورية العربية المتحدة للنمسا 1959 م 1961م.

سفير سوريا للولايات المتحدة 1961 م 1963م.

سفير سوريا للهند 1964 م 1970 م

الجوائز، والأوسمة :

    حصل الشاعر عمر أبو ريشة على أوسمه من البرازيل، الأرجنتين، النمسا، لبنان، وسوريا، وكرم في العديد من المؤتمرات العربية والدولية والعالمية.

وفاته :

توفي الشاعر عمر أبو ريشة، إثر إصابته بجلطة دماغية في مدينة الرياض في المملكة العربية السعودية، يوم السبت الثاني والعشرين من ذي الحجة عام 1410 هجري، الموافق للرابع عشر من تموز عام 1990 ميلادي، ونُقل جثمانه بطائرة خاصة ليدفن في مدينة حلب في سوريا.

أعماله الأدبية :

للشاعر عمر أبوريشة الكثير من الأعمال والمسرحيات الشعرية الهامة في تاريخ الشعر العربي الحديث.

    ومن هذه الأعمال والدواوين والمجموعات الشعرية نذكر:

1- ديوان بيت وبيان

2- ديوان نساء

3-ديوان كاجوارد.

4-غنيت في مأتمي.

5-أمرك يا رب.

6-مسرحية تاج محل.

7-مسرحية علي.

8- مسرحية سميراميس.

9-مسرحية محكمة الشعراء.

10- مسرحية الحسين.

11-مسرحية شعرية رايات ذي قار.

12- مسرحية الطوفان.

    وللشاعر الكبير ديوان شعر باللغة الإنجليزية، والكثير من المؤلفات والقصائد الشعرية الهامة والتي تعد من أبدع الأعمال الشعرية بين شعراء العرب في النصف الثاني من القرن العشرين.

نموذج من شعره :

ومن بعض أشعاره الخالدة هذه القصيدة الرائعة التي يتابع فيها حملاته على المتهاونين بحق أمتهم وشؤون بلادهم، ويقول فيها:

تتـسـاءلـين عـلام يحيـا هــؤلاء الأشـقـيـاء

المتـعــبون ودربـهـم قفـرٌ ومرماهم هبـاء

الذاهـلون الـواجـمون أمـام نعش الكـبريـاء

الصابرون على الجراح المطرقون على الحـياء

أنـســتـهـم الأيـام مـا ضحك الحياة وما البكاء

أزرت بـدنـياهم ولــم تـترك لـهـم فـيها رجاء

تتساءلين! وكيف أعلم؟ مـا يـرون عـلى البقـاء

امضي لشأنك، اسكتي أنـا واحـدٌ من هـؤلاء

الاتجاه الاسلامي في شعر عمر أبو ريشة :
كتب الشاعر عدة قصائد يظهر فيها الأثر الاسلامي ..حيث كتب ملحمة النبي وقصيدة خالد بن الوليد وكان في قصائده يضمن النص بالأيات القرانية والأحاديث الشريفة ويستلهم التاريخ الاسلامي المجيد ويدعو للوحدة العربية والاسلامية...

(ملحمة النبي صلى الله عليه وسلم) :

يبدأ الشاعر قصيدته بالتصريع فيقول:

أي نجوى مخضلة النعماء
              رددتها حناجر الصحراء

سمعتها قريش فانتفضت غضـ
      ـبى وضجت مشبوبة الأهواء

ويصور حالة الغضب عند قريش فيقول:

ومشت في حمى الضلال إلى الكعـ
          ـبة مشي الطريدة البلهاء

وارتمت خشعة على اللات والعز
          ـى وهزت ركنيهما بالدعاء

وبدت تنحر القرابين نحراً
            في هوى كل دمية صماء

وانثنت تضرب الرمال اختيالاً
                بخطىً جاهلية عمياء

ومهما كادت قريش للدعوة والداعية فان نصر الله لهذا النبي أت بلا ريب:

عربدي يا قريش وانغمسي ما
      شئت في حمأة المنى النكراء

لن تزيلي ما خطه الله للأر
        ض وما صاغه لها من هناء

ومن حكمة الله أنه اختار جزيرة العرب مهدا للرسالة:

شاء أن ينبت النبوة في القف
ـ        ر ويلقي بالوحي من سيناء

فسلي الربع ما لغربة عبد الل
        ـه تطوى جراحها في العراء

ما لأقيال هاشم يخلع البش
            ـر عليها مطارف الخيلاء

انظريها حول اليتيم فراشاً
              هزجاً حول دافق لألاء

    وهرع أبو طالب يذبح القرابين شكرا للألهة وفرحا بولادة محمد، وأعتق عمه أبو لهب جاريته فرحا بالمولد الجديد:

وأبو طالب على مذبح الأص
        نام يزجي له ضحايا الفداء

هو ذا أحمد فيا منكب الغب
          ـراء زاحم مناكب الجوزاء

بسم الطفل للحياة وفي جن
          ـبيه سر الوديعة العصماء

    ويتحدث الشاعر عن رضاعه عند حليمة السعدية وكيف نشأ نشأة قوية في مهاد الصحراء:

هب من مهده ودب غريب ال
            دار في ظل خيمة دكناء

تتبارى حليمة خلفه تع
        دو وفي ثغرها اغترار رضاء

عرفت فيه طلعة اليمن والخي
            ـر إذا أجدبت ربا البيداء

وتجلى لها الفراق وأغضت
  في ذهول وأجهشت في البكاء

  لقد رأت حليمة من بركاته ما أدهش عقلها لذلك نراها تجهش بالبكاء حين أعادته الى أمه أمنة:

عاد للربع أين آمنةٌ والـ
ـ    حب والشوق في مجال اللقاء

ما ارتوت منه مقلة طالما شقـ
            ـت عليه ستائر الظلماء

يا اعتداد الأيتام باليتم كفكف
            بعده كل دمعة خرساء
   
      لقد نشأ محمد يتيما وعندما شب صار مضرب المثل في العفة والصدق والحياء حتى لقبوه بالصادق الأمين:

أحمد شب يا قريش فتيهي
في الغوايات واسرحي في الشقاء

وانفضي الكف من فتى ما تردى
                برداء الأجداد والآباء

أنت سميته الأمين وضمخ
          ـت بذكراه ندوة الشعراء
وعندما جاءه الوحي وصدع بالحق هرعت قريش الى عمه أبي طالب وعرضت عليه المال والجاه والنساء والملك حتى يترك النبوة فكان جوابه الخالد الذي رددت صداه الصحراء : ( والله ياعم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهر الله أو أهلك دونه..

فدعي عمه ، فما كان يغري
        ـه بما في يديك من إغراء

جاءه متعب الخطى شارد الآ
          مال ما بين؛ خيبة ورجاء

قال: هون عنك الأسى يا بن عبد
        الله، واحقن لنا كريم الدماء

لا تسفه دنيا قريش تبوي
          ـك من الملك ذروة العلياء

فبكى أحمد، وما كان من يب
            ـكي ولكنها دموع الإباء

فلوى جيده ، وسار وئيداً
            ثابت العزم مثقل الأعباء

  ولقد حبب اليه الخلاء، فلجأ الى غار حراء الذي نزل عليه فيه القرأن، وتواصلت الأرض بالسماء:

وأتى طوده الموشح بالنو
        ـر وأغفى في ظل غار حراء

وبجفنيه من جلال أماني
            ـه طيوف علوية الإسراء

وإذا هاتف يصيح به: (اقرأ)
            فيدوي الوجود بالأصداء

وإذا في خشوعه ذلك الأم
                ـي يتلو رسالة الإيحاء

وإذا الأرض والسماء شفاه
                  تتغنى بسيد الأنبياء

    وحين عجزت قريش عن ثنيه بكافة الوسائل لجأت الى العنف فصبت عليه وعلى أتباعه البلاء صبا، وحاولت قتله فأذن الله له بالهجرة:

جمعت شملها قريش وسلت
              للأذى كل صعدة سمراء

وأرادت أن تنقذ البغي من أحم
              مد في جنح ليلة ليلاء

    وأسرع علي رضي الله عنه لينام في فراش رسول الله ، ولكي يكون فداء له :

ودرى سرها الرهيب عليٌّ
    فاشتهى لو يكون كبش الفداء

قال: يا خاتم النبيين أمست
                مكة دار طغمة سفهاء

أنا باق هنا، ولست أبالي
      ما ألاقي من كيدها في البقاء

سيروني على فراشك والسيـ
        ـف أمامي وكل دنيا ورائي

حسبي الله في دروب رضاه
            أن يرى فيَّ أول الشهداء

فتلقاه أحمد باسم الثغـ
    ـر عليماً بما انطوى في الخفاء

وسار النبي الكريم مهاجرا الى يثرب ومعه صديقه الودود أبو بكر الصديق رضي الله عنه:

أمر الوحي أن يحث خطاه
        في الدجى للمدينة الزهراء

وسرى واقتفى سراه أبو بك
            ر وغابا عن أعين الرقباء

وأقاما في الغار والملأ العلو
                ي يرنو إليهما بالرعاء

وقفت دونه قريش حيارى
            وتنزت جريحة الكبرياء

وانثنت والرياح تجأر والرم
          ل نثير في الأوجه الربداء

    وصور الشاعر فرحة الأنصار في المدينة بقدوم المهاجر الحبيب:

هللي يا ربا المدينة واهمي
            بسخي الأظلال والأنداء

واقذفيها: الله أكبر حتى
          ينتشي كل كوكب وضاء

واجمعي الأوفياء. إن رسول اللـ
              ـه آت لصحبة الأوفياء

وأطل النبي فيضاً من الرحـ
ـ    مة يروي الظماء تلو الظماء

والصلاة الطهور عالية الأص
                داء جوابة بكل فضاء

هزت الجاهلي فاهتز أنسا
              ناً نجي الرسالة العذراء

وقريش في يقظة الحقد وهج
            من عناد ولفحة من عداء

كلما مر مؤمن بحماها
                  قذفته بطعنة نجلاء

خسة تترك المروءة غضبى
          وترد الحلوم صرعى حياء

    وعندما كثر أذى قريش للنبي وأصحابه دعا المسلمين الى الجهاد لانتزاع الحقوق:

ضاق ذرعاً بها النبي فنادى
          فإذا الصافنات رجع النداء

وإذا الصيد فوقها يحملون الشـ
            ـهب أسياف نخوة شماء

وتخطاهم النبي، فساروا
      في ركاب الهدى إلى الهيجاء

لم يرقه سفك الدماء، ولكن
        عجز الحلم في انتزاع الداء

درن النفس ليس يمحى إذا لم
          تجر فيه مباضع الحكماء

وإذا الحلم لم تجد فيه بنا
          ء فأكرم بالسيف من بناء

غزوة بدر :

التقى المسلمون مع المشركين في بدر وكان عدد المسلمين ثلث الكفار ولكن الله أمدهم بالنصر فقتل منهم سبعون وأسر سبعون:

وقف الحق وقفة عند بدر شحذت في الغيوب سيف القضاء

ووراء التلال ركب أبي سفـ
          ـيان يحمي سرية الفيحاء

وقريش في جيشها اللجب تسعى
        بين وهج القنا وزهو الحداء

بلغت منحنى القليب ولفت
          من عليه ببسمة استهزاء

وأرادت اكفاءها فتلقا
                ها علي ذؤابة الاكفاء

جز بالسيف عنق شيبة وارتـ
    ـد إلى صحبه خضيب الدماء

فطغى الهول، والتقى الند بالنـ
        ـد وماجا في لجة هوجاء

وعيون النبي شاخصة تر
    قص في هدبها طيوف الرجاء

ودنت منه عصبة الإثم والمو
        ـت على راحها ذبيح عياء

فرماها بحفنة من رمال
                ورنا ثائر المنى للعلاء

ودعا (شاهت الوجوه) فيا أر
ض اقشعري على اختلاج الدعاء

قضي الأمر يا قريش فسيري
      للحمى واندبي على الأشلاء

واحذري الطيب أن يمس غلاماً
          في ندي أو غادة في خباء

وأعدي للثأر حمر السرايا
          واحشديها للوثبة الرعناء

يوم بدر يوم أغر على الأيـ
    ـام باق إن شئت أو لم تشائي

ركز الله فيه أسمى لواء
      وجثا الخلد تحت ذاك اللواء

غزوة أحد:

وبعد مرور حول على هزيمة قريش في بدر قررت الثأر لقتلاها من محمد وأصحابه:

طوي الحول وانطوى أحد فيـ
        ـه ولم تحملي سوى الضراء

أي ذل على جفونك يعوي
            وركاب النبي ملء العراء

حل في مكة ووجهك في التر
    ب خضيب ووجهه في السماء

ثم كان الفتح ، ودخل المسلمون المسجد وصلوا فيه وحطم الرسول أصنام قريش:

ومشى للصلاة والكعبة السمـ
          ـحة في غمرة من النعماء

وتعالى التكبير: يا سدة الأصـ
          ـنام ميدي ويا علوج تنائي

واشهدي يا سماء أن رسول اللـ
            ـه أوفى بالعهد خير وفاء

    وبعد أن أدى رسول الله الأمانة، وبلغ الرسالة، وترك المسلمين على المحجة البيضاء قبضه الله اليه فانتقل الى الرفيق الأعلى:

وجم المؤمنون في رهبة الظـ
        ـن وناموا على رؤى سوداء

وتمطى على المدينة صبح
        كاسف الوهج قاتم الأفياء

أحمد ودع الحياة فيا فا
      روق أقصر ما فيك من غلواء

كل حي رهن الفناء وتبقى
          آية الله فوق طوق الفناء

يا نجي الخلود تلك سرايا
ـ                ك على كل ربوة غناء

حملت صبوة الشآم وفضت
            ها أريجاً على فم الزوراء

وشجتها غرناطة، فشفت من
            ها فؤاد الصبية الحسناء

فإذا الأرض في عرائسك الأب
      كار مغنى سنى ومجلى سناء

حلم وانقضى فيا للمناجي
              زهر أطيافه ويا للرائي

يا عروس الصحراء ما نبت المجـ
        ـد على غير راحة الصحراء

كلما أغرقت لياليها في الصمـ
ـ        ت قامت عن نبأة زهراء

وروتها على الوجود كتاباً
      ذا مضاء أو صارماً ذا مضاء

فأعيدي مجد العروبة ، واسقي
          من سناه محاجر الغبراء

قد ترف الحياة بعد ذبول
        ويلين الزمان بعد جفاء
ويالها من خاتمة رائعة لتلك الملحمة حيث تمنى الشاعر عمر أبو ريشة أن تستمر الأمة في تستطير الانتصارات ومتابعة الفتوحات حتى يعم الخير والنور والسلام ربوع العالم...

أضواء على النص:

هذا النص سماه شاعره (محمد)، ويقول الدكتور حيدر غدير: أما قصيدة محمد؛ فقد كان دائماً يضع بجوار عنوانها هذه الجملة: (مقدمة ملحمة النبي)

التي لم تر النور على الرغم من كثرة الوعود وتطاول الأيام، وتقع في مئة بيت، وهي على البحر الخفيف الذي يؤثره الشاعر ولها روي واحد وهو الهمزة المكسورة المسبوقة بألف ممدودة)[2]

والملحمة قصة شعرية بطولية، وهذه القصيدة تجمع من عناصر كلا الفنين؛ الفن الملحمي، والفن القصصي.

الوحدة العضوية في الملحمة:

تبدأ الملحمة خطوتها الأولى بالاستفهام التعجبي:

أي نجوى مخضلة النعماءِ
  رددتها حناجر الصحراءِ

الصحراء اللاهبة العطشى تغدو ظليلة رطيبة منعمة ذات نجوى حبيبة تترنم الصحراء بتردادها.

أما قريش؛ فلم يرق لها هذا النغم الحبيب فطاش حلمها وتبذل ما وسعها البذل.. فلن تزيل السعادة التي حباها الله للبشرية؛ ذلك لأن إرادة الله تعالى شاءت أن تنبت النبوة بواد غير ذي زرع، وأن تنسخ شريعة بني إسرائيل.

ويهل اليتيم صلى الله عليه وسلم إلى الوجود مناراً ورحمة مهداة.. وتتلقاه أمه حليمة بالبشر، وترى اليمن في طلعته الكريمة....

ويشب صلى الله عليه وسلم مبرأ من أوضار الجاهلية فنشأ صافياً حتى لقد أطلقت عليه قريش اسم (الأمين).

ومع ذلك؛ فقد مشت إلى عمه أبي طالب تكلمه في شأن ابن أخيه ليكف عنها..

وآذن الله بالهجرة إلى المدينة المنورة.. وطاشت أحلام قريش، وماذا في المدينة المنورة؟ إنه التأييد والنصرة..

وجاءت قافلة أبي سفيان.. واستنفرت مكة لحماية القافلة.. ونجت، ولكن حماقة قريش أبت إلا أن تتابع مسيرة الكبرياء والغطرسة إلى مياه بدر.

وتقابل الفريقان: وتبدأ المعركة بالمبارزة... وكان الالتحام، وقتلت صناديد قريش وأبطالها، وفر الباقون.

غدت قريش ثكلى طيلة عام حتى أدركت ثأرها في أحد..

وبعد حين، لم تدر قريش إلا وجيش الرسول صلى الله عليه وسلم يحيط بمكة... ويعفو عن أهلها.ثم انتقل صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى.

وانطلقت سرايا الإسلام تضرب في الأرض شرقاً وغرباً.

فيا مكة أعيدي ذلك المجد التليد الخالد، وما أدراك أن يعود.

أضواء على النص:

يقول الدكتور إحسان عباس (ليس الشاعر هو الذي يفسر شعره أو يحكم عليه، ومن النقص أن نسأله: ماذا تعني هنا؟ وماذا تعني هناك؟ إن الشاعر قد يكون غامضاً أحياناً، ولكن الغموض في الأغلب يكون في أنفسنا وفي الحواجز التي تقوم فيها دون تحقيق الوضوح)[3]

صحيح أن الشاعر لا يفسر شعره، ولا يحكم عليه، أما ان يقول كلاماً مستغلق المعنى ونسوغه له، والأكثر من ذلك، أن نتهم أنفسنا في الحواجز التي تقوم في أنفسنا دون تحقيق الوضوح؟ فهذا مبدأ ربما غدا ثغرة يتسلل منها المغرضون باسم الشعر واسم النقد، والدكتور لم يعلمنا؛ كيف ومتى نمحوا الحواجز من أنفسنا؛ حتى إذا كان الغموض من الشاعر ندرك ذلك؛ فلا نتهم أنفسنا، ولكن ربما يوحي الدكتور أنه يحلو له تبرئة ساحة الشاعر من الغموض وإن كان واقعاً فعلاً في طرحه الشعري، ونحن لو سألنا الشاعر نفسه عن مبدأ الدكتور إحسان، فربما لا يقر هذا المنطلق الذي يكاد يعطي الشاعر العصمة من الغموض، وهنا يتداعى إلى الخاطر سؤال: ما المعالم التي نستدل بها على الغموض؛ إن كان في أنفسنا أم في نفس الشاعر؟.

إن ناقداً كالدكتور إحسان، لو سلط الأضواء على نص شعري وقرر أن فيه غموضاً، ما أظن أن أحداً يتهمه بغموض كامن في نفسه عن فهم النص، ولا أظن أنه هو نفسه يتهم نفسه بغموض ناتج عن قصور في إدراك فهم الدلالة، كل ما في الأمر في نظرنا؛ أن فكر الشاعر كان غائماً في توصيل هذا المعنى أو ذاك بشكل واضح، فهذا غير مستحيل ولا مستبعد، بل ما أكثر النصوص التي نشكو من الغموض قي نقل الدلالة إلى المتلقي.

نحن هنا سنحلل، ونقوِّم، وطبعاً ليس لنا أن نسأل الشاعر في هذه الدراسة عن معنى لم يتضح لنا، وإنما سيكون فهمنا للعمل الشعري وحكمنا عليه من خلال الدلالة التي تشي بالمعنى.

نحاول ابتداءً نلقي الضوء على نقطة التفجير التي تم في لحظة تنويرها المخاض الفني، ثم التنامي الداخلي حتى اكتمال التجربة الشعورية وانعكاساتها في ظلال من القيم التعبيرية. فنقول:

عاطفة الشاعر هنا عاطفة الإنسان المدحور أمام القوة المادية الطاغية، عاطفة سليل المجد وحفيد أبطال الفتوح أمام المستعمر الغاشم. هذه هي أصول المشاعر المتصارعة في نفس الشاعر، فما الذي يقيم التوازن الداخلي في هذا الصراع؟ لا بد من معادل موضوعي ضخم لذلك، وهذا المعادل هو انبثاق الملحمة، ومصدر هذا الانبثاق هو: الصحراء.

هذا ابسط تعليل للأعماق اللاشعورية ومعطياتها، لقد انبثق التفجير بنقطة التنوير معتمداً على جدلية النور والظلام:

أي نجوى مخضلة النعماء
رددتها حناجر الصحراء
سمعتها قريش فانتفضت غض
بى وضجت مشبوبة الأهواء

ويبدو أن الشاعر كان مشبعاً بفكرة الملحمة، وكان جوه النفسي عامراً بمعانيها غني الإحساس بها.

    نظم الشاعر هذه الملحمة عام 1941م حينما كانت بلاده تحت نير الاستعمار الفرنسي، إن العقل الباطن للشاعر يرسم هنا طريق الخلاص لشعبه من الكافر الظالم الذي سلب الشعب السوري الأبي حريته ودنس أرضه، فم على الشعب السوري المعروف بإبائه بين شعوب العالم، ما عليه إلا ان يتبع الأسوة الحسنة صاحب هذه الملحمة صلى الله عليه وسلم في مجابهة الظلم.

هذه هي خلفية المعاني التي ترمز إليها الملحمة في مسيرتها البطولية.

شرعت الريشة الداخلية في رسم أجواء قريش وآفاقها، وفي الوقت نفسه نرى نظيرتها تعبر عن هذه الأحاسيس التي غدت بمثابة الظل لعمل هذه الريشة إذ تترك آثارها على أرضية العمل الفني فينشأ الأساس الهيكلي للبناء، فتتكامل اللوحة في قيمة تعبيرية.

اللوحة ما زالت طرية التكوين، والحدث ينمو داخلياُ ن فيشكل جسم التجربة الشعورية وينمو بنموه جسم القيمة التعبيرية. إلى أن يصل المشهد إلى أرض المعركة:

وقف الحق وقفة عند بدر  شحذت في الغيوب سيف القضاء

ثم يصور استهزاء قريش بالمسلمين.. ثم طلبوا الأكفاء للمبارزة:

بلغت منحنى القليب ولفت
من عليه ببسمة استهزاء

وأرادت أكفاءها فتلقا
ها علي ذؤابة الأكفاء

جز بالسيف عنق شيبة وارتد
إلى صحبه خضيب الرداء

يتساءل من قرأ السيرة النبوية الشريفة وفيها معركة بدر: أين بطل الإسلام حمزة، أسد الله ورسوله؟ ذلك الذي فعل بأبطال المشركين الأفاعيل؟ وهو الأول في المبارزة في معركة بدر، قتل الأسود المخزومي، وهو من هو في جيش قريش، لقد رشحته ليكون بطلها الذي يجندل أبطال المسلمين، ومن الذي برز لهذا التنين؟ لقد برز له حمزة فقتله بالحوض.

ويقول الشاعر: إن علياً هو الذي قتل شيبة، قال ابن هشام (وبارز حمزة شيبة بن ربيعة، وبارز علي الوليد بن عتبة، وأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله، وأما علي فلم يمهل الوليد أن قتله..)[4].

الفن التصويري في الملحمة:

الفن الشعري التصويري عند أبي ريشة محلق مبدع، لقد تأثر بفيرلين وبودلير من خلال قراءاته لهذين الشاعرين؛ وهذا ما لون شعره بأفواف الصور فالنجوى مخضلة النعماء، ترددها حناجر الصحراء.

وكأن الشاعر أراد أن يثبت براعته التصويرية، لذلك راح يزج بصور تترى:

أقيال هاشم يخلع البشر عليها مطارف الخيلاء.

ويحلق الشاعر بهذه الصورة (وأتى طوده الموشح بالنور).

وهذه صورة إيمانية رائعة، فلم يكن حراء في نظر الشاعر موشحاً بالسحب كما رآه ابن خفاجة في جبله الأرعن طماح الذؤابة:

يلوث عليه الغيم سود عمائم
لها من وميض البرق حمر ذوائب

ولا ما رآه امرؤ القيس:

كأن ثبيراً في عرانين وبله
كبير أناس في بجاد مزمل

فلكل مقام مقال.

وفي لحظة استغراق:

وإذا الأرض والسماء شفاه
              تتغنى بسيد الأنبياء

وربما لاحظ القارئ توافق الخواطر مع شوقي في همزيته:

ولد الهـدى فالكائنات ضياء
        وفم الزمان تبسم وثنـاء

الصور الإيمانية رائعة. أما الصور العقلية فجافة كهذه الصورة: (ذبيح عياء)

وصور معركة بدر يشكل عام أقل حظاً من الصور السابقة عليها.وقد صور الشاعر وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حينما ودع الحياة، فهل يكفي ترشيد الفاروق ليقصر عن الغلواء؟ إذا كانت الأرض والسماء شفاه تتغنى في المولد الشريف، فأبسط صور المقابلات الشعرية أن تكون الأرض والسماء عيوناً تدمع لوفاة سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم. أم يفطن شاعرنا إلى أقرب ما يمثل أمام المخيلة؟ صورة المسجد الباكي بكاء اليتيم اللطيم؟ أهكذا دفعة واحدة

كل حي رهن الفناء وتبقى
      آية الله فوق طوق الفناء

وهل يرثي شاعرنا الحكيم ديوجين أستاذ الإسكندر الأكبر؟.. أم هل تقمص شخصية المعري الرثائية؟.

وختام النص، فيه الكثير من التفاؤل.

البناء الخارجي:

الوحدة اللغوية: ألفاظ منتقاة، كأن الشاعر من أصحاب الحوليات.. من عبيد الشعر، ولكننا نعثر بهذا الفهر في قول الشاعر:

(وفي ثغرها افترار رضاء). دع توالي حرف الراء، إن شاعرنا شامي، معنى ذلك أنه في النحو على المذهب البصري، وهذا المذهب يجيز قصر الممدود، ولا يجيز مد المقصور، ولو تركنا القاعدة النحوية جانباً، ولو حاول القارئ أن يلفظ (رضاء) ألا يشعر بان جوفه تفرغ؟ وأن المد أكره إكراهاً؟ وعوامل جاذبية الحرف وخصائصه تتقلص وتنكمش لتمنع هذا المد غير الطبيعي، خلافاً لبقية القوافي المستقرة المتمكنة المرتاحة.

أما (الأظلال) فهي صحيحة معجمياً، وهي في الفن الجمالي غير سائغة، أليست لفظة (الظلال) أسلس منها؟ الأمر هنا ذوقي لا يتعلق بقاعدة، فيحسن أن نضحي بالإيقاعية التوافقية بين (الأظلال و الأنداء) ولاسيما أن فيها تأكيد الحرف اللثوي الثقيل الساكن (أظ) نضحي بهذه الإيقاعية النابية ونقدم كلمة (الظلال) فتكون ألطف نطقاً وانسيابية.

أما الوحدة اللغوية في تصوير المعركة، فيجب ان يكون لها مذاقها الخاص المتميز، لأن هذا المشهد هو متن الملحمة، وألفاظها بمثابة العضل في الجسم، في تصوير المعركة لا نرى التألق المأمول المتوقع، قياساً إلى بقية المشاهد.

ولكن الشاعر يعود إلى الأسلوب الإنشائي التساؤلي وهو بارع فيه فيقول في فتح مكة مخاطباً قريشاً: (أي ذل على جفونك يعوي).

وفي أواخر الملحمة نجد هذا التركيب: (يا نجي الخلود) فالياء المشددة تشد معها أوتار القلوب فتبعث في النفس موسيقا خاصة بها ذات إيقاع تأثري.

فماذا عن الموسيقا في هذا النص؟:

بدأ المطلع مصرعاً، وفيه إيقاعية داخلية وخارجية نامية مجلجلة، ولكن ما إن ينتقل إلى البيت الثاني حتى يفاجأ القارئ بانقطاع الوتر الداخلي لتركز الموسيقا على القافية، وهي قافية مريحة مع هذه المدود كأمواج رمال الصحراء وامتداد السماء، نجد في الملحمة ستين بيتاً قتل موسيقاها الداخلية التدوير، لا أدري علة هذا المنحى، فهل تأثر شاعرنا بمعلقة الحارث بن حلزة اليشكري ومطلعها:

آذنتنا ببينها أسماء
      رب ثاو يمل منه الثواء

فهي على وزنها، وثلاثة أرباع أبيات مدورة.

فإلى أي مدى حققت هذه الملحمة الوحدة العضوية؟:

إن الوحدة العضوية لا تعني مجرد الربط بين المشاهد، وإنما تعني أساساً ذلك النسيج الداخلي المتصل الذي يشمل أسلوب التفكير والتصوير والتعبير، وقد جاء البناء الداخلي في بناء مطرد تتخلله ثغرات في نسق تكامل اللوحة في مشاهد المعركة، و لهذا جاء البناء الخارجي مرآة لتلك المشاهد، فالاضطراب في الألفاظ أو في المشهد الخارجي، جاء وفقاً لما هو عليه في نفس الشاعر، كما يقول الإمام الجرجاني[5]: الاضطراب في المباني سببه الاضطراب في المعاني، وقد رأينا تعثر تكامل لوحة معركة بدر، وتشوهها ولو من بعض الوجوه.

ثمة أمر جوهري نلفت النظر إليه وهو أن الملحمة رسمت الأجواء الخارجية ولم تدخل على النفسيات، وهذا عنصر مهم جداً في العمل الملحمي؛ فالبعد الداخلي تحسن أن يتوازن مع البعد الخارجي، كالشجرة غاص منها في الأعماق من جذور بمقدار ما ظهر منها من جذوع وفروع وأغصان.

إن هذه الملحمة قصة شعرية لأنها نسجت على منوال قصصي، وكل ملحمة قصة ولا عكس لأن القصة الشعرية تدخل في كل فنون الشعر الغنائي.

وجدنا في هذه الملحمة بعض العناصر القصصية من موضوع وشخوص، أما بقية العناصر فإنا نفتقدها، وقد جاء الأسلوب سردياً أقرب ما يكون إلى السرد التاريخي المصور، فالنص فيه بعض الصفات الملحمية نسج على منوال القصة بأسلوب موضوعي، وفيه بعض الصفات القصصية.

خالد بن الوليد - رضي الله عنه:


وكتب (عمر أبو ريشة) ممجدا بطولة خالد :

وخالد بن الوليد بن المغيرة المخزومي القرشي (توفي سنة 21هـ/642م) هو صحابي وقائد عسكري مسلم ، لقّبه الرسول بسيف الله المسلول. اشتهر بتكتيكاته وبراعته في قيادة جيوش المسلمين في حروب الردة، وفتح العراق والشام،
في عهد خليفتي الرسول أبي بكر وعمر في غضون عدة سنوات من عام 632 حتى عام 636. يعد أحد قادة الجيوش القلائل في التاريخ الذين لم يهزموا في معركة طوال حياتهم ، فهو لم يهزم في أكثر من مائة معركة أمام قوات
متفوقة عدديًا من الإمبراطورية الرومية البيزنطية
والإمبراطورية الساسانية الفارسية وحلفائهم ، بالإضافة إلى العديد من القبائل العربية الأخرى.

  اشتهر خالد بانتصاراته الحاسمة في معارك اليمامة وأُلّيس والفراض، وتكتيكاته التي استخدمها في معركتي الولجة واليرموك.

ولنستمع الى عمر أبو ريشة ، وهو يقول :

أَعـلـِمْـتـُمْ مَن الفتَى المتثنِّي بوشاح البطولةِ الأُرْجُـواني؟!

إنـَّه ابـنُ الـولـيـدِ زغْرُدةُ النَّصرِ وأنشودةُ الجهادِ البـاني

مـرَّ فـي نـاظـريَّ طيفاً بعيداً عبقريَّ النِّضال ثبْتَ الجنـانِ

وكـأنِّي أراه يضرِبُ شرقَ الأرضِ بالغرب ، مُشـرقَ الإيمانِ

وأرى كبـريـاءَه دمـعـةَ الـتَّكفير مسفوحةً على القـرآنِ

* * *

    لقد انخرط خالد في الفتوحات الاسلامية فشارك في فتح مكة وحروب الردة وفي فتح بلاد العراق وفارس والشام :

صـدقَ الـعـهـدَ ، فـالفتوحُ تَوَالى وصدى خالدٍ بكلِّ مكانِ

أيـنـمـا حـلَّ فـالمـآذن تـرجيعُ أذانِ المهيمـن الديَّانِ

وبـدا الـرومُ فـي ضـَلال مُـناهم شوكةً في معاقد الأجفانِ

فـأتـاهـم بـحفـنةٍ من رجــالٍ عندها المجدُ والرَّدى سِيّانِ

و رمـاهـم بـهـا، ومـا هـي إلا جولةٌ ، فالترابُ أحمرُ قانِ

وضـلـوعُ الـيرموك تجري نعوشاً حاملاتٍ هوامدَ الأبدانِ!
* * *
ولكن الفاروق الذي كان حريصا على صفاء عقيدة التوحيد خشي أن يفتتن المسلمون ببطولات خالد فعزله فتقبل خالد ذلك القرار وقاتل بشجاعة كجندي في جيش الجراح وقال مقولته الخالدة :

انا نقاتل كي يرضى الاله بنا
ولا نقاتل كي يرضى بنا عمر
ويبدع الشاعر عمر أبو ريشة في تصوير هذا الموقف ، فيقول :

هـلـَّل الـمؤمنون واهتزت البشرى تروِّي حناجرَ الرُّكبانِ

فـإذا خـالـدٌ عـلى كل جفن خطراتٌ من الطُّيوف الحِسانِ

فتـنة خـيفَ أن يـشيع بها الزَّهــوُ فتلوي بالقائد الفتانِ

فنحـاه الـفـاروقُ فـانـضم للجنـد فخوراً بعزَّة الإذعانِ

وتـراءى أبـو عـبـيدة في الفيحــاء يحمي قيادة الفرسانِ

وفـتـى الـنـُّبل خالدٌ يقحم الأسوار في نخبـة من الفتيانِ

لـم تـزعزع من عزمه إمرةُ الفاروق بل فجَّرته فيضَ تفاني

وإذا راضـت العـقيدةُ قلباً فمن الصَّعب أنْ يكون أنــاني!!

حقا ان الايمان اذا خالطت بشاشته القلوب فانه يصنع المعجزات ..

* * *

يـا مـسجَّى فـي قُبة الخلد يا خالدُ هل من تلفُّتٍ لبيـاني؟

لا رعاني الصبا إذا عصف البغيُ وألفى فمي ضريحَ لسـاني!!

أقـسـم المجـدُ أن أقـطّـع أوتاري عليه بأكرم الألحـانِ

أنـا مـن أمَّـة أفاقت على العزّ وأغفت مغموسةً في الهوانِ

عـرشُـهـا الرثُّ من حراب المغيرين وأعلامها من الأكفانِ

لا تـقلْ ذلَّت الـرجولة يا خالد واستسلمت إلى الأحـزانِ

حـَمْحَماتُ الخيول في ركْبكِ الظَّافر ما زِلنَ نشوةَ الآذانِ

قـمْ تلفّـتْ ترَ الجنود - كما كانوا- منارَ الإباء والعنفوانِ
وهكذا صور الشاعر تواصل البطولات في تاريخنا المجيد ودعا شباب الأمة ليكونوا خير خلف لخير سلف .

المتصم بالله:

    وقعت النكسة عام 1967م، واحتل الصهاينة القدس والضفة والجولان وسيناء ، فأصابت الخيبة والقنوط أبناء الأمة وراح الشاعر عمر أبو ريشة يصور المصيبة بريشة الفنان، وألقى بالمسؤولية على الحكام الخونة الذين فقدوا نخوة المعتصم الذي جهز الجيوش الجرارة لينقذ امرأة مسلمة من ظلم الروم :

رب وامعتصماه انطلقت
          ملء أفواه الصبايا اليتم

لامست أسماعهم لكنها
        لم تلامس نخوة المعتصم
وبعد فشل عمر أبو ريشة في مغامراته الجنسية في فرنسة وبعد حياة اللهو والترف تحطم قلبه فركن الى الحزن والأسى والهدوء بل انه تعلق بالدين الاسلامي وأراد أن يعمل للدعاية له في لندن فكتب مقالة نشرتها مجلة الجهاد الصادرة في حلب في 6 من مارس 1932م وعنوانها: ( التبشير الاسلامي وأثره في بلاد الغرب)، وقد ذكر فيها أنه زار جامع لندن ولقي الهنود المسلمين وتحدث اليهم وعرف ما يصنع التبشير في أسيا وافريقية وفي ذلك يقول : ( وليعلم اخواننا المبشرون المسيحيون أن الدين الاسلامي هو دين هداية وأخلاق لا دين تضليل ونفاق )، ثم بعد ذلك أرسل الى مجلة الجهاد في 25 من فبراير 1932م قصيدة يبكي فيها الشيخ مصطفى نجا المفتي الأكبر في لبنان كشف فيها عن عقيدته الاسلامية وتعلق الشاعر بالتصوف والحكمة والقضاء والقدر فيقول:

كرام العرب صبرا كل حي
سيثوي فوق ترب الهامدينا
وكل مصيبة مهما ادلهمت
على غير التصبر لن تهونا
تناسوا امرة الدنيا فانا
الى الديان يوما راجعونا
ففي هذه الأبيات اشارات واضحة لتصوفه وايمانه بالقضاء والقدر وهذا الشعر الديني لايقوله شاعر في مثل سنه الا متأثرا ببيته وبيئته او بظروف عيشه وحياته وهو بها يتشح بالحزن والأسى ...

الوحدة الاسلامية:
ان المصائب والمحن توحد شمل الشعوب المتفرقة ولقد أكد الشاعر عمر أبو ريشة على وحدة الالام والمشاعر التي تجمع شمل الأمة المسلمة حولها فقال:
لمت الألام منا شملنا
ونمت ما بيننا من نسب
فاذا مصر أغاني جلق
واذا بغداد نجوى يثرب
بورك الخطب فكم لف على
سهمه أشتات شعب مغضب
وأصبحت الأمة كالجسد الواحد اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.

قضية القدس:
وتبقى القدس عروس المدائن وعاصمة الأنبياء ومسرى رسول الله ومعراجه الى السماء ولقد احلت القدس مكانة سامية في نفس عمر حيث يقول فيها:
ياروابي القدس يا مجلى السنا
يا رؤى عيسى على جفن النبي
دون عليائك في الرحب المدى
صهلة الخيل ووهج القضب..
وأكد الشاعر في القصيدة ذاتها أن الحق لايموت ما دام وراءه مطالب:

لايموت الحق مهما لطمت
عارضيه قبضة المغتصب

جراح الأمة:

وكتب الشاعر  عمر أبو ريشة قصيدة تحت عنوان : ( أمتي هل لك بين الأمم)، وعدد الأبيات : 22 يقول فيها:

أمتي هل لك بين الأمم
منبر للسيف أو للقلم
أتلقاك وطرفي ….. مطرق
خجلا من أمسك المنصرم
ويكاد الدمع يهمي عابثا
ببقايا ….. كبرياء ….. الألم

    فهو خجل من النكسة التي أصابت المسلمين في فلسطين..عام 1967م.

    ويقارن الشاعر بين ماضي الأمة المجيد الذي أوحى له بعشرات القصائد وبين الحاضر المرير، فيقول:

أين دنياك التي أوحت إلى
وتري كل يتيم النغم

كم تخطيت على أصدائه
ملعب العز ومغنى الشمم

وتهاديت كأني ….. ساحب
مئزري فوق جباه الأنجم

أمتي كم غصة دامية
خنقت نجوى علاك في فمي

أي جرح في إبائي راعف
فاته الآسي فلم يلتئم

    ويعجب الشاعر من هزيمة العرب أمام اسرائيل، وهم شرذمة قليلون:

ألاسرائيل ….. تعلو ….. راية
في حمى المهد وظل الحرم !؟

كيف أغضيت على الذل ولم
تنفضي عنك غبار التهم ؟

أوما كنت إذا البغي اعتدى
موجة من لهب أو من دم !؟

كيف أقدمت وأحجمت ولم
يشتف الثأر ولم تنتقمي ؟

اسمعي نوح الحزانى واطربي
وانظري دمع اليتامى وابسمي

    ويشن هجوما على القادة الخونة الذين باعوا المقدسات بأرخص الأثمان:

ودعي القادة في أهوائها
تتفانى في خسيس المغنم

رب وامعتصماه انطلقت
ملء أفواه البنات اليتم

لامست أسماعهم ….. لكنها
لم تلامس نخوة المعتصم

  ويكرر الشاعر ( أمتي) مؤكدا على قوة الانتماء رغم المحن :

أمتي كم صنم مجدته
لم يكن يحمل طهر الصنم

لايلام الذئب في عدوانه
إن يك الراعي عدوَّ الغنم

فاحبسي الشكوى فلولاك لما
كان في الحكم عبيدُ الدرهم

    ويخاطب الجنود الذين أصبحوا كبش الفداء، وصاروا ضحية تأمر الحكام :

أيها الجندي يا كبش الفدا
يا شعاع الأمل المبتسم

ما عرفت البخل بالروح إذا
طلبتها غصص المجد الظمي

بورك الجرح الذي تحمله
شرفا تحت ظلال العلم
وهكذا نرى أن الشاعر قد صور المحن والمصائب والجراح التي أصابت الأمة المسلمة والعرب خاصة..وتعاطف الشاعر مع أمته وحزن لما حل بها من نكبات.

مجزرة العصر:

كان لمجزرة حماة في شباط 1982، وقعها الكبير على العالم، برغم التعتيم الإعلامي الذي قام به النظام السوري، للتغطية على الجرائم المرتكبة حينها.

ويكفي لكي تعرف قبح الجريمة النكراء أن تعرف أن عدد القتلى والشهداء قد زاد على ( 40 ألفا)، ..وقد سجل الكتاب تلك الحقائق والوثائق في كتاب ( حماة مجزرة العصر)..

      وكان لتلك الجريمة وقع الصاعقة في نفوس الشعراء الاسلاميين وغير الاسلاميين، فها هو الشاعر السوري عمر أبو ريشة يهجو إثر ذلك الرئيس السوري السابق، حافظ الأسد، بحسب مصادر متقاطعة من بينها ما نشره المفكر السوري برهان غليون، عبر صفحته الشخصية في “فيس بوك”، بقصيدة شهيرة.

  يقول عمر أبو ريشة في تلك القصيدة:

سـكِّينـه في شـدقه ولعـابُه.. يجري على ذكر الفريسة مُزبدا

ما كان هولاكو، ولا أشـباهه.. بأضلَّ أفئـدةً و أقسـى أكـبُدا

هذي حماة عروسةُ الوادي على.. كِبْر الحداد، تُجيل طـرفًا أرمدا

هذا صلاح الدين يخفي جرحه.. عنها، ويسأل: كيف جُرْحُ أبي الفدا

سرواتْ دنيا الفتح هانتْ عنده.. وأصاب منها ما أقـام وأقعـدا

ما عفَّ عن قذف المعابد باللظى..
فتناثرت رمما وأجت موقدا

خاتمة:

هذه المامة سريعة في دراسة شعر عمر أبو ريشة، ونرجو الله أن نعود اليها بالزيادة والتنقيح والاضافة ..

    وقد دلت هذه الدراسة على حب عمر أبو ريشة لدينه ورسوله وللشخصيات التاريخية الفذة مثل : شخصية خالد، والمعتصم، وصلاح الدين الأيوبي، والشهيد يوسف العظمة .  ..وغيرهم..
            - يتبع ان شاء الله -

مصادر البحث:

[1] من كتاب: ملحمة النبي صلى الله عليه وسلم. تحليل ونقد احمد الخاني.

[2] عاشق المجد. حيدر غدير ط1 مؤسسة الرسالة ص 480.

[3] في كتابه: فن الشعر ص 259، ط2.

[4] السيرة النبوية لابن هشام ج2 ص 625 بتحقيق: مصطفى السقا وإخوانه.

[5] أسرار البلاغة للجرجاني. ص، 3.

6- الموسوعة التاريخية الحرة ( ويكيبيديا)..

7- ديوان عمر أبو ريشة .

8- أثر الاسلام في الشعر السوري الحديث - د. محمد عادل الهاشمي - دار المنار الأردن.

9- مواقع الكترونية أخرى.

وسوم: العدد 940