وقفة مليحة بنكهة وجدية مع أرجوزة ظريفة في وصف طنجية مراكشية، مبدعها السيد عبد الرحيم شكري

تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي أرجوزة ظريفة في وصف طنجية مراكشية لمبدعها السيد عبد الرحيم شكري ، فوافاني بها أحد الفضلاء من قرابتي لعلمه بحبي الشديد لهذه الأكلة المراكشية التي تنافس عندي الشواء لذة ، فحدثني نفسي أن أقف عند هذه الأرجوزة الظريفة الواصفة لأشهى ما يطبخ في مراكش الحمراء وقفة معجب ببراعة صاحبها في نظمها قلادة أخاذة جمع فيها بين الدعابة و سعة الثقافة،  والوصف الدقيق لإعداد هذه الأكلة المراكشية الشهية ، وفيما يلي متن الأرجوزة قبل الوقفة المليحة بنكهة وجدية:

قال الراجز السيد عبد الرحيم شكري :

قلت انفراج العـــــــــــــــــــلل          في سر طبخ القــــــــــــلل

قال إذن أنت لــــــــــــــــــــها          قلت لها في الأجــــــــــــل

طنجــــــــية  أصيـــــــــــــلة          لا نحلـــــــة المنتحــــــــــل

سنبتـــــــــدي طقــــــــوسهـا          فقم بنــــــا  فــي عجــــــــل

وأخبر الأصحــــــاب  عــــن        أمر العشــــا المحتمـــــــــــل

فقـام مـــن ســـــــــاعتـــــــه         يغلـــــي كغلي المـــــــرجــل

يحث خطــــــوه  إلــــــــــــى        قصّــــــابنا  المبجــــــــــــــل

فابتاع  مــــا قد يفــــــــــــــي        من كتف للجـــــــــــــــــــمل

وبعده مـــرّ علــــــــــــــــــى       بقّــــــالنـــا العمّ علـــــــــــــيّ

فخصّـــــــه بالأرفــــــــــــــع       والأنفــــــــع والأفضـــــــــــل

من التوابـــل  التــــــــــــــــي       بها شفـــــــاء العــــــــــــــــلل

وبينمــا أرقبــــــــــــــــــــــــه       إذ جـــــاء بالمؤمـــــــــــــــــل

فاضطربت لها الحشـــــــــــا         قبل اضطراب المقـــــــــــــل

وفــي يـــديّ قلـــــــــــــــــــة        عن حسنهــــا لا تســـــــــــأل

قلــــــوشة عريـــــــــــــقــــة         أصـــــولها بمعــــــــــــــــزل

وضعته في قعــــــــــــــــرها        متبـّـــــــل بمــــــا يلـــــــــــي

مصيّــــــــر معتـــــــــــــــق         منذ قديــــــــــــــــــــــم الأزل

وثومـــــــــة بلـــــــــــــديــة         وزعفـــــــــــران الجبـــــــــل

وبعض سمــــــــن حائــــــل         من فوقهــــــــا والأسفـــــــــل

مزجته في حضنهـــــــــــــا          بمائهـــا المتبـــــــــــــــــــــل

أمعنت في إغــــــــــلاقهــــا          وقايـــــــــة من دخــــــــــــل

حتّى إذا بلّغتهــــــــــــــــــــا         جمر الحضيض الأسفـــــــــل

دفنهـــــــا فــــــــي لـــــوزة         فلا تسل  أو فاســــــــــــــــأل

لأربــــــع تركتـــــــــــــــها         علـــــى التمـــــــــــــام الأكمل

فبق، ووبق ، وبقبقـــــــــت          في جمرها المشتعــــــــــــــل

وصاحبـي يشــــــــــدو لهــا        من شعــــــره المرتجـــــــــــل

قـال اصخبـــــي يا قلــــــتي       واضطربي وانفعــــــــــــــــلي

مــــا زدت فـــــي بقبقــــــة       إلا اجتفــــــاني  مـــــــــــــــللي

مـــــالي علـــــــى ازدرادك       يــــا حلــــــوتي مــــن بـــــدل

فكــم وكــــم من نشــــــــوة       فوق انتشـــــــــاء الثمــــــــــل

أصاحب " الفرناطشيّ " ما       أحلى صفيــــــــــــر القــــــــلل

أجابـــــــــــــه صفيـــــرها        عذب كصــــوت البلبــــــــــــل

كأنــــه أنشـــــــــــــــــــودة       من بعض شعــــــــر الغـــــــزل

لا أنتشـــــي يـــا صاحبــي        إلا بصــــــــــــــــــوت القـــــلل

نفحتــــــــه أجرتـــــــــــــه        نظيــــــــــــر أجـــــــر العمــــل

وقـــــلت حـــاذر واحترس        من حرقـــــها المحتمــــــــــــــل

يشاع عنك يـــــا فتـــــــــى       أوفـــــــــــى من الســــمـــــــوأل

إيــــاك أن تفســــــــــــدهـا       بجـــــــرم الفتـــــح الجــــــــــــلل

أهجــوك هجـــــوا لاذعـــا       مــــرا كمــــــر الحنظــــــــــــــل

ودونـــــه مــــــــــا قالــــه       جريــــــرنا فــــــي الأخطـــــــــل

لكنـــه قـــــرّبهــــــــــــــا        كغـــــــــــــادة في  حـــــــــــــــلل

طنجيــــــــة بهيــــــــــــة        لا تحتــــــويها جملـــــــــــــــــــي

فمن تمــــام نضجهـــــــــا       يا صاحبــــــي خذ ما يلــــــــــــي

رائحــــــــة زكيــــــــــــة       أزكـــى من عــــود الصنـــــــــدل

وقطـــــع تحمّـــــــــــرت        تحيـــي جميـــــــل الأمـــــــــــــل

ومـــــــــرق معلّـــــــــــك      مثــــــل نفيــــــــس العســــــــــــل

وإنهــــــا فــــــي سمـــرة       جـــــاهــــزة للمــــــــــأكــــــــــل

فـــي نخبـــة كــــــريمـــة      من الشبــــــــاب الأمثـــــــــــــــل

جمــاعــــة إذا دعــــــــوا      لعـــــرس أو لمحفـــــــــــــــــــــل

تجهزوا لنــــــسفــــــــــه       بأذرع كالعتــــــــــــــــــــــــــــــل

ودمـــــروا غلالـــــــــــه       تدميــــر غرس المشتـــــــــــــــل

وإن دعــــوا إلى الشواء        تجمعــــــــوا فـي الأجـــــــــــــل

وغرســـــوا من جوعهم        أنيابهم في العضــــــــــــــــــــــل

كبيرهم لا يكتفــــــــــــي       سوى بشـــطر الجمــــــــــــــــــل

وأهونــهم يرضــــــى إذا        انزوى  بنصــــف الجمـــــــــــل

عتّل عن ميمنتـــــــــــــي        منتصــــــب  كالجبـــــــــــــــــل

لقمتــــه  في حجمهــــــــا        كحبــــــــــة مــــن بصـــــــــــل

وجــاء عـن ميســـــــرتي       فتـــــى كثيــــــر الخجـــــــــــــل

لكنـــــــه دبّــــــــــــابـــــة      غبـــارها  لا ينجلــــــــــــــــــــي

أصــــابني بحرصـــــــــه      إصـــابة فــــــي مقتـــــــــــــــــل

وفــــارس من قبــــــــــلي      كما لو حــــــــــط مـــن عـــــــل

يصــول في إنـــــــائنــــا      بدون أدنــــــــــى وجـــــــــــــــل

يمينــــــه بتّــــــــــــــارة       كأنهـــــا سيـــــف علــــــــــــــيّ

وهــــا أنــــا بينهمـــــــو       أسلـــــو ببعــــــض  البـــــــــلل

كغارق فــــــي لجـــــــة       أو زالــــق  فـــــــي وحـــــــــل

أسعفهـــــم دهـــــاؤهـــم       وأخلفتنـــــي حيلـــــــــــــــــي

يـــا صحبتـــي تحمّلــــوا      مني قليـــــــل الهـــــــــــــــزل

مـــا كنت إلا مــــازحــــا      مــــدافعــــــا للملـــــــــــــــــل

فلتغفـــــــروا لـــي هفوتي     أو مـــا بــــــدا من زلـــــــــــل

هي إذن أرجوزة  بتسعة وستين بيتا، جمعت بين ذكر الرغبة في إعداد أكلة الطنجية التي تهفو إليها النفوس وتشتهيها ، وذكر أصالتها ،فهي مراكشية المنبت والمحتد لا ينكر ذلك منكر، ولا يجحده جاحد ، ولا يدعيه مدع كما هو حال بعض جيراننا في الشرق إذ لا يذكر طعام أو شراب أو كسوة  قي المغرب إلا وجعلوا أصله عندهم في الجزائر، وزعموا أننا  لهم في ذلك تبع ، ولو ادعوا أن الطنجية من أصيل طبخهم، لصاروا مسخرة عند أمم الأرض وقد زار معظمهم جامع الفنا وأصابها فيه ، ولم يصبها في غيره من بقاع الأرض قاطبة  إلا إذا اقتدى مقلدون  بأهلها في مراكش البهية المحروسة.

وقبل سرد الزاجل بعض مكونات أكلة الطنجية ، وأحسب أن اسمها منسوب إلى حاضرة طنجة المعروفة بصناعة الخزف يعدما استقر أمر رفقته على إعدادها لمناسبة كثيرا ما تتكرر واصفا كيف بادر أحدهم مستعجلا قاصدا الجزّار أو القصّاب، وهو المبجل في أرض مراكش عند أهلها ، فابتاع منه كتف البعير ثم مال إلى بقّال الحي الوقور والخبير بالتوابل ، فاقتنى منه أجود وأزكى التوابل ، وهي المعروفة برأس الحانوت كناية عن جودتها . وانتقل الزاجل إلى وصف حسن  القلة التي تطهى فيها هذه الأكلة الشهية ، وسمّاها  " قلوشة " ،وهي لفظة دخيلة  على اللسان العربي ،وربما كانت بربرية ، وقد دل على  ذلك وصفه لها بالعراقة  والأصالة ، وهي لفظة تعني صغر الحجم أو قصره .

ومضى الزاجل بعد ذلك يسرد كيفية إعداد هذه الأكلة مسترسلا في ذكر ما لم يذكره من مكوناتها وهي ليمون مصبّر يسمى" المصيّر" إن لم أكن مخطأ أو متطفلا على فهم  هذه الوصفة ، وقد وصفه بالمعتق مقتبسا الوصف من الخمرة المحببة إلى  أذواق أهل السكر عفا الله تعالى عنهم ، ثم ذكر الثوم ، والزعفران الذي يوصف عندنا بالحر، وهو أصيل وثمين ، وسمن قد مر عليه الحول يدهن بها  أعلى  وأسفل قطع اللحم ، ويصب عليها قليل من ماء، لأن المعول عليه في هذه الأكلة هو إيدامها لا ماؤها .

وينتقل الراجز بعد ذلك إلى وصف كيفية الإعداد وتبدأ بإحكام إغلاق الآنية الخزفية حرصا على ألا يخالطها دخن أو يعبث  بها عابث ، ثم وضعها في  الملّ،  وهو رماد حار فيه بقية من جمر تغطى به قلة الطنجية إلا أعلاها  ، وأعتقد أن الراجز قد سماه " لوزة " لأن فعل لاز في اللسان العربي يعني لاذ، واحتمى، وكأن القلة تحمى بذلك الملّ . وذكر الراجز زمن الطهي الذي لا بد أن يستمر لأربع ساعات بالتمام والكمال ، وهو يرقبها يسيل لعابه ،وهي تبقبق أي تغلي، وهذه اللفظة من فصيح اللسان العربي. ولم يفت الراجز أن يذكر رفيقه المنشد مرتجلا الإنشاد وهو يخاطب الطنجية ويحثها على البقبقة ،والغليان ، والاضطراب مؤذنة بقرب نضجها ،ههنا لا بد أن نشير إلى أن أهل مراكش أصحاب دماثة خلق ، و طرب،ومرح ، وخفة روح ،ونكتة ، ودعابة ، ورقص وتصدية أو تصفيق لا يجيده غيرهم .، ومرحهم دائم فما بالهم إذا كانوا في انتظار وجبة شهية يسيل لها اللعاب . ولم يغادر الراجز وصف قرقرة القلة حتى جعلها أحلى من صفير البلبل، وكأني به نظر في رائعة الأصمعي، وجاء منها بقبس ، ولم يقف عند حد هذا الوصف حتى ذكر الغزل ،وهو مما تعشقه الأذواق الرقيقة  الراقية

ويخاطب الزاجل " الفرناطشي "  هكذا بطاء أو بتاء،  وهو المكلف بطهي الطنجية في الفرن ،وجعل يوصيه بحسن طهيها ،ويحذرها من مغبة إحراقها وهو الذي يوصف عند معارفه بأمانته كالسموأل الذي ضربت العرب به المثل في الوفاء بالعهد . ومع الإشادة بخبرة " الفرناطشي " فإن الراجز توعده إن فرط في واجبه أو كشف عطاء  الطنجية ، وهو من أدم بهجاء أقذع من هجاء جرير للأخطل . وتوظيف الراجز لرموز من المعارف الأدبية  التراثية من قبيل ذكر السموأل ،والتلميح إلى الأصمعي وإلى امرىء القيس في وصفه فرسه، وذكره جريرا ، والأخطل يعكس ثقافته الأصيلة واطلاعه على التراث.

وأشاد الراجز بعد ذلك بدقة عمل الطابخ ، وراح يعدد مؤشرات حسن الطبخة  بدءا برائحتها الزكية التي فاقت بخور الصندل  ، وقطع لحمها المحمّرة ، ومرقها المعلك والمعسل ثم انتقل إلى وصف أكلتها وهم خليط من شيوخ وشباب وكلهم من معارفه أو جيرته ، وأثنى عليهم ووصف أحوالهم في الأعراس والولائم وهم يصيبون ما لذ وطاب من شواء أوطنجيات، وكلهم فرسان في الهضم كبيرهم وصغيرهم خجولهم وجسورهم ، وقد أحاطوا به عن يمين وشمال ، وأصابوا اللحم ، ولم يبق له إلا المرق، فشبه نفسه وهو يغمس فيه خبزه بغارق في لجة أو زالق في الوحل كناية عما مني به من خسارة مع أكلة لم يبلغ شأو دهائهم وخبرتهم بإصابة الطنجيات، وفيهم الفارس والمنتصب كالجبل ،وحجم لقمته كحجم البصلة ، وفيهم من غباره في الأكل كغبار دبابة  غازية ، وفيهم كبير يصيب شطر كتف البعير  ومنزو يصيب نصفه ، وكلهم أصابوه في المقتل إذ لم يبق له نصيب من لحم الطنجية ، فسلى النفس بمرقها ولذته من لذة لحمها  .

ويختم الراجز أرجوزته بالاعتذار إلى رفقته لأنه لم يقصد بها  سوى الفكاهة والمزاح دفعا للملل ، مع أنه أجاد وأحسن في تقديم وصفة إعداد الأكلة المراكشية الشهيرة التي يشتهيها كل المغاربة من طنجة إلى الكويرة، وكفى بها أكلة شهية يغار منها الشواء ، والبسطيلة بدجاجها وسمكها وحشوها اللوزي .

وما أظن أن هذه الوقفة مع هذه الأرجوزة تسد مسدها أو تتعلق بغبارها فهي منها بمنزلة ظل من شجره .

ولئن أسعفتني الظروف لأوافينّ قرائي الكرام بأرجوزة مماثلة في وصف وإعداد البكبوكة الوجدية خصوصا ونحن على  موعد مع عيد الأضحى المبارك  أهله الله علينا باليمن والبركات ، والرخاء بعد الغلاء ، ووقانا الوباء ، ولله الحمد أولا  وآخرا ثم الصلاة والسلام على  سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين  وكل من والاهم وأحبهم واهتدى بهديهم . 

وسوم: العدد 985