شخصية الإمام الشهيد حسن البنا في الشعر الإسلامي المعاصر -3

sfdfdsd10691.jpg

هو الإمام الشهيد حسن البنا، القائد، ومجدد الإسلام في القرن العشرين...

مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، ورائد الصحوة الإسلامية في العالم، عرف على نطاق واسع عندما أسس حركة الإخوان المسلمين أواخر القرن العشرين، جاهد ضد الاحتلال البريطاني لبلاده وقاد تشكيلات عسكرية للدفاع عن فلسطين.

المولد والنشأة:

ولد حسن أحمد عبد الرحمن بن محمد البنا الساعاتي يوم 14 أكتوبر/تشرين الأول 1906 في المحمودية بمحافظة البحيرة بمصر، لأسرة علمية ذات أصول ريفية حيث كان جده فلاحا في قرى دلتا النيل. أما والده أحمد فقد درس علوم الشريعة وتخصص في الحديث، ولقب بأحمد الساعاتي لأنه عمل في مرحلة من عمره في مجال إصلاح الساعات.

الدراسة، والتكوين:

في سن مبكرة من عمره حفظ حسن البنا القرآن الكريم وكثيرا من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. وتأثر بشيخه محمد زهران صاحب مدرسة الرشاد الدينية.

وقد درس البنا على أبيه العلوم الشرعية وأخذ عنه صناعة الساعات. ولاحقا انتقل إلى مدرسة المعلمين في دمنهور عام 1920 وتخرج فيها مدرسا. وأكمل دراسته في دار العلوم بالقاهرة بتفوق عام 1927.

أثناء فترة تعلمه كان البنا على صلة بمحب الدين الخطيب، ويلتقي بجمهرة من العلماء في المكتبة السلفيّة أثناء تردده عليها.

الوظائف، والمسؤوليات:

عمل البنا مدرسا للعربية لفترة، ثم تفرغ للجهاد ونشر الفكر الإصلاحي والتنظير لمشروع الدولة الإسلامية.

أسس البنا حركة الإخوان المسلمين عام 1928 وتولى قيادتها.

أنشأ وقاد تشكيلات فدائية عسكرية لمواجهة الاحتلال البريطاني لمصر وللدفاع عن فلسطين.

التوجه الفكري:

عمل البنا على تجذير فكرة شمولية الإسلام وضرورة تطبيقه منهج حياة، وحارب مظاهر الانحلال الخلقي والاغتراب في المجتمع.

في عام 1936 اقتحم البنا الميدان السياسي، وفي عام 1948 دعا الملوك والحكام إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في شؤون الحياة، وبشّر بالدولة الإسلامية في صورة الخلافة.

وقد عمل البنا من أجل هدفين أساسيين: تحرير الوطن الإسلامي من كل سلطان أجنبي، وقيام دولة إسلامية حرة.

التجربة الدعوية والسياسية:

بعد تفرغه للدعوة والجهاد، آمن البنا بأن الدولة الإسلامية هي صاحبة دعوة ورسالة، وأن الفصل بين الدين والدولة خطيئة كبرى، وأنه لا بد من قيام حكومة إسلامية تستند إلى القواعد التالية: مسؤولية الحاكم أمام الله وأمام البشر، وحدة الأمة في إطار الأخوة، احترام إرادة الأمة.

في عام 1928 أسّس حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين التي تأثرت بها معظم الحركات الدعوية والسياسية الإسلامية على مستوى العالم، وأقيمت لها فروع في الكثير من الدول العربية والإسلامية.

أعاد البنا إصدار جريدة "المنار" بعدما توقفت، وعمل من أجل ما سماه المشروع الإسلامي الذي يستطيع مقاومة الاستعمار، ومحاولات قهر الشعوب المسلمة.

قاد البنا كتائب الإخوان المسلمين في حرب فلسطين، تحت "شعار الموت في سبيل الله أسمى أمانينا"‎. وعقد في دار المركز العام في القاهرة، أوّل مؤتمر عربي من أجل فلسطين. ودعا إلى حرب تحرير شعبية ضد إسرائيل تدعمها الدول العربية بالمال والسلاح.

وقد قال في إحدى خطبه "إنني أعلن من فوق هذا المنبر أن الإخوان المسلمين قد تبرعوا بدماء عشرة آ‎لاف متطوع للاستشهاد" في سبيل الدفاع عن فلسطين.

وحينها أدركت إسرائيل خطر جماعة الإخوان المسلمين على المشروع الصهيوني وبدأت تكيد لها.

وعندما بدأ الإخوان حملتهم على الاستعمار البريطاني وجه البنا جهده لإنشاء تشكيلات سرية من الفدائيين وإعدادها للجهاد‎، وأطلق عليها "النظام الخاص".

يعتبر البنا من أبرز المنظرين للإسلام السياسي في العصر الحديث وقد تأثرت بدعوته معظم الحركات الإسلامية في العالم وأنجبت مدرسته كتابا ومفكرين قاموا بتحليل الأوضاع، وتناولت مصنفاتهم ومحاضراتهم مشاكل العالم الإسلامي السياسية والاقتصادية والاجتماعية ووضعوا تصورات لعلاجها من منظور إسلامي.

حول تثمين دوره، يقول الرئيس المصري الراحل محمد نجيب "إن الإمام الشهيد حسن البنا أحد أولئك الذين لا يدرك البلى ذكراهم، ولا يرقى النسيان إلى منازلهم، لأنّه رحمه الله لم يعش لنفسه بل عاش للناس، ولم يعمل لمنفعته الخاصة بل عمل للصالح العام".

كُتبت في سيرة حسن البنا عشرات الكتب والدراسات، منها "روح وريحان من حياة داع ودعوة" لأحمد الحجاجي، و"حسن البنا أستاذ الجيل" لعمر التلمساني، و"حسن البنا حياة رجل وتاريخ مدرسة" لأنور الجندي.

ويقول الشيخ علي الطنطاوي إن البنا "من أبلغ من علا أعواد المنابر، تفعل خطبه في السامعين الأفاعيل وهو لا ينفعل، يبكيهم ويضحكهم ويقيمهم، ويقعدهم وهو ساكن الجوارح، هادئ الصوت، يهز القلوب ولا يهتز" .

المؤلفات:

أوكل إليه أبوه كتابة مقدمة "الفتح الرباني" للإمام أحمد بن حنبل، فكتب في مناقبه وسيرته ومحنته وما يتعلق بمسنده ومنزلته عند المحدثين.

ومن مصنفات حسن البنا: الرسائل، أحاديث الجمعة، المأثورات، وكتب عن سيرته الذاتية تحت عنوان "الدعوة والداعية".

الاغتيال:

في 12 فبراير/شباط 1949 اغتيل حسن البنا أمام جمعية الشبان المسلمين، فنقل إلى مستشفى القصر العيني حيث فارق الحياة، بعدما ترك ينزف دون علاج حتى الموت وفق إفادة جماعة الإخوان المسلمين.

وتقول المصادر إنه كان من الممكن إنقاذ حياته، لكن المستشفى الذي نقل إليه تعمد تركه ينزف حتى فارق الحياة بإيعاز من السلطات.

وجاء اغتيال البنا بعد مقتل رئيس وزراء مصر محمود النقراشي، الذي أصدر قرارا بحل جماعة الإخوان المسلمين.

وقد شيعت جنازة البنا في صمت تام ولم تسمح السلطات المصرية لأحد بالمشاركة بحمل نعشه.

أصداء الرحيل:

لم يقف الناس موقفاً واحداً من الشهيد حسن البنا رحمه الله تعالى، وللأسف الشديد نال منه البعض حتى جعلوه منحرفاً مبتدعاً متطرفاً؛ بل زاد البعض، فجعلوه ماسونياً زنديقاً، وهو في نظرهم صنيعة الأعداء، ولم يكن منه إلا كل شر.

وفي مقابل هؤلاء كان هناك بعض التقديس عند البعض، لا لكونه الإمام والشهيد والمجدد والمرشد والمربي فحسب؛ بل لأن نفرا قل عددهم أو كثر ربما لا يقبلون المساس من الشهيد البنا رحمه الله، وكأن نقد فكره صورة من صور الامتهان أو التحقير، وقد نسي هؤلاء أن البنا نقل في أصوله الـ20 ما رواه الطبراني عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:

لَيْسَ أَحَدٌ إِلَّا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيَدَعُ غَيْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

والحق أن الخير في الوسط، فلا البنا بالمعصوم، ولا هو بالشرير، وإنما هو شخصية إسلامية عظيمة أسدت إلى الأمة خيراً كثيراً؛ لكن شخصه وفكره ليسا فوق النقد، ويكفينا ما قدمه للأمة من خير، فرحمات الله عليه تترا إلى يوم القيامة.

ولأنه لا يعرف الرجال إلا الرجال، فسأنقل هنا أقوال الأعلام العظام من علماء الأمة ورأيهم في البنا رحمه الله تعالى، وأخص هنا الأزاهرة الكبار الذين ملؤوا الأرض علما وعملا وتضحية وفداء، ولعل الكثير منهم لم ينتم إلى الإخوان المسلمين؛ مما يجعل كلامهم لا شبهة فيه. ومن هذه الرموز والأقوال.

حيث كتب الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر- رحمه الله- يقول:"إن الأستاذ البنا رجل مسلم غيور على دينه، يفهم الوسط الذي يعيش فيه، ويعرف مواضع الداء في جسم الأمة الإسلامية، ويفقه أسرار الإسلام، وقد اتصل بالناس اتصالاً وثيقًا على اختلاف طبقاتهم، وشغل نفسه بالإصلاح الديني والاجتماعي، على الطريقة التي كان يرضاها سلف هذه الأمة".

وقال العلامة طنطاوي جوهري:"إن حسن البنا في نظري مزيج عجيب من التقوى والدهاء السياسي، إنه قلب علي وعقل معاوية، وأنه علا دعوة اليقظة عنصر الجندية، ورد على الحركة الوطنية عنصر (الإسلامية) ... وبذلك يعدّ الجيل هذا الجيل الإسلامي الحاضر النسخة الثانية الكاملة المعالم بعد الجيل الأول في عهد الرسول.

ويقول الإمام عبد السلام ياسين - رحمه الله- مؤس جماعة العدل والإحسان بالمغرب: "الإمام حسن البنا.. مُجدّد جمع بين القرآن والسلطان، ويبقى الإمام البنا غُرَّةً في جبين الدعوة بما جمع الله فيه من خصال الخير. فإن نظرت إلى خشوعه وتبتله وروحانيته فهو قبَسٌ من المشكاة النبوية.  وإن نظرت إلى علمه وسَعَةِ أفُقِهِ فهو إمام سنيٌّ ومعلم عبقريٌّ.

وإن نظرت إلى شجاعته في الحق وهيبته في صدور من عاشروه فهو أسد من أُسْدِ الله. ناهيكَ عن فصاحته وحكمته وأدبه وصبره. رحمه الله رحمة واسعة.

وتحدث الشيخ حسنين مخلوف مفتي الديار المصرية في الأربعينيات عن حسن البنا، وأشاد به وبمكانته بين الدعاة، فقال: "الشيخ حسن البنا أنزله الله منازل الأبرار، من أعظم الشخصيات الإسلامية في هذا العصر، بل هو الزعيم الإسلامي الذي جاهد في الله حق الجهاد، واتخذ لدعوة الحق منهاجًا صالحًا وسبيلاً واضحًا استمده من القرآن والسنة النبوية ومن روح التشريع الإسلامي، وقام بتنفيذه بحكمةٍ وسدادٍ وصبرٍ وعزمٍ، حتى انتشرت الدعوة الإسلامية في آفاق مصر وغيرها من بلاد الإسلام، واستظل برايتها خلق كثير".

وكتب عنه مفتي القدس محمد أمين الحسيني - رحمه الله- :" بينما كان الملاحدة ودعاة الإباحية ومروجو الفكرة الشعوبية (القومية العلمانية) يهاجمون الإسلام، وينشرون سمومهم وضلالاتهم في مختلف الأوساط في الأقطار المصرية والعربية، وبِخاصة بين طلبة الجامعات والمعاهد العليا، برز المرحوم (إن شاء الله) الشيخ حسن البنا في وسط الشعب المصري المؤمن كما تبرز الشمس من بين السحب الداكنة، داعيا أمته وبلاده والمسلمين جميعا إلى العمل بالقرآن الكريم، وتطبيق أحكامه السامية، وآدابه الرفيعة، والاستمساك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم في كل شأن".

وحين سمع الأمير عبد الكريم الخطابي - رحمه الله – بخبر استشهاد الإمام، قال: ويح مصر وإخوتي أهل مصر مما يستقبلون جرّاء ما اقترفوا، فقد سفكوا دم وليّ من أولياء الله !! ترى أين يكون الأولياء إن لم يكن منهم، بل في غرتهم حسن البنا الذي لم يكن في المسلمين مثله".

وقال عنه محب الدين الخطيب: " إن الأستاذ حسن البنا أمة وحده، وقوة كنت أنشدها في نفس مؤمن فلم أجدها إلا يوم عرفته ...وكنت (ابن صنعة) يوم اكتشفت بيني وبين نفسي حاجة الاسلام إلى هذا الداعية القوي، الصابر المثابر، الذي يعطي الدعوة من ذات نفسه ماهي في حاجة إليه من قوة ومرونة ولين وجلد وصبر وثبات إلى النهاية...وكثيرًا ما كنت أفكر في هذا الجيش اللجب من الإخوان المسلمين، ومالهم من مئات الشُّعَب وكيف استطاع رجل واحد أن يحقق ذلك بعد أن كان أملاً بعيدًا لكل غيور على الإسلام)".

ويقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله- : "كان حسن البنا _حيث حلّ _ يترك وراءه أثرا ً طيبا ، وا لقيه امرؤ في نفسه استعداد لقبول الخير إلا وأفاد منه، ما يزيده صلة ً بربّه، وفِقها ً في دينه، وشعورا ً يتبعه نحو الإسلام والمسلمين، ولا رجل الذي يشتغل بتعليم الناس لا يستطيع في أحيانه كلّها أن يرسل النفع فيضا ً غدقاً، فله ساعات يخمد فيها وساعات يتألق، وينير.

إن الإشعاع الدائم طبيعة الكواكب وحدها، وقد كان حسن البنا في أفقه الداني البعيد من هذا الطراز الهادي بطبيعته لأن جوهر نفسه لا يتوقّف عن الإشعاع .كانت لدى حسن النبا ثورة طائلة من علم النفس وفن التربية وقواعد الاجتماع، وكان له بصرٌ نافذ بطبائع الجماهير، وقيم الأفراد، وميزان المواهب، وهذه بعض الوسائل التي تعين على الدعوة وليس كلّها".

ويقول المرشد عمر التلمسانى - رحمه الله- : "حسن البنا كلما باعدت الأيام بيننا وبين يوم استشهاده ازدادت شخصيته وضوحاً وإشراقاً وإثارة نوراً وبهاء .. إنه كاللوحة الفنية البديعة .. كلما ابتعدت عنها محملقاً في روعتها كلما وضح أمام ناظريك رواؤها ودقة الإبداع فيها.

وحقا ما مضي عام إلا ازداد تاريخ حسن البنا وضوحاً في ميادين الدعوة الإسلامية، وظهر ما أجراه الله من خير على يديه للإسلام والمسلمين)".

ويقول الشهيد سيد قطب - رحمه الله - :" في بعض الأحيان تبدو المصادفة العابرة كأنها قدر مقدور، وحكمة مدبرة في كتاب مسطور .. حسن " البنا " .. إنها مجرد مصادفة أن يكون هذا لقبه .. ولكن من يقول: إنها مصادفة، والحقيقة الكبرى لهذا الرجل هي البناء وإحسان البناء، بل عبقرية البناء ؟ لقد عرفت العقيدة الإسلامية كثيراً من الدعاة .. ولكن الدعاية غير البناء .. وما كان كل داعية يملك أن يكون بنّاء، وما كل بناء يوهب هذه العبقرية الضخمة في البناء .هذا البناء الضخم .. الإخوان المسلمون".

ويقول الدكتور محمود جامع-رحمه الله-:"وكان حسن البنا لا بد أن يموت شهيدًا بمؤامرة خسيسة من أئمة الكفر والضلال عن عمر لم يتم اثنين وأربعين عامًا بظروف غاية في الغرابة، بدايةً من حل جماعة الإخوان المسلمين واعتقال أفرادهم جميعًا ما عدا مرشدهم حسن البنا، الذي طلبَ من السلطات أن تعتقلَه مع إخوانه وركِبَ بالفعل مع بعضهم سيارة الترحيلات ولكنهم أنزلوه وسحَبوا منه سلاحه المرخَّص، ورفضوا سفرَه إلى بنها للإقامة عند صديقه الأستاذ البنداري، وكان عنده شعورٌ خفيٌّ بأنهم يدبرون لاغتياله، وكان شعورًا صادقًا فيه إلهام المؤمن وفراسته، واغتالوه، وأطلقوا عليه الرصاص، وتركوه ينزف بالساعات على سريره حتى لقي ربه".

وكتب الأستاذ محمد عبد الله السمان (المفكر والكاتب)، فيقول: لبثتُ أكثر من عام متردِّدًا عن الكتابة عن حسن البنا العبقري الفذّ؛ وذلك قبل أن يلحق بالرفيق الأعلى؛ لأني كنت أعتبر الكتابة عن الرجل في حياته ضربًا من ضروب التزلُّف، رغم أنه كان أعفَّ زعيم عن بوادر الثناء عليه والتزلُّف إليه؛ لأن حياته لم تكن حياة زعيم عاطل مليئةً بالثرثرة الجوفاء، وإنما كانت حياته ملكَ دعوةٍ ناهضةٍ حيةٍ، لم تدَع له لحظةً من عمره يذوق فيها طعم الخلود إلى السكينة والراحة، ولحق الشهيد الأعزل بربه، وعاودتني الرغبة إلى الكتابة عنه في كتابٍ يليق بقدره، واخترت عنوان الكتاب، ومضت سنة أخرى وثالثة، ولم أستطع خلالها أن أزيد على العنوان إلا مقدَّمة الكتاب، وأعددت الصفحات البيضاء في انتظار ملئها بما سجَّلته المذكرة والذاكرة من خواطر، وكلما حاولت أن أستجديَ قلمي حنينه استعصى استعصاءَ الحجارة، وأقسم ألا يجود بأكثر مما جاد به العنوان والمقدمة.. وكفى!.

يا له من قلم عَصيٍّ عنيدٍ، تتوارد الخواطر على فكري كالسيل المنهمر في هذه الشخصية الفذَّة التي تتسع لها أضخم الأسفار، فإذا ما طُلب منك أن تسجِّل استعصيتَ وعندت، واضطررتَني إلى أن أدع صفحات الكتاب البيضاء متراكمةً حتى صارت كالجسد المُسجَّى فوق المكتب؛ كلما دخلت ألقيت عليه نظرات الأسى والحسرة.

وما كنت أدري أن السر في عناء القلم واستعصائه هو الخجل من أن يكتب عن هذه الشخصية، وهو أعجز من أن يحيط بنواحي عبقريتها الفذة، وأهون من أن يلقيَ على عاتقه القيام بهذه المهمة الشاقة التي لا طاقةَ له بها، فأدركت أني كنت الأبله لا القلم، وأني كنت العنيد المستبدّ، لا قلمي الذي كان أبرأَ ما يكون من العناد والاستبداد!!.

كانت عبقرية الشهيد الأعزل “حسن البنا” لونًا فريدًا من العبقريات التي عرفها تاريخ البشر؛ فحسن البنا لم تُلقَ إليه مقاليد السلطان يومًا، ولم يكن مشعوِذًا دجَّالاً، تنجذب إليه أفئدة السوقة والعامة والرعاع، ومع هذا فقد كان ذا سلطان لا يدانيه سلطان في الشرق، وصاحبَ قوة أقلقت جنبات الاستعمار، وصدَّعت أعمدة الحكم الإقطاعي الجائر، وانجذبت إليه أفقهُ القلوب، وأنضرُ العقول، وأخصبُ الأسماع، وليس بعد هذا دليلٌ على أن الشهيد الأعزل “حسن البنا” كان يتمتع بعبقرية فذة لم يعرف تاريخ البشرية مثيلاً لها.

كان “حسن البنا” عبقريًّا في فهمه للإسلام، وعبقريًّا في تفهيمه الإسلام، وعبقريًّا في فهمه كتابَ الله، وعبقريًّا في تفهيمه كتاب الله، وعبقريًّا في خطابته، وعبقريًّا في قيادته، وعبقريًّا في سياسته، وعبقريًّا في حياته العامة، حتى موتته لم تُحرم جانبًا من جوانب عبقريته الفذة الخالدة!.

وكتب المرحوم مصطفي أمين عن الإمام الشهيد قبل أن يراه: “أشد ما أعجبني فيه إيمانه بفكرته، كان يؤمن بها بطريقة عجيبة، ويرى أن المستقبل لها، وقد انعكس ذلك على سلوكه، فكان له قدرة فائقة على إقناع الغير بذلك، كان خطيبًا مفوهًا قادرًا على التأثير في آلاف الناس، كما كان شديد التأثير على من يجلس معه أيًّا كان تفكيره، كان يقنع العامل ويحدثه بأسلوبه، وكذلك يفعل مع الطالب، والكبير والصغير، والغني والفقير، وساكن الريف والمدينة وكل طبقات الشعب.

أعجبني كذلك في حسن البنا أن إيمانه بفكرته لم يكن عاطفيًّا فقط، بل كان محسوبَ الخطوات مدروسًا.

"إيمانه بفكرته، كان يؤمن بها بطريقة عجيبة، ويرى أن المستقبل لها، وقد انعكس ذلك على سلوكه، فكان له قدرة فائقة على إقناع الغير بذلك. أعجبني كذلك في حسن البنا أن إيمانه بفكرته لم يكن عاطفيًّا فقط بل كان محسوب الخطوات مدروسًا، ولم يكن متعجلاً رغم حماسه الشديد لما يؤمن به".

ويقول الشاعر المصري الكبير الأستاذ كامل الشناوي: “كان لفضيلة الفقيد “حسن البنا” هدف واحد، هذا الهدف هو خلق جيل كامل من الشباب المثقف القوي المؤمن، وقد كان.

وكانت للفقيد غاية واحدة، هذه الغاية هي أن يموت في سبيل الله، إنه مثل من أمثلة التضحية الخالدة، والخلق الكريم، والحكمة المنشودة”.

لقد كان حسن البنا هو الزعيم الوحيد الذي آمن بالفكرة التي جاهد من أجلها، ولقد كان حسن البنا هو القائد الوحيد الذي تلمحه في صفوف الجنود.

هذا هو حسن البنا، شخصية نادرة لا يجود الزمن بمثلها إلا كل مائة عام.

كتب الأستاذ مريت غالي: عرفت المغفور له الأستاذ حسن البنا منذ سنوات عدة؛ فعرفت فيه الرجولة التامة، ورأيت فيه على الدوام رجلاً فذًّا من الناحيتَين الخلقية والإنسانية، وقد كان رحمه الله على ثقافة واسعة، يتمتَّع بشخصية جذَّابة، ويأخذ بأسباب القلوب، ولا شكَّ أن رجلاً هذه طباعه وتلك كفايته كان ذخرًا قيِّمًا لبلاده، فجاء مصرعه خسارةً كبيرةً، ويزيد الخسارة فداحةً أن وقع فريسة اغتيال مدبَّر، وقد تفشَّى بيننا داء الاغتيال السياسي البغيض منذ أوائل هذا القرن.

يقول محمد زكي عبد القادر- رئيس تحرير الأخبار-: “لم يكن إيمان الشيخ حسن البنا بدعوته إيمانًا طارئًا، ولا هو إيمان العاطفة وحدها، ولكنه كان إيمانًا قائمًا على دراسة صحيحة عميقة للتشريع الإسلامي ولتاريخ الدول الإسلامية، وما كان لها من سلطان وعظمة ومُثل وأفكار ودعوات لخير الناس في حياتهم وبعد مماتهم.

نظر- رحمه الله- فيما أصاب الإسلام من تدهور، وأدرك أنَّ السبب فيه يرجع إلى ابتعاد المسلمين عن روحه، فجعل رسالته أن يدعوهم إلى ما ابتعدوا عنه وأن يؤكد في نفوسهم ما اهتزَّ من مثل وأخلاق، فكانت دعوته أشبهَ بالبعث، وأقرب ما تكون لنفوس الناس فأقبلوا عليها مؤمنين أنها وحدها سبيل الخلاص.

ولا شكَّ أنَّ وفاته- وهو لا يزال في سنِّ العقل الراجح والرجولة المكتملة- كانت خسارةً شديدةً، رحمه الله رحمةً واسعةً، وأجزل مثوبته على ما سلف من خير وجهاد وتضحية.

ألَّف الدكتور طه حسين كتاب “مستقبل الثقافة في مصر” وقد أحدث دويًّا، واختلفت الآراء بين مادح وقادح، وقد دُعِي الأستاذ المرشد حسن البنا ليُدلِي بدلوه حول الكتاب وحُدِّد الموعد، ووُزِّعت الدعوات، وقبل الموعد بخمسة أيام، قرأ الأستاذ الكتاب في التزام أثناء ذهابه وإيابه من المدرسة.

وذهب إلى دار الشبان المسلمين في الموعد المحدد، فإذا بها ممتلئةٌ برجالات العلم والأدب والتربية، ووقف الإمام على المنصة، واستفتح بحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله، ثم بدأ ينتقد الكتاب بكلام من داخل الكتاب، فأخذ يأتي بفقرات ويشير إلى رقم الصفحات والحاضرون يتعجبون من هذه الذاكرة، وتلك العبقرية، وفي الختام أبلغ السكرتير العام للشبان المسلمين الأستاذَ المرشد بوجود الدكتور طه حسين في مكان خفي، وفي اليوم التالي طلب الدكتور طه مقابلة الأستاذ المرشد، فقابله، ودار حديث أكبر فيه الدكتور طه الأستاذَ المرشد، ثم قال الدكتور طه: “ليت أعدائي مثل حسن البنا، إذن لمددت لهم يدي من أول يوم، يا أستاذ حسن، لقد كنت أستمع إلى نقدك لي وأطرب. وهذا النوع من النقد لا يستطيعه غيرك”.

وقال عنه الدكتور عبد العظيم المطعني- الأستاذ بجامعة الأزهر- أن الإمام البنا شخصيةٌ لا غبار عليها، وكانت شخصيةً مقبولةً عند الجماهير، وكان واضحًا في دعوته إلى التمسك بالإسلام والدعوة إلى الله وبالحكمة والموعظة الحسنة، ولذلك لقيت دعوته استجابةً واسعةً من الناس، وخاصةً في مصر ثم إلى البلاد الأخرى، فهو شخصيةٌ نقيةٌ، ويعتبر من أبرز الدعاة المخلصين في القرن العشرين.

يقول الداعية الإسلامي الشيخ خيري ركوة - رحمه الله -:" إن الأستاذ البنا يتميز بأنه كان يعي دورَه في الحياة، ولذلك لم يضيِّعْ شيئًا من وقته، حتى وهو طالب في المراحل الأولى من التعليم كان يتوسم في نفسه أنه سيكون صاحب دعوة، وذلك رُوي أنه في فترة المرحلتين الابتدائية والإعدادية أو ما يعادلهما في ذلك الوقت كان يجمع التلاميذَ معه وينظرون إلى البيئةِ التي تحيط بهم، ويحاولون أن يعالجوا ما ليس طيبًا فيها وبطريقةٍ سهلةٍ وليست مثيرةً أو عنيفةً، ككتابة الرسائل إلى بعض الناس يذكِّرونهم بالخيرِ ويحذِّرونهم من الانحرافِ إلى الشر، وفى سبيل ذلك لم يضيِّعْ وقتَه وأفادَ منه تمامًا، إذ كان يحرص على الدرس وطلب العلم والتزود منه، وكان يحب اللغة العربية لأنها لغة القرآن الكريم وبها يمكن أن يتعاملَ مع القرآن والحديث، فكان يقرأ الكثير من كتب الأدب المنثور والشعر، فحفظ كثيرًا من الخطب الوصايا والنصائح للبلغاء من العرب سواء في العصر الجاهلي أو عصر النبوة وكذلك خطب الخلفاء الراشدين ومن بعدهم العصر الأموي والعباسي، حتى إنه عندما أراد الالتحاق بكلية دار لعلوم كان هناك امتحان شفوي (مقابلة) وامتحن في القرآن فكان يحفظه، ثم قيل له ماذا تحفظ من الشعر فقال احفظ 18 ألف بيت من الشعر، مما جعل لسانه فصيحًا وعباراته حلوة إذا تكلَّم أسمع غيره وإذا سمع له الناس أنصتوا له وفهموا ما يقول"

وكتب الداعية الشيخ عبد الحميد كشك - رحمه الله- :"الإمام الشهيد حسن البنا هو الداعية الذي بعث الأمل في قلوب اليائسين، وقاد سفينة العالم الحائر في خضمِّ المحيط إلى طريق الله رب العالمين.

هو الرجل الذي كان يقول لأتباعه: "كونوا مع الناس كالشجر؛ يرمونه بالحجر فيرميهم بالثمر"!. عرفتُه من كتاباته، وعرفتُه من مريديه ومحبِّيه، وعرفتُه من آثاره الطيبة وأعماله المجيدة، عرفتُه داعيةً يجمع ولا يفرِّق، يحمي ولا يبدِّد، يصون ولا يهدِّد، يشدُّ أزر الأصدقاء ويردُّ كيد الأعداء. عرفته رجلاً بعيد النظر، قويَّ الحجة، فاهمًا لأحداث عصره، مجدِّدًا رجلا يتلافى الخلاف ويعمل على توحيد الأمة عندما سئل الإمام الشهيد ذات يوم من أحد عشَّاق الفُرقة: لماذا تبني الجمعية الشرعية المساجد وأنتم لا تبنون؟! فقال: عليهم أن يبنوا المساجد، وعلينا أن نملأها".

وكتب الكاتب احسان عبد القدوس -رحمه الله-: تحت عنوان (في ذكرى الإمام الشهيد) يقول:- لم أقابل في حياتي الصحفية زعيمًا سياسيًّا متمكنًا من دعوته تمكُّن المغفور له الأستاذ حسن البنا، كنت أقابله دائمًا متحديًا، متعمدًا أن أحطم منطقه بمنطقي، وكنت أفترق عنه دائمًا مقتنعًا بإيمانه وبصدق دعوته وبقوة عزمه على الوصول إلى هدفه، وهو ما دعاني إلى أن أنشر أول تحقيق صحفي عن الإخوان المسلمين، وهو التحقيق الذى نقلته عنى وكالات الأنباء، وأصبح الإخوان من يومها حديث العالم.

وكنت أعتقد أن قوة حسن البنا في عقليته التنظيمية، فقد كان يجلس في مكتبه بالمركز العام بالقاهرة، وفى ذهنه صورة صحيحة لما يجرى في شعبة الإخوان في أسوان، وكان يعرف الإخوان واحدًا واحدًا، ويكاد يعرفهم بالاسم رغم أن عددهم كان يزيد عن نصف المليون، وكان يعد لكل منهم دوره في الجهاد، وكان يشغل كلا منهم طول يومه بخدمة الجماعة حتى لا يجد ما يلهيه عن مبادئها . ولكن عقلية حسن البنا التنظيمية وحدها لم تكن تكفى، لولا نشاطه الفذ، الذى كان يستعين به على الطواف بالقطر المصري كله، كل أسبوع تقريبًا، ولولا سرعة خاطره في الرد على كل ما يعترضه من حالات ولولا قدرته على تفسير القرآن بحيث تنطبق آياته على كل مشكلة من مشاكل الحديث، ولولا أنه كان صورة صادقة للزعيم يمثل شعب مصر، في قناعته وفى زيه، وفى إيمانه، وفى لغته، وفى تواضعه، وفى إحساسه كان حسن البنا يمتاز بكل ذلك، وقد ذهب حسن البنا، عوَّضنا الله فيه خيرًا ".

وكتبت السيدة بهية نصار- رحمها الله - رئيسة مبرة الخدمة الإسلامية: " كان رحمه الله صاحبَ رسالة، وكان موفَّقًا كل التوفيق؛ حيث لمس حقيقة الداء وعالجه بأنجع دواء؛ رأى انهيار الأخلاق وانحراف الناس عن الطريق السوي بتركهم الدينَ وراء ظهورهم، فعمل جاهدًا على تغيير الوضع، وسلك بالإخوان وبشباب الأمة خاصةً السبيل العملي، ليخلق من كل فردٍ المسلمَ الحقَّ والمواطنَ القويَّ الصالحَ، وشقَّ طريقه قُدمًا، عُدَّته الإيمان والإخلاص والعمل، فلازمه النجاح، حتى إذا ما وافاه الأجل المحتَّم كان قد بلَّغ الآلاف المؤلَّفة، وقابل ربه بنفس راضية مطمئنة، أثابه الله بقدر نفعه للوطن الإسلامي وللمسلمين، وأسكنه فسيح جناته، ووفَّق الإخوان إلى ترسُّم خطاه، ونفع بهم وبأمثالهم الوطن المفدَّى وبنيه في ظل العهد الجديد عهد النظام والاتحاد والعمل".

كتب الأستاذ الدكتور محمد طه بدوي أستاذ القانون العام، يقول:

"لقد كان الإمام الشهيد شمسًا وغيثًا وأملاً للجامعة بل للجامعات المصرية، فأنشأ مدرسته المثالية، وعلّم ألوفًا من إخوانه الفلسفة والمبادئ الإسلامية، فغزوا بعلومهم وأفكارهم وثورتهم كليات الجامعة، وإذا بنا نشهد جيلاً آخر هو جيل المجاهدين في سبيل الفكرة الإسلامية والوطن الإسلامي، ولم يعد يجرؤ أستاذ أن يتهجم بفلسفته على تراث الإسلام الغالي، ولم يستطع جامعي أن يُلوح للبشرية بنظام خير من النظام الإسلامي الذي وجد من تلامذة الإمام الشهيد".

وكتب الأستاذ أحمد حسن الزيات صاحب مجلة الرسالة: "وجدت فيه ما لم أجد في قبيله أو أهل جيله: من إيمان بالله راسخ رسوخ الحق لا يزعزعه غرور العلم ولا شرود الفكر، وفقه في الدين صاف صفاء المزن لا يكدره ضلال العقل ولا فساد النقل، وقوة في البيان مشرقة إشراق الوحي لا تحبسها عقدة اللسان ولا ظلمة الحس، إلى حديث يتصل بالقلوب، ومحاضرة تمتزج بالأرواح، وجاذبية تدعوك إلى أن تحب، وشخصية تحملك على أن تذعن ..

فقلت في نفسي بعد أن ودعني ومضى: (عجيب) هذا الشاب نشأ كما ينشأ كل طفل في ريف مصر، وتعلم كما تعلم كل طالب في دار العلوم، وعمل كما يعمل كل مدرس في وزارة المعارف، فعمن ورث هذا الإيمان، وممن إقتبس هذا البيان، ومن أين اكتسب هذا الخلق؟

إن الشذوذ عن قواعد البيئة الجاهلية، والنشوز على أنظمة المجتمع الفاسد، والسمو على أخلاق العصر الوضيع، من خصائص الرسول أو المصلح، فإن الله الذي يعلم حيث يجعل رسالته يريد أن يصنع النبي أو المصلح على عينه ليظهره في وقته المعلوم، فيجدد ما رث من حبله، ويوضح ما أشبه من سبيله، والفطرة التي فطر عليها حسن البنا والحقبة التي ظهر فيها حسن البنا تشهد بأنه المصلح الذي اصطنعه الله لهذا الفساد الذي صنعه الناس.

ولم يكن إصلاحه رضوان الله عليه من نوع ما جاء به (ابن تيمية، وابن عبد الوهاب، ومحمد عبده) فإن هؤلاء قصروا إصلاحهم على ما أفسدته البدع والأباطيل من جوهر العقيدة، أما هو فقد نهج في إصلاحه منهج الرسول نفسه: دعا إلى إصلاح الدين والدنيا، وتهذيب الفرد والمجتمع، وتنظيم السياسة والحكم. فكان أول مصلح ديني فهم الإسلام على حقيقته وأمضى الإصلاح على وجهه.

لم يفهم الإسلام الذي طهر الأرض وحرر الخلق وقرر الحق، على أنه عبادات تؤدى، وأذكار تقام، وأوراد تتلى، وإنما فهمه كما فهمه محمد صلى الله عليه وسلم، وعمر وخالد: نورا للبصر والبصيرة، ودستورا للقضاء والإدارة، وجهادا للنفس والعدو.

ولقد كان النهج الذي قبسه البنا من القرآن وعززه بالعلم، ونشره بالبيان، وأيده بالمعاملة، كان من الجد والصدق والعزيمة بحيث زلزل أقدام المستعمر وأقض مضاجع الداعية وخيب آمال المستغل، فتناصرت قوى الشر على الدعوة العظمى وهي تتجدد في مصر كما تناصرت قوى الشرك عليها وهي تولد في الحجاز، ولما كان حسن البنا فكرة لا صورة، ومبدأ لا شخصا، فإن الفكرة الصالحة تنمو نماء النبت، والمبدأ الحق يبقى بقاء الحق.

وكتبت السيدة زينب جبارة - رحمها الله- رئيسة جمعية السيدات المسلمات في عهد الإمام البنا، فقالت: "إن حسن البنا هو الرجل الذي فقدته مصرُ في مرحلةٍ من أدقِّ مراحل حياتها، كانت في مسيس الحاجة إلى دعوته التي قام بأعبائها، هذا الرجل العظيم الذي قلَّ أن تجود الأيام بمثله، أو أن نجد عوضًا عنه..

ويقول الدكتور مصطفي السباعي- المراقب العام الاسبق للجماعة في مصر ورئيس الكتائب المجاهدة في فلسطين 1948-: “ليس للعظمة مقياس خاص؛ فقد يكون العظيم عالمًا أو فاتحًا أو مخترعًا أو مربيًا روحيًّا أو زعيمًا سياسيًّا، ولكن أجدر العظماء بالخلود هم الذين يبنون الأمم، وينشئون الأجيال ويغيرون مجرى التاريخ.

وقال الشيخ محمد الحامد - رحمه الله-:" كان حسن البنا لله بكليته وروحه وجسده، بقلبه وقالبه، بتصرفاته وتقلبه. كان لله فكان الله له، واجتباه فجعله من سادات الشهداء الأبرار.

ونقل الشيخ سعيد حوى رحمه الله عن الشيخ الحامد أنه كان يعتبر البنا مُجَدَّد القرون السبعة الماضية".

وكتب الدكتور عبد الله ناصح علوان -رحمه الله- :"حسن البنا الداعية الرباني بكلمة جامعة.

لقد استحق حسن البنا، رحمه الله، بما قدمه بين يدي آخرته من علم وتربية وجهاد أن يندرج في سلك الدعاة الربانيين أهل التقوى والإحسان، يقول الدكتور عبد الله صالح علوان: " لاشك أن الداعية الرباني حين يكون على هذا المستوى العظيم من التقوى والفهم والروحانية، وحين يتحلى بهذه القيم العالية من الإخلاص والصدق وحرارة الإيمان والدعوة، فإنه ينطلق في ميادين الدعوة والتبليغ والجهاد".

ويقول روبير جاكسون في كتابه ( حسن البنا الرجل القرآني):" كنت تري الرجل بسيطا غاية البساطة ينام في الأكواخ أحياناً ، ويجلس علي المصاطب ويأكل ما يقدم له .. ولا يحرص إلا علي شيء واحد وهو ألا يفهم الناس عنه أنه شيخ طريقة .. أو من الطامعين في المنفعة العاجلة . ولقد حدثني أنه كان يدخل بلدا من البلاد أحياناً لا يعرف فيها أحداً فيقصد إلي المسجد، فيصلي مع الناس، ثم يتحدث بعد الصلاة عن الإسلام .. وأحيانا ينصرف الناس عنه، فينام علي حصير المسجد، وقد وضع حقيبته تحت رأسه .. والتف بعباءته، ولا شك أنه قد لقي في زياراته شيوخاً وشباباً، مثقفين وعوام .. وإنه قد استمع إليهم وقال لهم .. وأفاد منهم خبرة ضخمة واسعة .. أضافها إلي علمه وثقافته .. وإنني علي ثقة من أن حسن البنا رجل لا ضريب له في هذا العصر ، وأنه قد مر في تاريخ مصر، مرور الطيف العابر .. الذي لا يتكرر".

وقال السيّد أبو الحسن الندوي رحمه الله:" إن كلّ من عرف حسن البنا عن كثب لا عن كتب، وعاش متصلا به، عرف فضل هذه الشخصية التي قفزت إلى الوجود وفجأت مصر ثم العالم العربي والإسلامي كله بدعوتها وجهادها وقوتها الفذّة . فقد اجتمعت فيه صفات ومواهب تعاونت في تكوين قيادة دينية اجتماعية لم يعرف العالم العربي والإسلامي وما وراءه قيادة دينية أو سياسية أقوى وأعظم تأثيراً، أو أكثر انتاجا منها منذ قرون ، وفي تكوين حركة إسلامية يندر أن تجد حركة أوسع نظاما ، وأعظم نشاطا ، وأكبر نفوذا" .

وقال مكرم عبيد المسيحى عنه:" وما من شك أن فضيلة الشيخ حسن البنا هو حى لدينا جميعا فى ذكراه، بل كيف لا يحيا ويخلد فى حياته رجل استوحى فى الدين هدى ربه، ففى ذكره حياة له ولكم".

وقال الشاعر الكبير عمر بهاء الدين الأميري رحمه الله-:"لقد راقبته أدق المراقبة، حتى أنني كنت من شقوق الباب وهو يصلي في غرفته خاليا قبل النوم، وكنت أتفحص خشوعه فأراه أطول سجودا وأكثر إقبالا على الله منه وهو يصلي بنا".

ويقول الفضيل الورتلاني- رحمه الله-:" كان لحسن البنا صفات تفرقت في الناس وقلما اجتمعت في شخص واحد اللهم إلا طائفة نادرة من أولي العزم: للرجل طاقة عالية ينفرد الناس من ناحية من نواحيها ولا تجتمع لهم .. فإذا حدثه الفقيه وجد فيه الفقيه الممتاز ويخيل إلى أن هذه صفته .. وإذا اجتمع به الأديب توهم أن هذه صفته وما له غيرها وإنما هو مكمل .. وإذا لقيه السياسي وجد فيه سياسيا من طراز فريد .. وحسب أن ما له من الصفات الأخرى إنما هو جزء يسير .. والحق: إن حسن البنا هو تلك الصورة الضخمة التي تجمع تلك الصفات جميعا. وبحظ وافر يوازي .. وإن لم يزد ما للمتخصصين فيها من حظ".

ويقول السيد علي البهلوان -رحمه الله- السكرتير العام المساعد للحزب الحر الدستوري التونسي:" اقترن اسم الشهيد حسن البنا في نظر التونسيين بحركة التجديد والتطهير التي تجسمت في الإخوان المسلمين وأصبح اسمه رمزاً لفكرة حية ومبدأ سام طالما تردد بين التونسيين من غير أن يجد من يسهر على تطبيقه حتى أبرزه المرشد العظيم.

وقد كان لحركة الإخوان المسلمين صدى عميق في تونس لأن التونسيين آمنوا بأن الإسلام دين عمل وتضحية وفداء، وقد تجسمت في المرشد العظيم رحمه الله، تلك المعاني الإسلامية السامية، فأمسى منار هداية لمن يريد نهضة إسلامية أساسها ثابت وصرحها عال.".

ويقول الشاذلي المكي - رحمه الله-:" لين الطباع والأخلاق .. يحسبه المرء أنه لشدة ليونته وسماحته متساهل حلو الكلام، يأخذك بحديثه فهو ما يزال بك حتى يفرغ في نفسك تلك المعاني السامية، التي ما دخلت قلبا إلا وجعلت صاحبه يؤمن بما له وما عليه في هذا المعترك.

وقال السيد محمد هارون المجددي - رحمه الله- : " كان الإمام الشهيد حسن البنا رضي الله عنه وأرضاه صورة طيبة لخيرة أصحاب قائدنا الأعظم سيدنا محمد صلى الله عيه وسلم، فقد ملكت مبادئ الإسلام المثالية قلبه وفكره في كل لحظة من لحظات حياته، وكان لا يعيش لنفسه بل يعيش لهذه الأمة الإسلامية التي توالت عليها المحن ورانت عليها صروف الزمن ... كان التيار الإلحادي يجرف في لجبه الشبيبة المثقفة وهي خلاصة الأمة وقلبها النابض ... ولكن الله تعالى ألهم الشهيد الإمام حسن البنا بما ألهم به عباده الصالحين فكان أمة وحده .. وقف أمام التيار الإلحادي فصرعه وأخذ بأيدي الحيارى والضالين فأرشدهم إلى ما فيه خير دينهم ودنياهم وغرس في قلوبهم تعاليم القرآن الخالدة".

ويقول السيد علال الفاسي - رئيس حزب الاستقلال المغربي - رحمه الله- :" أعظم ما كان بارزا في شخصية حسن البنا هو إيمانه بالله وبصدق الدعوة التي يدعو لها وإيمانه بنفسه أيضا وأعظم صفاته هي قوة الملاحظة وقوة المواظبة، وبهاتين الخصلتين استطاع أن يشق الطريق لدعوته في وسط كان أبعد ما يكون عنها وأعتقد أن الدعوة التي كانت تستفيد من حياة البنا لو لم يوافه الأجل المحتوم، ولكن العشرين سنة التي قضاها دائبا ليلا ونهارا على بذر فكرته وتطعيمها والعناية بها يجعلها في مأمن من أن تطوح بها أيدي الزمان العابثة".

وفي كلمة الرئيس محمد نجيب عن حسن البنا عقب نجاح ثورة 1952، قال:

"من الناس من يعيش لنفسه، لا يُفكِّر إلا فيها، ولا يعمل إلا لها، فإذا مات لم يأبه به أحد، ولم يحس بحرارة فقده مواطن، ومن الناس من يعيش لأمته واهبًا لها حياته حاضرًا فيها آماله، مضحيًا في سبيلها بكل عزيزٍ غالٍ، وهؤلاء إذا ماتوا خلت منهم العيون وامتلأت بذكرهم القلوب، والإمام الشهيد حسن البنا، أحد أولئك الذين لا يدرك البلى ذكراهم، ولا يرقى النسيان إلى منازلهم لأنه- رحمه الله- لم يعش في نفسه بل عاش في الناس ولم يعمل لصوالحه الخاصة، بل عمل للصالح العام.

وكتب الأستاذ محمد مهدي عاكف المرشد العام السابع للإخوان المسلمين

لقد جاء الإمامُ "البنَّا" إلى الدنيا على قدَرٍ مقدورٍ، فإن العصرَ الذي وُلدَ فيه كان عصرًا مليئًا بالتيارات الهدَّامةِ والإلحادِ، والتحدياتِ المعاديةِ، وكان العالمُ الإسلاميُّ يتعرضُ لأبشعِ أنواعِ المخططاتِ الاستعماريةِ؛ نتيجةً لسيطرةِ الاستعمارِ الغربي الصليبي وغارتِه الفكريةِ والحضارية على كثيرٍ من البلدان الإسلامية، ولعل أبشعَ وأشنعَ ما نزل بالمسلمين في تلك الفترة كان إلغاءَ الخلافة الإسلامية عام 1924م، حيث تحولت دار الخلافة من رمزٍ لاتحاد المسلمين وقوتِهم، إلى دولة علمانية أُلغيت فيها الشريعة الإسلامية، لتَحِلَّ مكانها القوانينُ الوضعيةُ، وأصبح المسلمون كالشاة في الليلة المطيرة.. قُلبت المفاهيم.. واستَشرى الانحلال.. وفشا الإلحاد.. وشُوِّهت أمجادُ الإسلام العظيم.. وعُزلت الشريعةُ عن حياة المجتمع.. واستحالت دولة الخلافة إلى دويلات متنافرة.. ولم يبقَ لهذه الأمة من ملجأٍ ولا نصير إلا رحمةُ الله تعالى، ثم نجدةُ العقيدة وقوة الإيمان.

وقد كتب الفريق عزيز المصري، وكان قائد الجيش المصري في عهد الملك، يقول: :"عرفت الشهيد حسن البنا أول مرة بعد عودتي من لندن 1937 حينما كنت في معيَّة سمو ولي العهد؛ وذلك حينما وجدت في انتظاري ثلاثةً قالوا لي إنهم من الإخوان المسلمين، ونظرًا لأن ملابسهم كانت من المتعارف على أنها إسلامية إلا أنها في نظري بعيدة عن الإسلام، قلت لهم: إنني لا أريد مقابلتهم؛ لأنني أريد أن أرى الإخوان المسلمين يمثلون فكرة التجديد والبعث حتى في أزيائهم، فتكون مبسَّطة ولو جاكتة مقفّلة وبنطلون، وبدلاً من “المسابح” يضع كلٌّ منهم في يده كتابًا يناقشني فيه.

ولشدَّة ما كانت دهشتي حينما جاءني في الغد أحد هؤلاء الثلاثة وقال لي إنه حسن البنا، وإنه مؤمن بكل ما قلت، ولكنَّ الرجعية التي تردَّى فيها المسلمون تجعلنا نطرق هذا الباب حتى نعيدَكم إلى الفكرة الإسلامية الصحيحة التي تجعل من المسلم شعلةً للعلم والتقدم والهداية للإنسانية، فأكبرت الرجل وعرفت فيه الداعيةَ الواعي، وقد كنت أتوقع ألا أراه بعد المقابلة الشديدة التي قابلتهم بها... ومنذ ذلك اليوم توثَّقت الصلة بيني وبينه، وكنا نتقابل بين حين وآخر، وأرى في وجهه علائم الإيمان باديةً وآيات الصدق والإخلاص مرتسمةً؛ مما زادني فيه ثقةً وإيمانًا.

وحينما كنت بسجن الأجانب إبان استشهاده جاءني أحد الضباط وعلى وجهه علامات الأسى، مخالفًا الأوامر ومبلِّغًا إياي ذلك النبأ المفجع؛ فأحسست بخنجرٍ أصابني في صدري لفقد ذلك الرجل العظيم.

وقال صلاح سالم عضو مجلس قيادة ثورة 1952: " "إن هذه الأخلاق العالية والصفات الحميدة قد اجتمعت وتمثلت في شخص أستاذ كبير، ورجل احترمَه وأجلَّه واعترف بفضله العالم الإسلامي كله، وقد أحبه الجميع من أجل المثل العليا التي عمل لها، والتي سنسير عليها إلى أن يتحقق لنا ما نريده من مجد وكرامة في أخوة حقيقية وإيمان أكيد، رعاكم الله ووحَّد بين قلوبكم وجمع بينكم على الخير".

وكتب علي ماهر رئيس مجلس وزراء مصر لمرات متعددة يقول:

ما أنفع الذكرى، وما أضيق برزخ الحياة!

حين طلبت صحيفة "الدعوة" الغرَّاء أن أشترك فى إحياء ذكرى المغفور له الشيخ حسن البنا، عادت بى الذاكرة إلى عام 1935م، حين زارنى الفقيد الكريم مع بعض أصدقائه بمناسبة انتقاله بجماعته من الإسماعيلية إلى القاهرة، متحدثًا فى بعض الشئون العامة، وكان حديثه يشرح صدرى وأسلوبه يشهد بموفور الثقافة الإسلامية والبصر بشئون الأمم العربية، وبراعة المنطق وقوة الحجة، وكان إلى ذلك شديد الإيمان بأنه يؤدى رسالة إنسانية سامية، دعائمها الإخاء والمحبة والسلام بين سكان البلاد جميعًا.

ويقول الدكتور أحمد حسن الباقوري وزير الأوقاف المصري الأسبق.

لم يخسر الأستاذ المرشد حسن البنا شيئا بموته.. وإنما خسرت الإنسانية، نعم خسرت الإنسانية، ولا أقول خسر الإسلام، فإن الإنسانية تتعرض في هذه الظروف لأشد محنة تعرضت لها في تاريخها الطويل، وهي المحنة المادية الثقيلة، التي تريد أن تظفر بالمعاني الروحية؛ لتعود الإنسانية كلها بعد ذلك حيوانية تتحرك وتدفعها الشهوات كما تتحرك الآلات يدفعها البخار، وقد كان حسن البنا لسان الروحانية المبين، وكان حجتها الواضحة ودليلها الهادي، وكان قوتها المليئة حيوية ونشاطا، ولا نحب أن نستمرئ أحضان اليأس حتى نقول لقد كان الأستاذ كل شيء، وبموته انهار كل شيء. فإنَّ رحمه الله بالناس أرحب من هذا وأوسع، ولئن مضى حسن البنا إلى ربه، فقد كان فيمن ترك من أبنائه مجتمعين القوة التي تكفل لهذه الدعوة أن تهدي، وأن تنقذ إن شاء الله.

وكتب العلامة د. علي حسب الله أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية دار العلوم، يقول:

إذا كان قد تقدم -حسن البنا- من المصلحين في العصر الحديث من كان عمله نظريا يبدأ من أعلى أو من الوسط، فإن حسن البنا رأى أن يبدأ من الأساس، الذي بدأ به النبيون دعواتهم، وهو إصلاح العامة والفقراء، فلم يعتمد في بادئ أمره على المال ولا على الأغنياء، ولهذا كان يفضل في دعوته أن يغزو المجالس الشعبية العامة كالمقاهي، وشهدت الإسماعيلية بجهوده انقلابا هاما، فإن ذلك الشباب الذي أعماه الجهل وأضله الفساد الشائع بين الناس، والذي يئس العقلاء من إصلاحه، انقلب شبابا متدينا متحمسا للدين معتزا به، وقد فهم لأول مرة وبطريقة عملية أن الدين ليس عبادة في المحراب فقط، بل هو مع هذا عمل متواصل قوي لجمع الشمل وتآزر القوى وإعزاز الأمة، وإحلالها المحل اللائق بها، ومن الرعيل الأول أُلفت جماعة "الإخوان المسلمين" التي كان أول شعار لها (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)، وأسمى غايتها (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) ثم نمت الشجرة وأينعت وآتت وما تزال تُؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، فبارك الله فيها، ومتَّع غارسها برضوانه، وآنسه بالذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا".

وأما الأستاذ الدكتور محمد يوسف موسى الأستاذ بكلية أصول الدين فقال:

كان صديقنا المغفور له الأستاذ حسن البنا "داعية" دينيا واجتماعيا من الطراز الأول، قد جمع الله تعالى له كل ما يجب لنجاح الدعوة، ولعل من أهم ذلك ما لمسته فيه من بصره النافذ بمَن يصلحون للقيام معه بدعوته، ثم عمله على ضمهم إليه بكل قلوبهم وعقولهم ومواهبهم، عرفتُ ذلك منه بخاصة، حين رغب إلي وآخرين معي في أن نكون رفقاء له في رحلة من القاهرة إلى الإسكندرية ثم رشيد بعد الحرب الماضية.

ويقول فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي:

الإخوان شجرة ما أروع ظلالها، وأورع نضالها، رضي الله عن شهيد استنبتها، وغفر الله لمن تعجل ثمرتها.

وكتب د. عبد العظيم المطعني الأستاذ بجامعة الأزهر يقول:

وهب الله الإمام الشهيد البيان الواضح والأسلوب الحكيم إلى ما عمرت به شخصيته من أدب النفس واستقامة السلوك وفقهه بمقاصد الإسلام، وحفظه للقرآن الكريم والوقوف على أسراره ومعانيه، وروايته للحديث، وإلمامه بعبر التاريخ وفهمه لسيرة أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعرفته بمواطن الضعف في الأمة، وبهذا قد استكمل الإمام الشهيد كل مقومات الداعية المؤثر، والمصلح المطاع كان يعرف إلام يدعو؟ وكيف يدعو؟ ومن يدعو؟ ومتى يدعو؟ بقلب شجاع وسلوك طيب، ولسان فصيح، وحجة ساطعة، فلا غرابةَ أن يلتفت الشباب كله في عزم وثبات حول ذلك المصلح المخلص، فإلام كان يدعو الإمام الشهيد؟ لقد كان الإمام متبعا وليس مبتدعا، والاتباع هو منهج كل مصلح صادق.

وقال فضيلة الشيخ محمد الغزالي، وهو من تلاميذ الإمام:

ليس قتل الصديقين والصالحين في هذه الدنيا بأمر صعب، إن القدر أذن بأن يعدو الرعاع قديما على أنبياء الله، فذبحوا وهم يحملون أعباء الدعوة، أكثير على من تلقوا هذه الأعباء قبل أن تسقط على الأرض أن يردوا هذا المورد؟ بلى، ومن طلب عظيما خاطر بعظيمته، لقد قتل حسن البنا يوم قتل، والعالم كله أهون شيء في ناظريه، ماذا خرقت الرصاصة الأثيمة من بدن هذا الرجل؟ خرقت جسدا أضنته العبادة الخاشعة، وبراه طول القيام والسجود، خرقت جسدا غبرته الأسفار المتواصلة في سبيل الله، وغضنت جبينه الرحلات المتلاحقة إلى أقاصي البلاد، رحلات طالما عرفته المنابر فيها، وهو يسوق الجماهير بصوته الرهيب إلى الله، ويحشدهم ألوفا في ساحة الإسلام، لقد عاد القرآن غضا طريا على لسانه، وبدت وراثة النبوة ظاهرة في شمائله. ووقف هذا الرجل الفذ صخرة عاتية انحسرت في سفحها أمواج المادية الطاغية، وإلى جانبه طلائع الجيل الجديد الذي أفعم قلبه حبا للإسلام واستمساكا به.

ويؤكد في موطن آخر: كثيرٌ من الناس يعيش لنفسه، ولا يُفكِّر في سواها، فإذا مات انقطع ذكره، وطُويت صفحته، وقليلٌ من الناس يحيون لغيرهم، ويحملون هموم الناس، وهؤلاء لا يفنيهم الموت بانتهاء أعمارهم، إنما يمتد ذكرهم بعد مفارقتهم وجه الأرض.

وقد كان الإمام حسن البنا أحد هؤلاء الذين لم يعيشوا لأنفسهم، بل عاشوا لغيرهم، وحملوا على كواهلهم هموم الأمة، فرفعوا ذكرهم بعد وفاتهم.

وهو وإن تميَّز بأنه واعظٌ مؤثر، وخطيبٌ مفوَّه، وكاتب وعالم متمكن، وقائد ومنظم، ومرشد ومربٍّ وسياسي محنك، إلا أن أبرز ما تميَّز به أنه بنى دعوةً منظمةً تحمل مقوماتِ الامتداد عبر الأوطان والقارات، وأنشأ جيلاً من المسلمين متميزًا بالتفاني والتضحية في سبيل الله تعالى، ولن يستطيع مؤرخ منصف، أو محلل سياسي أن يتناول بالبحث أحداث الشرق الأوسط إلا ويبرز دور البنا ومدرسته في هذه الأحداث.

وكما قال أديب العربية والإسلام مصطفى صادق الرافعي: "ليس المصلح من فكَّر وكتب، ووعظ وخطب، ولكنه الحي العظيم الذي تلتمسه الفكرة العظيمة لتحيا فيه، وتجعل له عمرًا ذهنيًّا يكون مصرفًا على حكمها، فيكون تاريخه ووصفه هو وصف هذه الفكرة وتاريخها".

كتب عن حسن البنا كثيرون؛ من أتباعه ومن غيرهم، القريبين منه والبعيدين عنه، ويطيب لنا أن نكتب عنه من خلال أحد تلامذته الذين تربوا عليه، وتشربوا من علمه وتوجيهه، وعاشوا معه على درب الجهاد وطريق الدعوة، وماتوا وهم يدعون لها ويدافعون عنها، إنه الداعية الشيخ محمد الغزالي يرحمه الله.

وعندما يكتب الشيخ الغزالي عن الإمام البنا فإنه لا يكتب من منظار الحبِّ والعاطفةِ فحسب، لكن يزنه أيضًا بميزان العلماء والمربين والقادة، وينظر إليه نظرةَ الفاحص الدقيق، والناقد البصير.

ظهوره رحمة بالأمة الإسلامية والإنسانية:

من فضل الله على أمة الإسلام أن جعل رسولها خاتم الرسل، وكتابها آخر الكتب، فلا نبيَّ بعد محمد صلى الله عليه وسلم، ولا شرعة بعد الإسلام.

ومن رحمة الله بها بعد ذلك أنه لم يتركها هملاً، ولم يدعها سدى، إنما وعد على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبعث على رأس كل مائة عام مَن يجدد لها معالم هذا الدين.

ولا يشك منصف في أن البنا كان أحد هؤلاء المجددين الذين بعثهم الله تعالى على قدر، يقول الشيخ الغزالي: "إنَّ من رحمة الله بالأمة الإسلامية، بل بالعالم الإنساني، أن يظهر بين الحين والحين رجل مثل حسن البنا، يجدد تراث محمد- صلى الله عليه وسلم- ويحشد الجموع حوله ويحل المشكلات به، وينفي عنه الأوهام والبدع، ويعيد إليه بريقه الأخَّاذ يوم كان وحيًا يُتلى، وسنةً تُتَّبع" (1)

رجال في رجل ودعوات في دعوة:

ولأمرٍ ما استطاع البنا بإرادة الله أن يجمع ميزات دعوات ضخمة، وحسنات دعاة كبار سبقوه في هذا المجال، ويتحاشى ما وقعوا فيه من عيوب، بل كان يزيد ميزات عليهم في كثير من الأحيان.

يقول الشيخ الغزالي: "وقد لاحظت في دراستي الطويلة للرجال أن الله جمع في حسن البنا مواهب عددٍ من الزعماء الإسلاميين الكبار أمثال: جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ورشيد رضا، فكان إذا تحدَّث بين الناس التقى في حديثه ما تميز به أولئك الرجال، كما تلتقي الأشعة في عدسةٍ صافيةٍ تجمع ما تفرق وتضاعف أثره، كان الأفغاني أول مَن أبصر الحقدَ التاريخيَّ في ضمير الاستعمار الغربي، ونبَّه المسلمين إلى أن أوروبا لا تزال تحمل ضغائن بطرس الناسك في تعاملها مع المسلمين، وكان محمد عبده أول مَن أحسَّ حاجة الأمة إلى تربيةٍ واعية، تتعهد سلوكها بالعقل المؤمن، وتحرس نظامها بالروح العامة، وكان محمد رشيد رضا ترجمان القرآن، وشارة السلفية الصحيحة، والمفتي العارف بأهداف الإسلام والمستوعب لآثاره، وشاء الله أن يكون حسن البنا وريث هؤلاء، فكانت محاضراته في المدن والقرى علمًا وأدبًا وثقافةً وكياسةً، وقلَّما يفلت سامعٌ له من التأثر به والانقياد له" (2)

ويقول في موضع آخر: "وقف حسن البنا على منهج محمد عبده، وتلميذه صاحب المنار الشيخ محمد رشيد رضا، ووقع بينه وبين الأخير حوار مهذب، ومع إعجابه بالقدرة العلمية للشيخ رشيد وإفادته منها، فقد أبى التورُّط فيما تورَّط فيه" (3)

والشيخ الغزالي يقصد بتورطه هنا- كما يقول الشيخ القرضاوي- تصديَه بعنف للحملة على الأزهر وعلمائه المقلدين للمذاهب، فوافق البنا الشيخ رشيد في فكره، وخالفه في أسلوبه وطريقته.

الأستاذ، والمعلم:

يفخر الغزالي كلما تحدث عن البنا بأنه أحد تلامذته، ويشعر بالرضا عن اتصاله به وتعلمه على يديه، يقول: "أشعر بالرضا وأنا أعترف بأني من تلامذة حسن البنا ومحبيه، وحاملي أعباء الدعوة الإسلامية معه، أعرف أن ذلك يبغضني عند كثير من الناس! ليكن، فقد تعلمت من الرجل الكبير: أن المؤمن يسترضي الله وحده، ويطلب وجهه الأعلى، ولا يبعثر محابَّه هنا وهناك فلا يظفر بشيء" (4)

وقال: "أنا واحد من الذين صحبوا حسن البنا، وتربوا على يديه، وأفادوا من علمه" (5)

وكتب تحت عنوان: "أنا تلميذ حسن البنا" يقول: "كنت وما زلت تلميذًا لحسن البنا؛ أذكر دروسه وأترسم خطاه، وأفيد من تجاربه، وأنا مستبشر بدعائه لي ورضائه عني، ونظرتي إلى ذلك الإمام الشهيد أنه من قمم الفقه الإسلامي، ومن بناة أمتنا الفقيرة إلى الرجال، بل هو بلا ريب مجدد القرن الرابع عشر الهجري، وأشهد بأن له بعد الله الفضل الأول في توجيهي وتثقيفي" (6)

العالم الموسوعي:

عرفته الدنيا داعيةً صادقًا، وواعظًا مؤثرًا، ومصلحًا حركيًّا، كما عرفه الناس مربيًا وموجهًا ومرشدًا؛ يربي النشء على مبادئ الإسلام ليصنع منهم رجالاً يحملون راية الدعوة، وقد أعلن هو أكثر من مرة حينما سُئل: لماذا لا تؤلف الكتب؟، فأجب أنه مهموم ومشغول بتأليف الرجال، فإذا ما ألَّف الرجال حملوا الرايةَ من بعده، وقاموا بالتأليف والتصنيف، وملئوا الدنيا علمًا وعملاً.

بيد أن الناس لم يعرفوا حسن البنا العالم الكاتب، الذي ملأ الدنيا بمقالاته وشغل الناس، فكتب في كل مجالٍ من مجالات الثقافة الإسلامية والإنسانية: كتب في التفسير والحديث، والفقه والأصول، والتصوف والسلوك، والسير والأعلام، والمناسبات والأعياد، والمواعظ القلبية والخطب المنبرية، والدعوة والحركة، والتربية والإصلاح، والسياسة والاجتماع، والاقتصاد والعمران.. كل هذه المجالات كتب فيها كتابةَ العالم المتخصص، ونظر إليها نظرة الناقد البصير.

يقول الغزالي: "لقد كان حسن البنا واحدًا من علماء كثيرين ظهروا في العصر الأخير، علماء لهم فقه جيد في الإسلام ودروس رائعة.

بيد أن حسن البنا يمتاز عن أولئك بخاصةٍ أُتيحت له وحده ولم يرزق غيره منها إلا القليل، خاصة تأليف الرجال، والاستيلاء على أفئدتهم، وغرس علمه في شغاف قلوبهم وأخذهم بآداب الإسلام في تلطُّفٍ وإحسانٍ ساحرَين" (7)

ويقول: "لقد كان الإمام الشهيد يبعثر العلم في خطبه كما يبعثر الزارع الحَبَّ في أرضه، وأعانته على ذلك موهبةٌ لم تُعرف في تاريخنا الثقافي إلا لأبي حامد الغزالي؛ فقد كان أبو حامد الغزالي قادرًا على أن يشرح للعامة أفكار الفلاسفة، ويجعل ما تعقَّد منها كلامًا سهلاً سائغًا، كذلك كان حسن البنا- رضي الله عنه- يلخِّص لسامعيه حقائق الدين والدنيا، ويوجِّههم بحبٍّ ورفق إلى ما يريد من خدمة الإسلام، وتجاوز المرحلة التاريخية الصعبة التي يمر بها، أو التي كبا فيها"(8).

وعن أسلوبه في التربية كتب يقول: "كان لدى حسن البنا ثروة طائلة من علم النفس، وفن التربية وقواعد الاجتماع، وكان له بصر نافذ بطبائع الجماهير، وقيم الأفراد وميزان المواهب"(9).

وعن صلته بالقرآن وتفسيره، والسنة والفقه والتاريخ يقول: "كان مدمنًا لتلاوة القرآن يتلوه بصوتٍ رخيم، وكان يُحسن تفسيره كأنه الطبري أو القرطبي، وله قدرةٌ ملحوظةٌ على فهْم أصعب المعاني ثم عرضها على الجماهير بأسلوبٍ سهلٍ قريب.

وهو لم يحمل عنوان التصوف، ومع ذلك فإن أسلوبه في التربية وتعهُّد الأتباع وإشعاع مشاعر الحب في الله، كان يُذكِّر بالحارث المحاسبي وأبي حامد الغزالي.

وقد درس السنة المطهَّرة على والده الذي أعاد ترتيب مسند أحمد بن حنبل، كما درس الفقه المذهبي باقتضاب، فأفاده ذلك بصرًا سديدًا بمنهج السلف والخلف.

وقد أحاط الأستاذ البنا بالتاريخ الإسلامي، وتتبع عوامل المد والجزر في مراحله المختلفة، وتعمَّق تعمقًا شديدًا في حاضر العالم الإسلامي، ومؤامرات الاحتلال الأجنبي ضده"(10).

ويقول مبينًا أفق هذا العلم لديه: "إن حسن البنا كان أنجحَ الدعاة في هذا العصر، وقد أعانه على بلوغ ذلك علمٌ غزيرٌ، واطلاعٌ واعٍ على الثقافة الإسلامية قديمها وحديثها، أذكر أنه كلَّفني مرةً مع بعض الزملاء بنقل مكتبته من حي السبتية بالقاهرة إلى مسكنٍ جديدٍ اختاره قريبًا من المركز العام بالحلمية، فقلَّبتُ ألوف الكتب في شتى علوم الدين والأدب، بل لقد رأيتُ في مكتبته رسائل في القضايا التافهة، مثل: حكم حمل المسبحة!.

ويخطئ مَن يحسب حسن البنا واعظًا يجيد التعليم والتربية وحسب، إننا بلوناه فرأينا لديه فقهَ الأئمة الكبار من علمائنا، كما رأينا لديه فكر المجددين المعاصرين العباقرة" (11)

وحسبنا ما قاله الشيخ العلامة د. يوسف القرضاوي في مذكراته- ولكلمته وزن في مجال الدراسات الشرعية-: "كان البنا ذا ثقافة واسعة، تكوِّنت لديه من الدراسة في دار العلوم، ومن قراءاته الخاصة الطويلة والمتنوعة؛ فهو عالم متبحِّر في علوم اللغة العربية وآدابها، وفي العلوم الشرعية: العقيدة والفقه والأصول والتفسير والحديث والسيرة النبوية والتاريخ الإسلامي، وله إلمامٌ جيدٌ بالعلوم الاجتماعية".

وقد صدر مؤخرًا- تصديقًا لهذا الكلام- سلسلة شرعية وسياسية واجتماعية ضمَّت مقالات حسن البنا في هذه العلوم بلغت اثني عشر مجلدًا.

المُلهَم الموهوب:

إنَّ الذي ينظر إلى آثار حسن البنا في الواقع وفي قلوب الناس لا يكاد يُصدِّق أن هذا فعْل رجل واحد عاش من العمر ثلاثةً وأربعين عامًا؛ ما لم يكن مسدَّدًا من الحقِّ الأعلى، ملاحَظًا بعناية السماء.

فكم شرح الله به صدورًا للإسلام، وكم قلبٍ هدى إلى الله، وكم فكرٍ أرشده للصواب، وكم تائبٍ عشق الحق ولزم الاستقامة!!.

لقد كان للجماهير بغام مزعج: يحيى فلان ويبقى فلان، فأصبح لها هتاف يهدر بتكبير الله وتحميده وتمجيده، مثقفون كثيرون كانوا يتوارون من الإسلام، ويستحون من الانتماء إليه، فلمَّا استمعوا إلى حسن البنا أصبحوا يجأرون بالإسلام، ويطالبون بالعيش في ظلاله، وخلال عشرين عامًا تقريبًا صَنَعَ هذه الجماهير التي صدَّعت الاستعمار الثقافي والعسكري، ونفخت روح الحياة في الجسد الهامد.

ترى، هل كان ذلك كله جهدًا بشريًّا معزولاً عن السماء، بعيدًا عن التوفيق الأعلى؟!.. كلا.. كلا.

وهذا ما جعل الغزالي يقول في أول مقدمة كتابه "دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين" يشرح فيه الأصول العشرين: "مُلهَم هذا الكتاب وصاحب موضوعه: الأستاذ الإمام حسن البنا، الذي أصفه- ويصفه معي كثيرون- بأنه مجدد القرن الرابع عشر للهجرة؛ فقد وضع جملةَ مبادئٍ تجمع الشمل المتفرِّق، وتوضِّح الهدف الغائم، وتعود بالمسلمين إلى كتاب ربهم، وسنة نبيهم، وتتناول ما عراهم خلال الماضي من أسباب العِوَج والاسترخاء، بيدٍ آسيةٍ، وعينٍ لمَّاحةٍ، فلا تدع سببًا لضعف أو خمول".

يقول الغزالي- يرحمه الله-: "كان حسن البنا موفَّقًا في انتقاء الرجال، وكانت كلماته البارعة تأخذ طريقها المستقيم إلى عقولهم فتأسرها؛ وذلك أمر يرجع إلى فضل الله أكثر مما يرجع إلى المهارة الخاصة، واقتياد الكلمة من فم القائل إلى شغاف قلب السامع يمكن أن يُقال فيه: "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى"، وقد سمعت بعض تلامذة الإمام الشهيد يرددون المعانيَ نفسها التي كانت تجري على لسان الرجل، ويستحيل أن تجد في كلامهم عوجًا، ومع ذلك فإن الفتح بها محدود، إن السماء وحدها التي تضع للإنسان القبول في الأرض، وقد كان حسن البنا ملاحَظًا بعناية الله من هذه الناحية المهمة" (12)

السائح العابد الزاهد:

ومن الأمور التي تميز بها البنا عن غيره من الدعاة والمصلحين سياحته في القطر المصري كله عندما بدأ جهاده الدعوي، فكما يروي عنه تلامذته أنه كان كثيرًا ما يصلِّي الفجر في القاهرة ثم يصلي الظهر في المنيا، ومنها في اليوم نفسه إلى سوهاج، وقنا في الصعيد، ثم يكون حظه من النوم سويعات أثناء ركوبه القطار، يؤازره في هذا الجهاد زهادة في الدنيا، واستعلاء على الشهوات، وقلب معلَّق بالله.

يقول الشيخ الغزالي: "كان هذا الإمام العجيب يحسب عمره بالدقائق لا بالساعات، وفوق تراب مصر وحدها شقَّ الطريق إلى عشرات المدن وآلاف القرى، فتحدَّث إلى الناس في ثلاثة آلاف قرية على الأقل، ولا أزال أتصوره وهو يزرع الحب بالبسمة الرقيقة، ويصنع اليقين بالإقناع الهادئ، ويتجاوز الخلافات برفض الجدل، وتعليق الناس بالجوهر لا بالمظهر، وتقديم الأهم على المهم، وقبل ذلك وبعده بتقوى الله والإعداد للقائه، وبكلمته التي طالما سمعته يرددها: إن موتًا في حق هو عين البقاء" (13).

ويتساءل الغزالي: "أهذا ما يتميز به؟ لا.. لقد رأيت حسن البنا يعمل وينسب عمله لغيره.. كان نكران الذات خليقةً ثابتةً فيه، على حين نجد كُثْرًا من الساسة الآن يدورون حول ذواتهم ويعبدون أنفسهم" (14).

كانت أحوال الأمة وبُعدها عن روح الدين يؤرقه ويؤثر في نفسه حتى تعدَّى الأثر وبلغ جسده، يقول الشيخ الغزالي في هذا المعنى: "التقيتُ الأستاذ الإمام قبل يومٍ من استشهاده، وعانقته، وأفزعني أني عانقتُ عِظامًا معلَّقةً عليها ملابس! كانت الهموم قد اخترمت جسدَ الرجل فلم تُبقِ منه إلا شبحًا يحمل وجهه المغضَّن العريض" (15).

ولهذا كانت نفسه- رضي الله عنه- شفَّافةً مشرقةً، أو كما عبَّر الشيخ الغزالي: "الرجل الذي يشتغل بتعليم الناس لا يستطيع في أحيانه كلها أن يرسل النفع فيضًا غدقًا؛ فله ساعات يخمد فيها، وساعات يتألَّق وينير. إن الإشعاع الدائم طبيعة الكواكب وحدها، وقد كان حسن البنا في أفقه الداني البعيد من هذا الطراز الهادي بطبيعته؛ لأن جوهر نفسه لا يتوقف عن الإشعاع"(16).

ما كتبه الشيخ محمد الغزالي عن الإمام البنا كثير، يزيد عما نقلناه في الأفكار على الأقل أضعافًا مضاعفة، ولم لا، ومجال القول ذو سعة؟!.

ونختم بكلمة معبِّرة قالها الغزالي عن الداعية والدعوة: "إن الرسالة التي حمل لواءها حسن البنا يجب أن تبقى، وهي رسالةٌ يستحيل أن يكرهها مسلم مخلص لله ورسله، ولا تزال جماعة الإخوان المسلمين بعد عشرات السنين من اغتيال حسن البنا أعدلَ الجماعات الإسلامية، ولا يزال التاريخ الإسلامي المعاصر بحاجةٍ إليها، وأحسب أن الذين يهاجمونها إما أبواق لأعداء الإسلام، وإما جهلة لا يدرون شيئًا"(17).

فضيلة الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي:

كان القدر الأعلى يصنع على عينه رجلا يعده لمهمة، ويسد به ثغرة، كان الرجل هو "حسن البنا"، وكانت المهمة هي إيقاظ الأمة من رقود، وبعثها من همود، وتحريكها من جمود، وبعبارة أخرى إحياء عقل الأمة وضميرها، وتفجير طاقاتها المكنونة بتجديد الإسلام فيها، وجمعها على رسالته، والإيمان به هدفا ومنهاجا للحياة، والجهاد في سبيل تمكينه في الأرض. كانت الأمة في حاجة إلى عقل جديد، وقلب جديد، وعزم جديد، ودم جديد، وكانت في حاجة إلى أن تتجسد هذه المعاني في رجل يضع يده في يد الله، لينير له الطريق، ويهديه السبيل.

تلك كلمات 9 من الرجال الأبرار والعلماء الربانيين، شهدوا بما علموا، وهكذا لا يعرف الرجال إلا الرجال.

فرحم الله البنا ورحم الله علماءنا الأبرار.

الإمام حسن البنا في عيون معاصريه:

وكتب عبده مصطفى دسوقي يقول:

كثير من الناس يولدون ويموتون فلا تشعر الدنيا بهم، وإن كثيرًا يودِّعون هذه الحياة وقد تركوا لأنفسهم ما ينفعهم؛ من صدقةٍ جاريةٍ أو علمٍ نافعٍ أو ولدٍ صالحٍ، ولكن القلة القليلة من الناس هم الذين إذا ودَّعوا الحياة تركوا ميراثًا ينفعهم، وكأنهم يوم ودَّعوها لم يبرحوا منازلها إلا ليطلُّوا من شرفات الغيب عليها.

وكان من أبرز هؤلاء في مصر في العصر الحديث الإمام الشهيد حسن البنا؛ حيث جاء والناس في شغل عن عقائدهم بالبدع والخرافات وأمورٍ ما أنزل الله بها من سلطان، ورأى الفجور قد وقر في القلوب، وران على الأفئدة، ووجد الدينَ في نظر الناس وقفًا على الصوامع والزوايا، ورأى العالم الإسلامي مفكَّكًا يرزح تحت نير الاستعمار والطغيان، فأيقظ المسلمين من نومهم، وأفهمهم جميعًا أن الإسلام دين ودولة، وأن الدين ليس فقهًا وشريعةً فحسب، وإنما هو أيضًا سياسة وحكم، جيش وفكرة، كسب وغنى.

فحسن البنا باعث أمة، وقائد نهضة، ومربِّي جيل، ومجدد الدعوة الإسلامية في القرن الرابع عشر الهجري؛ وقف في وجه الطغيان أيام كان الزعماء ينحنون للطغاة، جهر بمحاربة الفساد في الوقت الذي قنع فيه الجميع وحرص على إنقاذ بلدٍ يبيعه حكَّامه!!.

فلم يكن حسن البنا زعيمًا مصريًّا محدودًا، ولا عربيًّا قاصرًا، بل كان زعيمًا إسلاميًّا عالميًّا، حمل بين يديه الإسلام، فكان خيرَ داعية في العصر الحديث.

ولقد كتب عنه الكثير ممن عاصروه، سواءٌ ممن تتلمذ على يديه أم ممن عايش مواقفه الحية أو لمس أثره في المجتمع؛ فقد كتب عنه بما حباه الله من صفات الكثير والكثير ممن عاصروه.

المرشد الملهم:

تحت هذا العنوان كتب عنه المستشار حسن الهضيبي (المرشد العام الثاني للإخوان) قوله: عرفتُه أول ما عرفتُه من غرس يده، كنت أدخل المدن والقرى، فأجد إعلانات عن: الإخوان المسلمين دعوة الحق والقوة والحرية، فخلتُ أنها إحدى الجمعيات التي تُعنَى بتحفيظ القرآن، والإحسان إلى الفقراء، ودفن الموتى، والحثّ على العبادات؛ من صوم وصلاة.. إلخ، وأن هذا قصاراها من معرفة الحق والقوة والحرية، فلم أحفل بها؛ فكثيرٌ هم الذين يقرأون القرآن دون أن يفقهوه، ودون أن يعملوا به، وأكثر منهم الذين يصلّون ويصومون ويحجُّون دون أن يكون لذلك أثرٌ في نفوسهم، والإحسان إلى الفقراء كثيرًا ما يوضع في غير موضعه، ويكون مخالفًا للدين، لم أحاول- كما هي العادة- أن أعرف شيئًا عن دعوة الإخوان المسلمين.

ثم التقيت يومًا بفتية من الريف أقبلوا عليَّ- على غير عادة الأحداث مع من هم أكبر منهم سنًّا ومركزًا- يحدثونني، فوجدت عجبًا؛ فتية من الريف، لا يكاد الواحد منهم يتجاوز في معارفه القراءة والكتابة، يحسنون جلوسهم مع من هم أكبر منهم في أدبٍ لا تكلُّف فيه، ولا يحسُّون بأن أحدًا أعلى من أحد، ويتكلمون في المسألة المصرية كأحسن ما يتكلم فيها شاب متعلم مثقف؛ يعرفون من الأخطاء التي ارتُكبَت في عرضها وفي المفاوضات التي جرت فيها وطريقة حلها ما لا يدركه إلا القليل من الناس، ويتكلَّمون في المسائل الدينية كلامَ الفاهم المتحرِّر من رقِّ التقليد، ويبسطون الكلام في ذلك إلى مسائل مما يحسبه الناس من صرف المسائل الدنيوية، ويعرفون من تاريخ الرسول- وتاريخه هو تاريخ الرسالة- ما لا يعرفه طلبة الجامعات، فعجبت لشأنهم، وسألتهم أين تعلموا كل ذلك؟! فأخبروني أنهم من الإخوان المسلمين، وأن دعوتهم تشمل كل شيء، وتُعنى بالتربية والأخلاق، والسياسية والاقتصاد، والغنى والفقر، وإصلاح الأسرة، وغير ذلك من الشئون؛ صغيرها وجليلها.

من ذلك الوقت تتبعت حركة الإخوان، وصِرت أقرأ مطبوعاتهم، وأتصل بهم دون أن أعرف الداعية إلى ذلك، ولكنني عرفته من غرس يده، قبل أن أعرف شخصه.

حسن البنا.. العبقرية الفذة:

وتحت هذا العنوان كتب الأستاذ محمد عبد الله السمان (المفكر والكاتب) فيقول: لبثتُ أكثر من عام متردِّدًا عن الكتابة عن حسن البنا العبقري الفذّ؛ وذلك قبل أن يلحق بالرفيق الأعلى؛ لأني كنت أعتبر الكتابة عن الرجل في حياته ضربًا من ضروب التزلُّف، رغم أنه كان أعفَّ زعيم عن بوادر الثناء عليه والتزلُّف إليه؛ لأن حياته لم تكن حياة زعيم عاطل مليئةً بالثرثرة الجوفاء، وإنما كانت حياته ملكَ دعوةٍ ناهضةٍ حيةٍ، لم تدَع له لحظةً من عمره يذوق فيها طعم الخلود إلى السكينة والراحة، ولحق الشهيد الأعزل بربه، وعاودتني الرغبة إلى الكتابة عنه في كتابٍ يليق بقدره، واخترت عنوان الكتاب، ومضت سنة أخرى وثالثة، ولم أستطع خلالها أن أزيد على العنوان إلا مقدَّمة الكتاب، وأعددت الصفحات البيضاء في انتظار ملئها بما سجَّلته المذكرة والذاكرة من خواطر، وكلما حاولت أن أستجديَ قلمي حنينه استعصى استعصاءَ الحجارة، وأقسم ألا يجود بأكثر مما جاد به العنوان والمقدمة.. وكفى!.

يا له من قلم عَصيٍّ عنيدٍ، تتوارد الخواطر على فكري كالسيل المنهمر في هذه الشخصية الفذَّة التي تتسع لها أضخم الأسفار، فإذا ما طُلب منك أن تسجِّل استعصيتَ وعندت، واضطررتَني إلى أن أدع صفحات الكتاب البيضاء متراكمةً حتى صارت كالجسد المُسجَّى فوق المكتب؛ كلما دخلت ألقيت عليه نظرات الأسى والحسرة.

وما كنت أدري أن السر في عناء القلم واستعصائه هو الخجل من أن يكتب عن هذه الشخصية، وهو أعجز من أن يحيط بنواحي عبقريتها الفذة، وأهون من أن يلقيَ على عاتقه القيام بهذه المهمة الشاقة التي لا طاقةَ له بها، فأدركت أني كنت الأبله لا القلم، وأني كنت العنيد المستبدّ، لا قلمي الذي كان أبرأَ ما يكون من العناد والاستبداد!!.

كانت عبقرية الشهيد الأعزل "حسن البنا" لونًا فريدًا من العبقريات التي عرفها تاريخ البشر؛ فحسن البنا لم تُلقَ إليه مقاليد السلطان يومًا، ولم يكن مشعوِذًا دجَّالاً، تنجذب إليه أفئدة السوقة والعامة والرعاع، ومع هذا فقد كان ذا سلطان لا يدانيه سلطان في الشرق، وصاحبَ قوة أقلقت جنبات الاستعمار، وصدَّعت أعمدة الحكم الإقطاعي الجائر، وانجذبت إليه أفقهُ القلوب، وأنضرُ العقول، وأخصبُ الأسماع، وليس بعد هذا دليلٌ على أن الشهيد الأعزل "حسن البنا" كان يتمتع بعبقرية فذة لم يعرف تاريخ البشرية مثيلاً لها.

كان "حسن البنا" عبقريًّا في فهمه للإسلام، وعبقريًّا في تفهيمه الإسلام، وعبقريًّا في فهمه كتابَ الله، وعبقريًّا في تفهيمه كتاب الله، وعبقريًّا في خطابته، وعبقريًّا في قيادته، وعبقريًّا في سياسته، وعبقريًّا في حياته العامة، حتى موتته لم تُحرم جانبًا من جوانب عبقريته الفذة الخالدة!.

ماذا صنع حسن البنا؟

كتب أحمد عادل كمال تحت هذا العنوان قوله: حينما طُلب مني أن أكتب عن حسن البنا شعرت بقصور كبير عن أن أكتب فأوفِّي؛ فقد كان حسن البنا رضي الله عنه عملاقًا، يتضاءل بجانبه كل مارد، ويعجز قلمٌ أو لسانٌ أن ينصفه بين الناس أو يوفِّيَه حسابَه، ونحن حين نذكر حسن البنا رحمه الله كإمامٍ للجيل ونذكر معه حديث الرسول صلوات الله وسلامه عليه: "إن الله ليرسل لهذه الأمة على رأس كل مائة من يجدِّد لها أمر دينها"، نجد أن حسن البنا رحمه الله يبزّ أقرانه من أئمة القرون ويفوقهم ويرتفع فوقهم درجات من غير أن ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومع تقديرنا وتوقيرنا الكامل لهم جميعًا رضي الله عنهم أجمعين.

فمَن مِن هؤلاء الأئمة جاء في ظروف مثل أيام حسن البنا وفعل مثلما فعل؟! من منهم جاء وأمة محمد صلى الله عليه وسلم ممزَّقةٌ مقطَّعةٌ إلى دول ودويلات وإمارات وأشلاء، يربض فوق كل قطعة صغيرة منها جبار عتيد من جبابرة المستعمرين وبيدهم سيف المعز وذهبه؟!

من منهم جاء إلى خير أمة أخرجت للناس فوجدها شرَّ أمة تهون في أعين الناس وفي أعين بنيها؟!

مَن منهم رضي الله عنهم جاء إلى أمة محمد وقد زال من قلوب بنيها كل معنى كريم من معاني العزة والكرامة والحرية والقوة بل والأمل؟!

مَن منهم جاء إلى هذه الأمة؛ فوجد معين الخلق القويم قد نضب في قلوب أبنائها وفي نفوسهم؟!

مَن منهم عرض الإسلام بعد أربعة عشر قرنًا من الزمان غضًّا طريًّا؛ يقرأ القرآن كما أُنزل، ويفتح من الناس قلوبًا ورثت الغفلة جيلاً عن جيل، فأدركوا أن الإسلام دينُ كل عصر، ورسالةُ كل أوان، ودستور كل قطر؛ يصلح به ما لا يصلح بغيره؟!

من منهم جمع القلوب على قلب رجل واحد؛ شبَّانًا ورجالاً وشيوخًا، ذُكرانًا وإناثًا، فأعدَّهم عددًا، وصفَّهم صفوفًا، ونظَّمهم كتائب، وجيَّشهم جيوشًا، وسكب في قلوبهم من عقيدة الإسلام وقواعده إيمانًا انساب إلى شغافهم؛ فأصبحوا يحيون به ومن أجله، فخطَّ لشباب هذه الأمة خطًّا غير الذي أريد لها، ورأى أبالسة الجن والإنس وجنودهم منهم ما كانوا يحذرون؟!

ثم مَن منهم لقي الله شهيدًا في سبيل دعوته؛ اغتالته يد الظلم والبطش والطغيان والسفالة في ساعةٍ من ظلام؟!

لئن كان بعض هذا ونزْرٌ منه لغير حسن البنا، فقد اجتمع كل هذا في حسن البنا رحمه الله، ورضي الله عنه وأرضاه، وجزاه خير ما يجزي داعيةً عن دعوته.

ماذا قلن عن حسن البنا؟:

كتبت السيدة زينب جبارة رئيسة جمعية السيدات المسلمات في عهد الإمام البنا، فقالت: إن حسن البنا هو الرجل الذي فقدته مصرُ في مرحلةٍ من أدقِّ مراحل حياتها، كانت في مسيس الحاجة إلى دعوته التي قام بأعبائها، هذا الرجل العظيم الذي قلَّ أن تجود الأيام بمثله، أو أن نجد عوضًا عنه..

كان شخصيةً جبَّارةً قويةً، وليس أدل على قوة شخصيته الجبارة من أن أمريكا وإنجلترا وفرنسا كانت جميعها تنظر إلى الرجل بعين الحذر، وتراقب حركته من بعيد ومن قريب وأيديها على قلوبها؛ فلقد كانت تعلم وتؤمن بأن حركة الإخوان المسلمين خطرٌ على الاستعمار أينما حلَّ في رقعة إسلامية أو بين شعب مسلم، ولم تكن أمثال إنجلترا وأمريكا وفرنسا وحدها الجبهات التي تحارب وتتقي حركة الشهيد حسن البنا؛ فقد كان طاغوت الفساد المتجسّم في القصر وأعوانه جبهةً معاديةً لحركة الشهيد، وظنَّت هذه الجبهة أن الحياة لن تطيب لها، وأن العيش لن يحلوَ لها إلا إذا تخلَّصت من دعوة الإخوان وقائد الإخوان، فراحت تعمل بكل ما أوتيت من قوة لتنفِّذ مؤامرتها، ولم يكَد يستقر بهذه الجبهة القرار حتى أخذ الله ينتقم لدماء الشهيد ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ (الفجر: 14).

وتحت هذا المعنى كتبت السيدة بهية نصار رئيسة مبرة الخدمة الإسلامية: كان رحمه الله صاحبَ رسالة، وكان موفَّقًا كل التوفيق؛ حيث لمس حقيقة الداء وعالجه بأنجع دواء؛ رأى انهيار الأخلاق وانحراف الناس عن الطريق السوي بتركهم الدينَ وراء ظهورهم، فعمل جاهدًا على تغيير الوضع، وسلك بالإخوان وبشباب الأمة خاصةً السبيل العملي، ليخلق من كل فردٍ المسلمَ الحقَّ والمواطنَ القويَّ الصالحَ، وشقَّ طريقه قُدمًا، عُدَّته الإيمان والإخلاص والعمل، فلازمه النجاح، حتى إذا ما وافاه الأجل المحتَّم كان قد بلَّغ الآلاف المؤلَّفة، وقابل ربه بنفس راضية مطمئنة، أثابه الله بقدر نفعه للوطن الإسلامي وللمسلمين، وأسكنه فسيح جناته، ووفَّق الإخوان إلى ترسُّم خطاه، ونفع بهم وبأمثالهم الوطن المفدَّى وبنيه في ظل العهد الجديد عهد النظام والاتحاد والعمل.

حسن البنا.. مجدد الإسلام في القرن العشرين:

كتب الداعية الشهير الشيخ عبد الحميد كشك رحمه الله: الإمام الشهيد حسن البنا هو الداعية الذي بعث الأمل في قلوب اليائسين، وقاد سفينة العالم الحائر في خضمِّ المحيط إلى طريق الله رب العالمين.

هو الرجل الذي كان يقول لأتباعه: "كونوا مع الناس كالشجر؛ يرمونه بالحجر فيرميهم بالثمر"!.

عرفتُه من كتاباته، وعرفتُه من مريديه ومحبِّيه، وعرفتُه من آثاره الطيبة وأعماله المجيدة، عرفتُه داعيةً يجمع ولا يفرِّق، يحمي ولا يبدِّد، يصون ولا يهدِّد، يشدُّ أزر الأصدقاء ويردُّ كيد الأعداء.

عرفته رجلاً بعيد النظر، قويَّ الحجة، فاهمًا لأحداث عصره، مجدِّدًا.

لقد كان الإمام الشهيد رجلاً يتلافى الخلاف، ويعمل على توحيد الأمة.

سئل ذات يوم من أحد عشَّاق الفُرقة: لماذا تبني الجمعية الشرعية المساجد وأنتم لا تبنون؟! فقال: عليهم أن يبنوا المساجد، وعلينا أن نملأها.

وسأله أحدهم: ما الفرق بين الإخوان المسلمين والجمعية الشرعية؟ فقال: أما الإخوان فهم في الدرب الأحمر، وأما الجمعية الشرعية فهم في الخيامية.

عرفتُه- رحمه الله- داعيةً، اجتمعت فيه صفات الصالحين، أولها القدوة الحسنة؛ فقد استطاع أن يتخلص من أكبر عقدتَين يصاب بهما الداعية، هما: المال، والنساء، كما قال المستشرق نولدكه تحت عنوان (الرجل الرباني): "مات ولم يشبع من خبز الشعير، مات ميتةً كريمةً؛ فهو الشهيد الذي وقف فقال كلمة حق في وجه سلطان جائر؛ إنه بين حمزة وجعفر".

كان شجاعًا في الحق، لا يخشى في الله لومة لائم، وكان عالمًا يقرأ كثيرًا، ويكتب ويستنتج، وكان صبورًا عليمًا، وكان قبل ذلك وبعد ذلك مخلصًا.

كان رجلا قرآنيًّا؛ إذا سمعته يتحدث خُيِّل إليك أنه يمسك القرآن باليد اليمنى والسنة باليد الأخرى، كان خطيبًا فصيحًا مفوَّهًا، وكان يعمل بما يقول، واستطاع أن يربِّيَ مليونين من شعب مصر، هذا بخلاف العالم الخارجي.

لقد بدأ دعوته بلا خُطب، وإنما أمسك المصحف بيمينه وقال قولته المشهورة "الطريق من هنا".

لقد جاءت دعوة الإخوان المسلمين لتعمَّ المشارق والمغارب بنورها، وكأن الله أراد للإسلام أن ينقذ أبناءه بهذه الدعوة، فانساح أتباعه في مشارق الأرض ومغاربها انسياحَ ماء البحر الطهور الذي يغسل وجه الأرض من أرجاسها وأنجاسها وأدناسها، فرحمك الله يا إمام، وألحقنا بك على خير حال.

الداعية الواعي:

كتب الفريق عزيز المصري، وكان قائد الجيش المصري في عهد الملك، يقول: عرفت الشهيد حسن البنا أول مرة بعد عودتي من لندن 1937 حينما كنت في معيَّة سمو ولي العهد؛ وذلك حينما وجدت في انتظاري ثلاثةً قالوا لي إنهم من الإخوان المسلمين، ونظرًا لأن ملابسهم كانت من المتعارف على أنها إسلامية إلا أنها في نظري بعيدة عن الإسلام، قلت لهم: إنني لا أريد مقابلتهم؛ لأنني أريد أن أرى الإخوان المسلمين يمثلون فكرة التجديد والبعث حتى في أزيائهم، فتكون مبسَّطة ولو جاكتة مقفّلة وبنطلون، وبدلاً من "المسابح" يضع كلٌّ منهم في يده كتابًا يناقشني فيه.

ولشدَّة ما كانت دهشتي حينما جاءني في الغد أحد هؤلاء الثلاثة وقال لي إنه حسن البنا، وإنه مؤمن بكل ما قلت، ولكنَّ الرجعية التي تردَّى فيها المسلمون تجعلنا نطرق هذا الباب حتى نعيدَكم إلى الفكرة الإسلامية الصحيحة التي تجعل من المسلم شعلةً للعلم والتقدم والهداية للإنسانية، فأكبرت الرجل وعرفت فيه الداعيةَ الواعي، وقد كنت أتوقع ألا أراه بعد المقابلة الشديدة التي قابلتهم بها.

ومنذ ذلك اليوم توثَّقت الصلة بيني وبينه، وكنا نتقابل بين حين وآخر، وأرى في وجهه علائم الإيمان باديةً وآيات الصدق والإخلاص مرتسمةً؛ مما زادني فيه ثقةً وإيمانًا.

وحينما كنت بسجن الأجانب إبان استشهاده جاءني أحد الضباط وعلى وجهه علامات الأسى، مخالفًا الأوامر ومبلِّغًا إياي ذلك النبأ المفجع؛ فأحسست بخنجرٍ أصابني في صدري لفقد ذلك الرجل العظيم.

رحمه الله رحمة واسعة، وألهم خلفاءه والإخوان حسنَ السير على منواله وإتمام الرسالة التي بدأها.

في ذكرى الإمام الشهيد:

كتب الأستاذ مريت غالي: عرفت المغفور له الأستاذ حسن البنا منذ سنوات عدة؛ فعرفت فيه الرجولة التامة، ورأيت فيه على الدوام رجلاً فذًّا من الناحيتَين الخلقية والإنسانية، وقد كان رحمه الله على ثقافة واسعة، يتمتَّع بشخصية جذَّابة، ويأخذ بأسباب القلوب، ولا شكَّ أن رجلاً هذه طباعه وتلك كفايته كان ذخرًا قيِّمًا لبلاده، فجاء مصرعه خسارةً كبيرةً، ويزيد الخسارة فداحةً أن وقع فريسة اغتيال مدبَّر، وقد تفشَّى بيننا داء الاغتيال السياسي البغيض منذ أوائل هذا القرن.

وهؤلاء الذين يقيمون من أنفسهم مدَّعين وقضاةً ومنفِّذين وجلاَّدين بدافعٍ من هواهم أو رأيهم الشخصي، إنما هم أخطر الناس على النظام والاستقرار والمدنية، ولا بد أن يؤخذوا أخذةً رابيةً يعتبر بها الغير؛ حتى لا يتطلَّعوا إلى اغتصاب حق الدولة وحدها في مظاهرة العدالة والاقتصاص من كل من يتهجَّم عليها.

تحية دعوة الحق في عامها العشرين:

كتب الشاعر الكبير علي أحمد باكثير قصيدةً عن الإمام الشهيد قال فيها:

عشرون عامًا بالجهاد حوافل     مرَّت كبين عشية وضحاها

ما كان أقصرها وأطول باعها   في الصالحات إذا يقاس مداها

هي دعوة الحق التي انطلقت فلم تقوَ الموانع أن تعوق خطاها

لله "مرشدها" فلولا صدقه           لم يغزُ آلافَ النفوس هداها

في قلبه وريت فشبّ ضرامها       بلسانه حتى استطار سناها

بالأمس نجوى في فؤاد واحد      واليوم في الدنيا يرنُّ صداها

أضحت عقيدة مؤمنين بربهم      ومبلغي أوطانهم رجواها

متسابقين إلى الجهاد ليحفظوا       عز البلاد ويكشفوا بلواها

ولينهضوا من طويل خمولها     ويقطفوها من عميق كراها

ويطِّهروا أرض العروبة كلها      من كل باغٍ يستبيح حماها

ويوحِّدوا الإسلام في أقطاره         ما بين أدناها إلى أقصاها

زعموا السياسة ذنبه يا ويحهم!!   ما فضل دين محمد لولاها؟!

دين الحياة تضيع أخراها على       أبنائه إن ضيَّعوا دنياها!

فليمضِ عند الهادمون فإنه          "بناء" نهضة قومه وفتاها

الشيخ محمد الحامد والإمام حسن البنا:

في مصر تعرّف إلى الإمام حسن البنّا رحمه الله تعالى، وتحوّلت هذه المعرفة إلى علاقة حميمة عالية بينهما، يتحدث عنها الشيخ قائلًا: “والذي أّثر في نفسي تأثيرًا من نوع خاص، وله يدٌ في تكويني الشخصي، سيدي وأخي في الله وأستاذي، الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله وأغدق عليه غيوث الإحسان والكرم، صحِبتُهُ في مصر سِنين، وحديثي عنه لو بَسَطْتُهُ، لكان طويل الذيل، ولكانت كلماُته، قِطَعَاً من قلبي، وأفلاذًا من كبدي، وحُرَقاً من حرارة روحي، ودموعاً مُنْهَلّة منسابة تشكّل سيلًا من فاجع الألم وعظيم اللوعة.

ولكنني أكتفي بالإيجاز من الإطناب، وبالاختصار من التطويل، وقد بَكَيته كثيرًا بعد استشهاده، على نأي الدار وشَطّ المزار، ولا أزال أذكره حتى ألقاه في زمرة الصالحين إن شاء الله تعالى وتبارك، إنه أخي قبل إخوتي في النسب.

ولما وافاني نبأ اغتياله قلتُ: إن موتَ ولديّ – ولم يكن لي غيرُهُما حينئذ – أهون عليّ من وفاة الأستاذ المرشد.

وكنتُ رأيت فيما يرى النائم ليلة قُتل، ولا علم لي بالذي حصل، رأيت أننا في معركة مع اليهود، وقد بدأ التقهقر في جُندنا، حتى إني لأمشي منحنياً لئلا يصيبَني رصاصهم، فاستيقظتُ واستعذت بالله من شر هذه الرؤيا.

وفي النهار ألقى عليّ بعض الناس الخبر، فكان وقعه أشدّ من شديد، وكان تأويلَ رؤياي.

إني أقولها كلمة حرة، ولا بأس بروايتها عني، أقول: إن المسلمين لم يَرَوا مثل حسن البنا من مئات السنين، في مجموع الصفات التي تحلّى بها، وخَفَقَتْ أعلامُها على رأسه الشريف.

لا أنكر إرشاد المرشدين، وعِلْم العالمين، ومعرفة العارفين، وبلاغة الخطباء والكاتبين، وقيادة القائدين، وتدبير المدبّرين، وحنكة السائسين، لا أنكر هذا كله عليهم، من سابقين ولاحقين، لكن هذا التجمع لهذه المتفرّقات من الكمالات، قلّما ظَفِرَ به أحد كالإمام الشهيد رحمه الله.

لقد عرفه الناس وآمنوا بصدقه، وكنتُ واحدًا من هؤلاء العارفين به، والذي أقوله فيه قولًا جامعاً: هو أنه كان بكليّته، بروحه وجسده، بقلبه وقالبه، بتصرفاته وتقلبه، كان لله، فكان الله له، واجتباه وجعله من سادات الشهداء والأبرار”.

الإمام حسن البنا في عيون الغرب:

بالرغم من كون الغرب لديه تخوف من الحركات الإسلامية بسبب عدم فهم طبيعة الإسلام جيدا، أو بسبب الحقائق المشوه التي تصل إليه، أو بسبب تطرف بعض الحركات الإسلامية وغلوها في الدين مما أساء إلى الإسلام أكثر من نفعه، إلا أننا نستطيع أن نقسم الغرب إلى ثلاث فئات في فهمهم للإسلام، فالفئة الأولى وهم الساسة وهم بطبيعتهم لا يحبون الحركات الإسلامية سواء المعتدلة أو المتطرفة بسبب سياسة ونظرة هؤلاء الساسة الاستعمارية، والتعامل يكون وفق المصلحة الخاصة لا وفق المصالح العامة، ولذا هم في صدام دائم مع الحركات الإسلامية لاختلقها مع ما يرنوا إليه الاستعمار.

والفئة الثانية وهم فئة الكتاب والعلماء والمثقفين فهؤلاء يتعاملون مع الحركات الإسلامية حسب اقتناعهم بها فإن كانت ليس لها ضرر على المجتمعات تعاملوا معها وفتحوا معها قنوات اتصال خاصة الحركات المعتدلة والوسطية.

والفئة الثالثة هم الشعوب وهم لا يهمهم إلا مصدر الرزق ومتطلبات الحياة، ويتأثرون بالطبقة المثقفة ويتجهون وفق أرائهم في كثير من الأحيان.

ولقد نظر كثير من مثقفي الغرب إلى حسن البنا إلى كونه رجل أحدث تغييرا جذريا في المجتمع المصري والمجتمع الإسلامي والعالمي فنالت شخصيته استحسان كثير منهم، ونقد بعضهم فكتبوا عنه، ومن هؤلاء ريتشارد ميتشل وروبير جاكسون... وغيرهم.

الإمام حسن البنا والصحفي الأمريكي روبير جاكسون:

فيقول روبير جاكسون في كتابه حسن البنا الرجل القرآني:-

في فبراير سنة 1946م، كنت في زيارة للقاهرة .. وقد رأيت أن أقابل الرجل الذي يتبعه نصف مليون شخص، وكتبت في التيويورك كرونيكل بالنص: زرت هذا الأسبوع رجلا قد يصبح من أبرز الرجال في التاريخ المعاصر، وقد يختفي اسمه إذا كانت الحوادث أكبر منه ذلك هو الشيخ حسن البنا زعيم الإخوان.. وقد صدقتني الأحداث فيما ذهبت إليه، فقد ذهب الرجل مبكراً .. هكذا الشرق لا يستطيع أن يحتفظ طويلا بالكنز الذي يقع في يده. لقد لفت هذا الرجل نظري بصورته الفذة عندما كنت أزور القاهرة بعد أن التقيت بطائفة من الزعماء المصريين ورؤساء الأحزاب، خلاب المظهر، دقيق العبارة، بالرغم من أنه لا يعرف لغة أجنبية.

لقد حاول أتباعه الذين كانوا يترجمون بيني وبينه أن يصوروا لي أهداف هذه الدعوة وأفاضوا في الحديث علي صورة لم تقنعني، وظل الرجل صامتا، حتى إذا بدت له الحيرة في وجهي قال لهم قولوا له: هل قرأت عن محمد ؟ قلت: نعم. قال: هل عرفت ما دعا إليه وصنعه؟ قلت: نعم. قال هذا هو ما نريده. وكان في هذه الكلمات القليلة ما أغناني عن الكثير. لفت نظري إلي هذا الرجل سمته البسيط، ومظهر العادي وثقته التي لا حد لها بنفسه، وإيمانه العجيب بفكرته. كنت أتوقع أن يجيء اليوم الذي يسيطر فيه هذا الرجل علي الزعامة الشعبية لا في مصر وحدها، بل في الشرق كله.

كان الرجل عجيبا في معاملة خصومه، لا يصارعهم بقدر ما يحاول إقناعهم وكسبهم إلي صفه، وكان يري أن الصراع بين هيئتين لا يأتي بالنتائج المرجوة. وكان يؤمن بالخصومة الفكرية ولا يحولها إلي خصومة شخصية ولكنه مع ذلك لم يسلم من إيذاء معاصريه ومنافسيه، فقد أعلنت عليه الأحزاب حربا عنيفة.

كان حسن البنا الداعية الأول في الشرق الذي قدم للناس برنامجا مدروسا كاملا، لم يفعل ذلك أحد قبله..... كان مذهبه السياسي أن يرد مادة الأخلاق إلي صميم السياسة بعد أن نزعت منها وبعد أن قيل: إن السياسة والأخلاق لا يجتمعان. وكان يريد أن يكذب قول تاليران: (إن اللغة لا تستخدم إلا لإخفاء آرائنا الحقيقة) فقد كان ينكر أن يضلل السياسي سامعيه أو أتباعه، أو أمته، وكان يعمل علي أن يسمو بالجماهير، ورجل الشارع، فوق خداع السياسة، وتضليل رجال الأحزاب.

من أبرز أعمال هذا الرجل، أنه جعل حب الوطن جزءا من العاطفة الروحية فأعلي قدر الوطن وأعز قيمة الحرية، وجعل ما بين الغني والفقير حقا وليس إحسانا، وبين الرئيس والمرؤوس صلة وتعاونا وليس سيادة وبين الحاكم والشعب مسئولية وليس تسلطاً. وتلك من توجيهات القرآن، غير أنه أعلنها هو علي صورة جديدة لم تكن واضحة من قبل).

"إيفيزا لوين" - الباحثة الألمانية

وتقول "إيفيزا لوين" (الباحثة الألمانية):

"كانت لديه القدرة على تبسيط الأفكار المعقدة، وتقديمها إلى الجماهير بشكل مبسط، ولم يكن يدعو إلى قداسة معينة أو كهانة باسم الإسلام، وإنما كان يدعو إلى فهم الإسلام ببساطة دون وِصاية من المؤسسات الدينية.

وتضيف: إن من أبرز سمات شخصيته- رحمه الله- أنه كان قادرًا على تجاوز الاختلافات الكثيرة، التي كانت واضحة بين الاتجاهات والتنظيمات الإسلامية في ذلك الوقت".

وتضيف: "قام الشيخ "حسن البنا" بتعليم بناته على خلاف ما كان سائدًا في هذا العصر من عدم تعليم البنات؛ مما يؤكد أنه كان لديه نظرة متقدمة للنهوض بالمجتمع عن طريق الاهتمام بتعليم المرأة، وتضيف: لذلك أرى أن الشيخ "حسن البنا" كان لديه إستراتيجية إصلاحية شاملة، رغم ما يذكره البعض من اتهامات، فمنهج الشيخ "البنا" كان يشمل إصلاح الفرد، وتطهير النفس، ثم إصلاح الأسرة، وبعد ذلك المجتمع؛ مما يجعله مشروعًا إصلاحيًا بعيدًا عن النهج الثوري أو الانقلابي أو التغيير الفوقي، وكان "حسن البنا" يتحدث عن النهضة والرقيّ والتقدّم، وكان يسعى إلى تحديث المجتمع الإسلامي، والأدبيَّات التي خلَّفها "حسن البنا" تؤكد أن مشروعه الإصلاحي كان كاملاً.

وتضيف: من خلال دراستي لتاريخ الحركة ومعاصرتي لأحداث العنف التي جرت في أواخر القرن العشرون أؤكد أن اتهام الإخوان بالعنف والإرهاب لا وجود له في أدبيات الإخوان المسلمين، وخاصةً كتابات الشيخ "حسن البنا".

الدكتورة كاري ردزنيسكي - الباحثة في جامعة هارفارد الأمريكية

وتقول الدكتورة كاري ردزنيسكي -الباحثة في جامعة هارفارد الأمريكية- في بحث بعنوان "حركة الشبيبة الإسلامية والصناعة الأدبية الحالية في مصر":

"استطاع حسن البنا أن ينتشل الآلاف من شباب مصر من المقاهي ومواخير المخدرات والمسكرات, ليصنع منهم دعاة للإسلام, ويحولهم من حالة الضياع إلى قوة شبابية تخوض غمار السياسة مزاحِمةً أقوى الأحزاب العريقة في مصر، نشروا الدعوة الإسلامية في أكثر من 85 دولة من دول العالم".

الدكتور ديفيد كومونز - الأستاذ في جامعة ويكنسون الأمريكية

ويقول الدكتور ديفيد كومونز الأستاذ في جامعة ويكنسون الأمريكية في بحث بعنوان (الإخوان المسلمون في التراث الشعبي المصري ):-

" إن الإمام البنا أعطى للشباب المصري الذي كان غارقًا في الإدمان على المخدرات والخمور معنى جديدًا للحياة من خلال العلم الذي كانوا ينهلونه من خلال اجتماعات الجماعة ومن خلال قراءتهم لرسائل الإمام البنا، كما أنه استطاع أن يُعيد اندماج هذا الشباب الخامل الكسول في المجتمع المصري ليكون شعلةَ نشاط في العمل الإسلامي".

جيمس هيوارث دين:

ويقول جيمس هيوارث دين في كتابه: (التيارات الدينية والسياسية في مصر):

"كان حسن البنا يتخيَّر طلبة العلوم الدينية الذين درسوا دراسةً جادَّةً القرآنَ الكريمَ واللغةَ العربيةَ والخَطابةَ وأصولَ الفقه، والذين لم تدنس عقولَهم المفاهيمَ الغربيةَ وطريقةَ الغرب في التفكير، وكان معظم هؤلاء من صغار السنِّ الذين يمتلئون حماسة القيام بأي أعمال خارقة تتطلب التضحية والجرأة، وكان ميدان عملهم المساجد؛ حيث يواظبون على الصلاة فيها في كل الأوقات وخاصةً يوم الجمعة، فإذا فرغ الناس من الصلاة توزَّع هؤلاء الدعاة الشباب بينهم؛ ليعقدوا لهم حلقاتٍ متفرقةً يحدثونهم عن الإسلام ثم عن دعوة الإخوان المسلمين وأهدافها الدينية والسياسية، وأحيانًا يتحدثون لهم عن قضية سياسية تشغل الناس أو عن بعض الرذائل التي تنتشر بين الناس، كالمخدرات والخمور والدعارة، ويحثُّونهم على التصدي لهذه الرذائل من خلال الانضمام لجماعة الإخوان المسلمين".

ريتشارد ميتشل:

ويقول ريتشارد ميتشل في كتابه الإخوان المسلمين .... ريتشارد ميتشل:

"وافق وصول البنا إلى القاهرة فترة الغليان السياسي والفكري الشديد الذي ميز العشرينيات في مصر، فنظر إلى ذلك المشهد بعين القروي المتدين"، واستخلص ما اعتبره مشكلات جدية، وهي التنازع على حكم مصر بين حزبي الوفد والأحرار الدستوريين السياسيين، والجدل السياسي الصاخب وما نتج عنه من الفرقة التي أعقبت ثورة 1919، والدعوة إلى الإلحاد والإباحية التي كانت تحيط بالعالم الإسلامي، ومهاجمة الأعراف المستقرة والمعتقدات، التي ساندتها "الثورة الكمالية" بنبذها الخلافة والخط العربي، وهي مهاجمة تم انتظامها في حركة "التحرر الفكري والاجتماعي" لمصر ـ ثم التيارات غير الإسلامية بالجامعة المصرية التي أعيد تنظيمها آنذاك، والتي بدا أنها تستمد إلهامها من الفكرة القائلة إن "الجامعة لا يمكن أن تكون جامعة علمانية ما لم تثر ضد الدين، وما لم تحارب الأعراف الاجتماعية المستمدة منه"، يضاف إلى ذلك الدهريون والتحرريون من رواد الندوات الأدبية والاجتماعية، ثم الجمعيات والحفلات والكتب والصحف والمجلات التي روجت الأفكار التي كان هدفها الوحيد إضعاف أثر الدين.

وكان رد فعل هذه الصورة على البنا ونظرائه في التفكير ما عبر عنه بقوله: ليس يعلم أحد إلا الله كم من الليالي كنا نقضيها نستعرض حال الأمة، وما وصلت إليه في مختلف مظاهر حياتها، ونحلل العلل والأدواء، ونفكر في العلاج وحسم الداء. ويفيض بنا التأثر لما وصلنا إليه إلى حد البكاء.

ويضيف: "وهكذا انبعثت خطوته التالية من مخاوفه تلك ومن اقتناعه المتزايد بأن "المسجد وحده لا يكفي" لنشر العقيدة بين الناس، وبالتالي قام بتنظيم مجموعة من طلبة الأزهر ودار العلوم الراغبين في التدرب على مهمة "الوعظ والإرشاد"، وبعد مدة وجيزة دخل هؤلاء المساجد واعظين، وأهم من ذلك أن طريقتهم في الوعظ قد لاقت نجاحاً كبيراً فيما بعد، إذ اتبعوا سبيل الاتصال المباشر بالناس، في أماكن اجتماعاتهم العامة، كالمقاهي والمجتمعات الشعبية الأخرى، قاصدين بذلك تعزيز الفكرة الإسلامية ونشرها من جديد".

وعن أثر البنا نحو قضية فلسطين: "نادى البنا في المؤتمر العام الثالث المنعقد عام 1935م بجمع الأموال لمساندة قضية العرب، كما ألف لجنةً لتدعو لها عن طريق البرقيات والرسائل إلى السلطات المختصة، وعن طريق الصحافة والنشرات والخطب، وآزر هذه الوسائل قيام مظاهرات نيابية عن المضربين في فلسطين وإرسال المؤن والعتاد لهم.

ويضيف: "وكان أعظم ما شهر عن كفاح الإخوان هو ما قدموه من عون للمصريين الذين حوصروا في جيب الفالوجا؛ نتيجة الزحف الإسرائيلي بعد فشل الهدنة الثانية في أكتوبر 1948م؛ إذ ساعد الإخوان على إمداد القوات المحاصرة في الميدان.

الكولونيل تريفوزن روبوي:

ويقول الكولونيل تريفوزن روبوي: كانت فلسطين الجنوبية قد أعدت للقتال قبل التقدم العربي الرسمي بوقت طويل، ففي أوائل عام 1948م، أرسل الشيخ حسن البنا - زعيم الإخوان المسلمين - قوتين صغيرتين من المتطوعين التابعين له من مصر، واتخذوا من منطقة غزة- خان يونس- قاعدةً لهم؛ حيث سارعوا إلى الإغارة على مستوطنات النقب اليهودية ناحية الشرق".

وتحت عنوان اعرف عدوك نشرت مجلة حائط يصدرها الطلاب اليهود في الجامعة العبرية تعليقًا تحت صورة الإمام حسن البنا: "إن صاحب الصورة كان أشد أعداء إسرائيل لدرجة أنه أرسل أتباعه عام 1948م من مصر ومن بعض البلاد العربية لمحاربتنا وكان دخولهم مزعجًا لإسرائيل لدرجة مخيفة.

ويقول اليهودي موشيه شارون في ندوة نظمها معهد شيلواح في جامعة تل أبيب في كانون الثاني عام 1979: "إن الجهود التي بُذلت منذ أكثر من نصف قرن بواسطة علماء الدين المسلمين، من أمثال مفتي فلسطين الأسبق الشيخ محمد أمين الحسيني، والشيخ حسن البنا في مصر، وغيرهما من علماء المسلمين، والتي مازالت حتى الآن كان لها تأثير كبير في كسب العالم الإسلامي إلى جانب العرب الفلسطينيين باسم الإسلام، وباسم حماية الأماكن المقدسة الإسلامية".

شخصية الإمام حسن البنا في الشعر الإسلامي المعاصر

يا مرشداً:

عشرات الشعراء هم الذين مدحوا الإمام حسن البنا، وأثنوا على دعوته وحين استشهد ذرفوا الدموع ودبجوا القصائد في رثائه فهو شخصية أسرة ومحببة لدى أغلب الشباب المسلم الملتزم .

يقول القرضاوي في قصيدة له بعنوان ""يا مرشدا" (1) قبل استشهاده بقليل، موضحا اثر دعوة الاخوان المسلمين في الارض:

يا مرشداً قاد بالاسلام إخوانا*** وهز بالدعوة الغراء أوطانا

يا مرشدا قد سرت بالشرق صيحته*** فقام بعد منام طال يقظانا

فكان للعرب والاسلام فجر هدى*** وكان للغرب زلزالا وبركانا

ثم يتحدث عن أثر دعوة البنا في الأمة:

ربيت جيلا من الفولاذ معدنه *** يزيده العسف إسلاما وإيمانا

اردت تجديد صرح الدين اذ عبثت *** به السنون فهدت منه جدرانا

ترسي الاساس على التوحيد في ثقة*** وترفع الصرح بالاخلاق مزدانا

ثم يبين موقف المعادين للاسلام من البنا ودعوته:

وثلة الهدم في السفلى مواقعهم*** صبوا عليك الأذى بغيا وعدوانا

ترميك بالافك أقلام وألسنة*** خانت أمانتها، يا بئس من خانا

وتنشر الزور أحزاب مضللة *** تغلي صدورهم حقدا وكفرانا

فماذا كان موقف البنا ممن نصب له العداء وسام أتباعه مر العذاب:

آذوك ظلما فلم تجز الأذى بأذى*** وكان منك جزاء السوء إحسانا

وكنت كالنخل يُرمى بالحجارة من *** قوم فيرميهم بالتمر ألوانا

قد أوسعوك أكاذيبا ملفقة*** وأنت أوسعتهم صفحا وغفرانا

ويعلق الشاعر على هذه المواقف النبيلة التي وقفها البنا من خصومه فيقول:

ومن تكن برسول الله أسوته     كانت خلائقه روحا وريحانا

والقرضاوي الذي عاصر الامام في دعوته، وعاش اللحظات الأليمة في يوم استشهاده، وأودع السجن لأنه من رجاله، ظل يحمل في أحنائه هذا المخزون الهائل المتراكم من الظلم الذي حاق بالإمام ودعوته ورجاله، فكثف كل ذلك في أبيات جعلها إهداء للإمام البنا بمناسبة ظهور ديوانه الثاني ""المسلمون قادمون "" (2)

والقرضاوي في إهدائه يشير الى موقع البنا الاصلاحي وارتباطه الوثيق بالدعوة الأولى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم:

لك يا إمامي يا أعز معلم*** يا حامل المصباح في الزمن العمي

يا مرشد الدنيا لنهج محمد ***   يا نفحة من جيل دار الأرقم

أهديك نفسي في قصائد صغتها*** تهذي وترجم، فهي أخت الأنجم

ليس مجال هذا المقال تحليل القصائد، وإلا فان قول القرضاوي ""أهديك نفسي "" يحتاج الى وقفة نحلل فيها شخصية هذا الشاعر الملتحمة بشخصية البنا التحاما كاملا، فكأنهما نفس واحدة.

ثم يعرج الشاعر على استشهاد البنا، ويوكد ان استشهاده لا يعني انه غاب عن ميدان الدعوة، فهو قد ترك وراءه رجالاً يحملون الدعوة التي حملها، ويسعون لبلوغ الهدف الذي سعى اليه:

حسبوك غبت، وانت فينا شاهد *** نجلو بنهجك كل درب معتم

شيدت للاسلام صرحا لم تكن *** لبناته غير الشباب المسلم

وكتبت للدنيا وثيقة صحوة *** وأبيت إلا أن توقع بالدم

إذن فإن الصحوة الاسلامية الحاضرة نتيجة لدعوة الامام وثمرة من ثمراتها، هذه الدعوة التي بذل البنا روحه في سبيلها، والدعوة التي تراق في سبيلها الدماء لا بد أن تنمو وأن تزهر وأن تثمر. لقد كتب البنا للأجيال "وثيقة"" هي مرشدهم لهذه الصحوة، ""ووقع "" عليها بدمه حتى لا تمحى أو تزول أو تتلاشى.

ويختم القرضاوي إهداءه بمخاطبة البنا الذي يرقد "مطمئنا"" في جوار ""الرسول الهادي " جوارا فكريا دعويا، و كيف لا يكون مطمئنا وهو قد شيد بناءاً لم يستطع أن يهدمه العتاة الظالمون والكفرة الملحدون .

نم في جوار زعيمك الهادي فما *** شيدت يا ""بنّاء"" لم يتهدم

وهذا شاعر آخر من تلاميذ البنا، أقبل على الدعوة وتفانى في حبها، فكان جزاؤه من أعداء الحق السجن والتعذيب، فقد لبث في السجن عدد سنين، وهذا العدد أربى على العشرين.

إنه الشاعر المصري جمال فوزي، وقد أصدر ديوانين: ""الصبر والثبات " و" الصبر والجهاد".

وفي ذكرى استشهاد البنا أنشأ الشاعر قصيدة "الى روح إمامنا الشهيد حسن البنا" بين فيها أن دعوة البنا كانت خالصة لله، دعا فيها الى الحكم بالقرآن، وإلى اتباع سيرة المصطفى عليه السلام، ولان دعوة البنا جبلت بالاخلاص فقد باركها الله، فانطلقت تجتاز الحدود وتسير ببركاته الركبان:

ذكراك يا مرشد الاخوان نحييها *** تعلو لها الرأس إكبارا لماضيها

خرجت للناس بالقرآن تعلنه ***    دستور حكم، وفي شتى مناحيها

وسيرة المصطفى درسا تلقنه    *** كتائب الحق في صدق وترويها

فأثمر الغرس واجتاحت قوافله ***  شتى الحواجز فارتاعت اعاديها

وقد ذكر الشاعر ان الأيام صدقت توقعات الامام، فقد كان يقول لاتباعه بأنهم سوف يلاقون في سبيل دعوتهم العنت، وكان يدعوهم الى الصبر كما صبر الذين من قبلهم:

أعلنت يا مرشدي في صدق داعية ***ان الدعاة سيلقون الأذى فيها

سجن وبطش وتشريد بساحتها ***   قتل الكرام وفي أقسى لياليها

لكنه الصقل إعدادا لقافلة ***      بالنفس والروح والأموال تفديها

ثم يذكر الشاعر استشهاد الإمام، ويعلل هذا الاستشهاد باستشعار الأعداء بخطورة الدعوة على مراكزهم ومصالحهم:

رأى الذئاب لواء أنت رافعه*** فهالهم ما رأوا من عزم بانيها

فدبروا في ظلام الليل مذبحة *** فكنت فيها شهيدا لا يباليها

قد أطلقوها رصاصات، وفاتهم *** ان الرصاصات لن تمحو مراميها

ويطيل الشاعر حديثه عن دعوة البنا وآثارها، وما آلت اليه من انتشار واتساع، وما أفضت اليه من صحوة اسلامية عريضة، ثم يختم قصيدته بمناجاة البنا، وإبلاغه بأن دعوته قد أثمرت واتت أكلها:

يا مرشدي نم رعاك الله مرتقبا *** في كل اجوائها زحفا يلبيها

لا السجن يرهبها لا الحل يحجبها **** ولا المشانق والتقتيل يفنيها

الله أكبر دوت رغم أنفهم *** فالموت في ساحها أسمى أمانيها

هذان شاعران مصريان كانا من تلاميذ البنا، ثبتا على دعوته، فهما يذكرانه في كل عام تمر فيه مناسبة استشهاده، ويقولان في هذه الذكرى شعرا، إنه شعر العاطفة الصادقة والحب العميق والوفاء المستمر.

sfdfdsd10692.png

شخصية الإمام الشهيد حسن البنا في شعر د. نجيب الكيلاني

كتب د. نجيب الكيلاني عدة قصائد في رثاء الإمام الشهيد حسن البنا الذي اغتيل في إحدى شوارع القاهرة في 12 شباط 1949م رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.

  • القصيدة الأولى:

يصور فيها الإمام الشهيد حسن البنا عاشقاً للحق، ومهتدياً بنور النبوة، وهادفاً لهدم الشرك والأصنام البشرية والحجرية، في قصيدته ذكرى الإمام:

يا عاشق الحق والمختار والسنن يا هادماً لحصون الشرك والوثن

أشرق بنورك في آكام ظلمتنا     وأمدد يديك لجيل شاب في الإحن

الحب جانينا، والنصر خاصمنا       الله يعلم كم يلقى الأذى وطني

فهو يطلب منه أن يمد يده لإنقاذ وطنه من الهزائم والمحن المتوالية، فيقول:

روحي تعاني من الآلام والهة   واستحكمت نوب الأسقام في بدني

بلادنا أصبحت مرعى لذي سفهٍ   بعنا الهدى والتقى فيها بلا ثمن

باتت قرانا تقاسي من مظالمه   وما تهادى ضياء الحق في المدن

قد أفسد الخوف ما بالقلب من قيم   فاسود هاجسنا في السرّ والعلن

لقد ظهر الفساد في البر والبحر وفي المدن والأرياف، وغزا الخوف قلوب الناس، لذا صور الشاعر جريمة اغتيال الشهيد القبيحة، فقد حرمت الأمة من إصلاحاته:

ناديت يا حسن البنا فما رجعت     ربوعنا غير أصداء من الحزن

غالوك في ليلة ظلماء كالحة         وغيبوا قلبك المعطاء في كفن

ظنوا دماءك تطفي من سخيمتهم   وتخمد الثورة الكبرى مع الزمن

وتستبيح لعرس ما ينوء به           من الرذائل والإسفاف والفتن

غالوك كي يحفظوا للملك هيبته ويصلحوا ما أصاب القصر من وهن

وحققوا لبني صهيون غايتهم       إذ دبروا كيدهم في محفل نتن ِ

كنائس جلجلت أجراسها طرباً       ورتلوا صلوات المذبح الأسن

يا قلب مالك لا تنشق منفطراً   من الخطوب ولا تنقض من شجن

ديست مفاخرنا، ضاعت مبادؤنا       فإن تهن قيمٌ في دارنا تهن

لقد كان الإمام وجماعته رهباناً في الليل وفرساناً في النهار:

يا راهب الليل قد ناءت كواهلنا         بكل مغتصب للحكم ممتهن

وأين فرسان حق كنت قائدهم       قد بايعوك بصدق دونما دخن

إما إلى الصدر أو للقبر زحفهمو     لا ذوا إلى موئل للحق مؤتمن

وأين حشد كبير أنت مرشده     تحدوه في عاصفٍ النكباء والمحن

جبت المدائن تدعو للهدى أمماً غابت عن الوعي وانساقت مع الوسن

لقد زار الإمام أكثر من أربعة آلاف قرية داعياً إلى الله، وإلى التكتل والوحدة ونبذ الخلاف، وبتابع الشاعر سرد صفات الإمام، فيقول:

يا حاملاً راية التوحيد في زمن   بالشرك والفتنة العمياء ممتحن

أشرقت كالكوكب الدري في أفق   ماجت حوالكه بالجور والعفن

صنعت من غمرات اليأس ملحمة   كبرى ترقرق بالآمال والفطن

فأصبحت عرصات البيد مورقة   وكدت أسمع همس الحور في عدن

الحب زادك والرحماء أغنية   والطهر ركبك يا أسطورة الزمن

إذا ذكرت فيوض الله في وطني   فأنت أعظم ما أضفى من المنن

ويطلب من الشهيد أن ينام هانئاً في قبره، فجنوده مازالوا في الميدان يضحون من أجل رفع راية التوحيد:

نم يا شهيد مع الأبرار في سكن           أنعم به أيها البناء من سكن

ما زال جندك في زحف الهدى زمراً يدعون للمجد والقرآن والسنن

ما تزال فلسطين مضيعة           ترنو إليك بعين الشوق والشجن

ديوان مهاجر: ص 76، 77 ، 78 .

الإمام الشهيد حسن البنا:

وفي القصيدة الثانية صور الشاعر البيئة التي جاء الإمام فيها حيث ساد الظلم والظلام:

حين جاء الوجود ذات مساء       غمرته مواكب من ضياء

وتهادت ملائك الحب نشوى           بنشيد مضمخ بالبهاء

قيل: هذا بشير خير ومجد         في سماء الوليد نجم علاء

لقد كان الإمام حسناً في كل شيء نقي السريرة، طاهر السيرة، يفيض سروراً وهناء:

حسن أنت في كل شيء         عامر القلب بالتقى والصفاء

ومن الحسن ما يشيع هناء             فتفيض الحياة بالأنداء

ومن الحسن سكرة وغرورٌ         وجموع مسربل بالبلاء

لقد جاء في أمة سرت فيها شريعة الغاب، وحشرت فيها ذئاب البشر، فكثرت فيها الهموم والأحزان:

جئت في أمة سباها ضباع           غشيتها جحافل الظلماء

حاصرتها الهموم من كل فجّ         فاستنامت لهجة البلواء

باغتتها الذئاب شرقاً وغرباً ثم عاثت في أرضها الخضراء

والقباب الشماء باتت تعاني           من تهاويل ذلة وشقاء

المحاريب يعتريها وكر فجورٍ     والدواوين سربلت برياء

لقد روج الطواغيت والحكام للفساد والضلال والشذوذ، فراجت أسواق الرذيلة:

والطواغيت يعبدون ضلالاً       والقرابين رويت بالدماء

لم يعد في تراثنا غير شعرٍ       لمديح أو حفنة من هجاء

كلّ حرّ نالوه بالعسف حتى     ناء بالقيد والأسى والشقاء

روجوا ثم للرذائل جهراً         لم يبالوا بشرعة سمحاء

لقد ساد القهر والذل في أبناء الأمة، فعجزت عن النهضة والتقدم، وسيطر عليها المستعمر بسهولة:

وبلاد تسام ذلاً وقهراً         كيف ترقى لذروة العلياء ؟

وإذا خلّف العرين أسودٌ             لوثته ثعالب الشحناء

فلك الله يا بلاداً تهاوت       في جحيم من الأسى والعناء

دعوة الحق:

لقد جاهد الإمام بكل ما يملك من أجل دعوة الحق، فعمت الدعوة البوادي والمدن والقرى، ورفع شعار الله غايتنا، والرسول قدوتنا، والقرآن دستورنا، والجهاد سبيلنا:

أشرق الصبح مونقاً بالأماني حين نادى البناء في الأوطانِ

إنما الحر من يجيد ضراباً             لا ذليل يخرّ للأوثان ِ

ارفعوا راية الجهاد أباة               واستظلوا براية القرآن

استلهام التاريخ الإسلام:

وطلب الإمام من شباب الأمة أن يستلهموا سيرة الأبطال الصناديد من سلف هذه الأمة: عمر، وخالد، وسعد، والمعتصم، وصلاح الدين:

واقرأوا سيرة الجدود إذا ما     واجهتنا الكروب يوم طعان

واملأوا الراح بالهدى والتأسي   إنما النصر والهدى توأمانِ

تهابوا المنون إن حياة   ترتضي       الذل، منزل من هوان

وأعاد للمسجد حيويته بعد أن كان رواده من الشيوخ والعجزة، فبدأ يعج بالشباب:

واجعلوا المسجد الطهور ملاذاً       لبناء الأرواح والأبدان

أضرموا في النفوس جذوة عشقٍ   هي درع الهداة كل زمان

بادروا إلى الجهاد أسوداً       إن في السيف رائعات المعاني

لقد بغى الأعداء على أمتنا، ونهبوا الخيرات، وانتهكوا الأعراض والمقدسات:

قد بغى الخصم واستطال علينا كيف نحيا بدون عرض مصان

ساسه الغرب دأبهم إجحاف           واستلاب بالكيد والعدوانِ

شيعوا العدل للقبور وعادوا         يذرفون الدموع من أحزان

زيفوا كل قيمة، وأباحوا               نحو ما نرتجيه من إيمان

وشعور الإباء في كل صقع           قد شروه بالأصفر الرنان

وأكد الشاعر عدم جواز التحالف مع هؤلاء المجرمين، فقال:

ليت شعري أبعد ذلك رزءٌ ؟               أترانا نخرّ للأذقان ؟

أنقر الذئاب والشاة حلفاً ؟           كيف ننسى طبيعة الذؤبان

رضعوا الغدر في زمان قديم ٍ   وهو في القلب نار والشريان

لا تقولوا حضارة بعثوها               تلك والله نزعة الشيطان

ضاق قلبي بكل رفض ٍ وشجبٍ     ودموع تفيض كالطوفان

لايرد الطغام غير جهاد ٍ             ويهز الأرواح غير أذان ِ

مهاجر: ص 76، 77، 78.

ولن تعز هذه الأمة ولن يعود لها مجدها بغير الجهاد والتضحية والفداء.

مات الإمام:

وفي قصيدة ثالثة للشاعر د. نجيب الكيلاني نظمها من شعر التفعيلة، يقول فيها:

مات غيلة

أغرقوا أحلامه البيضاء في نهر الأفاعي

رشقوه بادعاءات وبيلة

دفنوه في سراديب التخوم

لا مريد

ينثر الدمع على قبر الشهيد

مات والبسمة فوق الشفتين

تتحدى دمدمات العاصفة

لم تكن ترهب أطنان القنابل

لم تدنس طهرها فرية

مات والبسمة فوق الشفتين

ضوؤها قد طار عبر الخافقين

مات ربان الحقيقة

وفضح الشاعر جريمة الملك فاروق الذي أمر بقتل الإمام في ليلة عيد ميلاده، فقام الزبانية بهذا العمل الغادر، فقتلوا حياة العفة والفضيلة والقيم :

بيد القرصان والقرصان غادر

مات والأرض حواليه خشوع

ودموع

شنقوا العفة في بحر كثيف الظلمات طافح بالمنكرات

التحيات لربان الحقيقة

للذي خط على الشوك طريقه

التحيات لنور الله في قلب الإمام

لحماة الدين في وجه التتار

للشهيد

للرماح السمر في قلب الخيانة

لدماء الأبرياء

لتراث الأنبياء

التحيات لمن قد مات غيلة

للإمام -عصر الشهداء: ص 100، 101 .

ويرسل الشاعر التحية المعطرة بأريج المسك لروح الإمام حسن البنا الذي جدد معالم هذا الدين العظيم، وأحيا شباب الأمة، وتجاوز أتباعه الملايين في مصر، وعشرات الملايين في الوطن العربي والعالم الإسلامي وما زال دعوته تتجدد، وما زال تلاميذه ينشر نور العلم والعدل والسلام.

ولقد جسد د. نجيب الكيلاني في رواياته دعوة الإمام البنا حيث كتب رواية (في أرض الأنبياء): تحدث فيها عن جهاد الإخوان في فلسطين عام 1948م، وكذلك أبدع في تصوير جهاد الدعوة في روايته (رحلة إلى الله) صور فيها تضحيات الإخوان في السجون.

رحم الله د. نجيب الكيلاني، ورحم الله الإمام الشهيد حسن البنا الذي جدد دعوة الإسلام في القرن الرابع عشر الهجري، وتابع تلاميذه مشواره العلمي والتجديدي من أمثال الشيوخ محمد العزالي، والإمام عمر التلمساني، ود. مصطفى السباعي، والشيخ المجاهد محمد محمود الصواف، ومحمد عبد الرحمن خليفة، ومحفوظ نحناح، والشهيد أحمد ياسين، وعبد الله عزام، والشهيد سيد قطب ...وغيرهم من الدعاة وجنود الدعوة، ونرجو الله أن يتوج جهودهم بالنصر والتمكين.

--------------

دعونا نغادر مصر الى بلد آخر وصلت اليه دعوة البنا، فلبى نداءها نفر من ابنائه هم الصفوة من الرجال والمخلصون من الشباب.

لقد دخلت دعوة البنا الى سوريا فرعاها رجال أفذاذ من أمثال الدكتور مصطفى السباعي والاستاذ عصام العطار والاستاذ الشاعر عمر بهاء الدين الأميري.

وكان الأميري شاعر الدعوة، ولسانها الناطق شعراً وفكراً، فقد أفرغ موهبته الشعرية في الدفاع عن الإسلام، وفي الدعوة الى مبادئه، فأصدر أكثر من خمسة عشر ديوانا اهمها وأولها ديوانه الأشهر ""مع الله "" ثم ديوانه ""نجاوى محمدية"" ثم ثالث الدواوين ""قلب ورب " " ثم " "ألوان طيف،،...

كيف استقبل الأميري نبأ استشهاد البنا؟

استقبله غاضباً ثائراً، وقد أعلن في قصيدته التي رثى بها الامام ان اغتياله كان مؤامرة بدأت باعتقال أتباعه الذين هم بمقام البنوة منه، وهو بمقام الأبوة فيهم. لقد غيبوا انصار البنا فى السجون، فبقي وحيدا بين مجموعة من أفاعي البشر، أحاطوا به ونازلوه فردا وهم جموع (4):

كبلوا من حوله أبناءه *** ورموه بين أشداق الأفاعي

جردوه خلسة في خسة *** وتنادوا، وهو فرد، للنزاع

ومن هم أولئك الذين احاطوا به ونازلوه؟ إنهم ذئاب بغاة.. أنذال، قد شرعوا اسلحتهم فى وجهه، وصوبوها الى قلبه:

وذئاب البغي حامت، ومضى*** كل نذل حوله سيف القراع

واستشهد الإمام برصاص البغاة.. الذئاب.. الأنذال، ولكن، ماذا كان موقف الجماهير التي بذل البنا في سبيلها جهده وأراق عرقه، ثم أسال دمه:

والجماهير التي من ذاته*** بذل الرفد لها دون انقطاع

حوقلت في خور وانطلقت *** لا تبالي بجهاد وصراع

هكذا وقفت الجماهير لا حول لها ولا طول، لا تملك سوى الحوقلة وضرب الكف بالكف.

أما أولئك الذين كانوا يتملقونه من السادة القادة، ويسمعونه ما يرضيه، فقد خذلوه في ساعة العسرة، وتخلوا عنه في اوقات المحنة، وكشفوا عن أقنعتهم التي كانوا يخفون تحتها اصباغ الخداع وزيوف التملق:

والألى كانوا يقولون له *** ملقا: قد جئت بالأمر المطاع

خذلوه وبدت اوجههم *** في الملا سوداء من غير قناع

وأما إعلام المساجد، وأعلام الخطباء، فقد انبروا يذمون هذا الامام المجاهد الذي لم يدع الا الى الهدى والتقى:

وشرى الباغون منهم ألسُنا *** بذلوها ما دعا للمال داع

في بيوت الله سبوا فندا  *** خير داع للهدى فيها وراع

نعم كان الأميري غاضباً.. ولكنه غضب في محله.

***

والاستاذ محمد المجذوب شاعر سوري آخر، سار على درب البنا، واعجب بدعوته، وحل الاحترام للإمام ودعوته في سويداء قلبه.

هذا الشاعر الكبير فاجأه نبأ استشهاد الامام البنا، فكان وقع المفاجأة عليه أليما، فتساءل في ألم ممض: الى ماذا يؤول مصير هذه الدنيا اذا اقفرت من الصالحين، واذا تسلم أمورها شرارها؟

لقد عبر الشاعـر عن هول النبأ وفداحة الفاجعة حال تلقيه أخباره، فقال (5):

لله من نبأ غال الاثير به *** وعيي، وكفن بالظلماء أضوائي

ينعى الى عصبة الايمان قائدها*** في ذمة الله ذاك القائد النائي

يا معلن الحدث المشؤوم، شاه به*** وجه الصباح، لقد أدميت أحشائي

إن الحياة اذا ما الصالحون مضوا كالقفر عري من ظل ومن ماء

شلت يد القاتل الباغي فقد هدمت   للدين أكرم بنيان و ""بناء""

ويذكر الشاعر بأن أنصار الشر ما فتئوا في كل زمان يتربصون بالدعاة الهداة والمصلحين الاخيار، فلا عجب أن امتدت أيديهم، الى الامام الباني والمرشد الحاني، وقد عرف المصلحون الدعاة ما يكتنف طريقهم من أشواك، وما يحفها من مخاطر، ولكنهم لم يأبهوا لكل هذا لأنهم باعوا أنفسهم لله، واستهانوا بكل الأخطار، ومن قبلهم أوذي النبيون، وعلى دربهم يسير المصلحون، وبحظهم يرضون:

لئن رمت ""حسناً"" كف الغواة لقد*** يعدو المريض على خير الأطباء

والمصلحون، ولما يبرحوا، غرضٌ *** لكل نازلة في الدهر نكراء

باعوا نفوسهم للحق، ثم رضوا *** حظ النبيين من بؤس وإيذاء

والناس حرب على الأحرار مذ خلقوا*** يا شقوة الحر في دنيا الأرقاء!

وأما فلسطين التي كانت قد وجدت في دعوة البنا وفى شخصه وفى أتباعه الملاذ والناصر والمعين، بل وأول من لبى نداء الجهاد، فانطلقوا الى ميادين القتال، وشاركوا اخوانهم الدم، وسطروا على ثرى فلسطين آيات الشجاعة والبطولة والفداء، فقد عرف شعراؤها للبنا فضله، وعرفوا لشهدائهم مقامهم وجهادهم، لهذا كان نداء الشاعر احمد فرح عقيلان لاولئك الذين ارادوا نقل رفات الشهداء من فلسطين حيث استشهدوا الى مصر حيث وطنهم وأهلهم، ان يتركوهم مكانهم، فهم في رياض الأقصى، وفي ثرى الأرض المقدسة (6):

يقول لنا الشهيد دعوا حطامي     فما في الدين مصري وشامي

دعوني، وا طلبوا ثأري، فإني*** لقتل من استباحوا الحق ظامي

أليست روضة الشهداء حولى *** ونور المسجد الأقصى إمامي

فلسطين الجريح مطاف روحي *** ووحي الانبياء بها أمامي

بذلت بها دمي، ودمي رخيص *** إذا حققت في وطني مرامي

تفوح جبالها بعبير جسمي  ***      ويشرق سهلها بسنا عظامي

دعوني إن لي فيها صحابا ***    شهدت حمامهم وأُروا حمامي

وعندما صكت أنباء استشهاد الامام البنا اسماع هذا الشاعر الفلسطيني هب يرثيه، ويبكيه، ولكنه رثاء العارف، وبكاء المدرك لما يدبر للإسلام ودعاته من مكائد في الغرب الصليبي، من انصياع لأوامر هذا الصليبي لدى حفنة من السفهاء الروابض... التافهين (7):

كلما قام مصلح يفضح الظلم**** أطاحت به حراب العبيد

هب بالأمس شيخنا حسن البناء *** يعلي قواعد التوحيد

ويؤا خي القلوب منا، ويهدي **** من هدى المصطفى لجيل جديد

وإذا الغرب ثائر، وإذا*** الأذناب يرضونه برأس الشهيد

وهذه القصيدة الفذة في صياغتها، المتفرده في معانيها، والبعيدة في مراميها جديرة بأن تكون من معلقات الشعر الحديث.. يصف فيها الشاعر حال أمته فيقول :

دفنونا في مصرع الفقر أحيا *** ء، وشادوا الحانات فوق اللحود

نحن للزرع والتجارة والصنع ***      وساداتنا لغصب النقود

كم زعيم في الشكل من صنع هوليود *** وفي العقل من عصور الجليد

طلب المجد بالموائد والميسر ***  والرقص وابنة العنقود

لا تسلهم عن الكرامة والدين *** وسلهم عن الهوى والغيد

جنحوا للخطاب فى الغرف البيض *** فصرنا إلى الخطوب السود

فشلت خطة الكلام، فهيا *** نسمع الرأي من فم الصنديد

لا ترد الحقوق في مجلس الأمن*** ولكن في مكتب التجنيد

الشكاوى الى المجالس لغو وأزيز الرصاص بيت القصيد.

ولما قال الشاعر بأن الجهاد ""أزيز الرصاص "" هو بيت القصيد بمعنى ذروة سنام الاسلام كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ناسب أن يكون ختام قصيدته هو "بيت القصيد" في القصيدة كلها، فقد قال:

إن ألفي قذيفة من كلام *** لا تساوي قذيفة من حديد

رحم الله البنا مفجر هذه القصيدة، ورحم الله الشاعر أحمد فرح عقيلان منشئها ومبدعها.

ورد الله الى أمة العرب حبها للشعر، وعشقها للقصيد، كما كانت أيام عزها ومجدها وسؤددها وسيادتها..

* * *

والعراق قطر عربي آخر وصلت اليه دعوة البنا، ولاقت فيه تربة خصبة ورجالاً مخلصين، قاموا بالدعوة واحتضنوا أفكارها، وساروا بها شوطا صالحا في حياة البنا ومن بعده من المرشدين.

وكان من رجال الدعوة في العراق علماء وشعراء، برز من بينهم شاعر كبير حمل هم الدعوة الى الله، ورفع راية العودة الى الشريعة وإحياء الخلافة، وسخر شاعريته لدعوته، وأصدر أكثر من ديوان يضم قصائده التي أبدعها في سبيل الدعوة، منها: الشعاع، الزوابع، أغاني المعركة. إنه الشاعر العراقي الكبير وليد الأعظمي.

وفى ذكرى استشهاد البنا أنشأ الشاعر قصيدته: "لينام أصحاب الكروش!، يفتتحها بالدعوة الى إحياء ذكرى هذا الشهيد العظيم:

اشخص إلى البناء أكرم باني *** "حسن " السريرة مرشد الاخوان

قم حي ذكراه العزيزة إنها    ***          للقلب مثل الري للظمآن

واهتف بدعوتك الكريمة عاليا *** رغم الاعادي، رغم كل جبان

واحمل مصابيح الهداية واتخذ *** من نورها نورا لكل أوان

واصبر اذا نزلت حماك نوائب *** أو ما علمت تقلب الأزمان؟

ثم يتوجه بشعره إلي الامام مؤكدا استمرار دعوته رغم استشهاده، معدداً الصفات التي جعلت من هذا الرجل إماماً في مصر وفي سائر البلاد الإسلامية:

يا مرشدي ذكراك مرت بيننا *** والقلب من ذكراك في خفقان

قد كنت يا حسن السريرة شعلة ***      وقّادة بالنور والإيمان

كالدرة البيضاء يسطع نورها ***       فيبدد الظلماء باللمعان

أحييت مصر، ومصر قبلك ميتة ** لا يرتجى منها نهوض ثاني

فبعثت روح العز في أبنائها  ***      وأعدت حب الدين للشبان

ناديت ""حي على الجهاد"" بكل ما*** اوتيت من حق ومن إيقان

فتجاوبت أصداء صوتك في ربى** نجد، ورن الصوت في بغدان

وعلى ربوع الشام رايات الهدى ***   خفاقة تبدو بكل مكان

وتصافحت تلك القلوب، ولم يعد *** فضل لمصري على إيراني

وقد أفاض الشاعر في بيان شاعري معدداً ميزات الرجل وأسس دعوته وجهاده في كل مجال.

ويجيب الشاعر في قصيدته الرائعة عن التساؤلات التي انبعثت عن السبب في قتل الامام، هل هي خلافات فردية وحسد ذاتي؟ أم أن السبب غير هذا وذاك؟

لقد تلمس الشاعر الأسباب فعرفها، ثم سجلها.

فلقد كان الامام داعية لتحرر الامة من قيود الاستعمار وتجبر الطغاة، لقد كان يدعو بملء فيه أن حي على الجهاد، فكانت خطبه على المنابر ومقالاته في الصحف وقيادته للمظاهرات مؤشرات لحركة مباركة تنهض بالامة وتعيد لها دينها ومجدها، فعمت دعوته مصر وتجاوزتها الى أقطار العالم الاسلامي كافة، ففزع اعداء الامة وخافوا على مخططاتهم التي سهروا على رسمها السنين الطوال ان تحبط وتفشل، فكانت ضربتهم رصاصات حقد أفرغوها في جسد إمام الدعوة ورأسها:

تدعو لطرد الانجليز لأنهم *** أصل الفساد ومصدر البهتان

وسعيت لم تهدأ بكل قضية *** مثل الهزبر تصول في الميدان

ومظاهرات صاخبات خضتها *** للحق، لا لمناصب وأماني

وفضحت اوروبا وما تدعو له *** من باطل، بالحق والبرهان

وصرخت في وجه الطغاة ولم تخف **أحفاد فرعون ولا هامان

هددت فاروقا بكل صراحة ***    وسواك لم ينبس ببنت لسان

وأخيرا هل ماتت الدعوة باستشهاد الامام حسن البنا ام كانت دماؤه السائلة على ثرى مصر تروى نبتتها وتزيدها قوة وتبعث في جذورها رسوخا وتدفع فروعها باسقة حتى تبلغ عنان السماء ""أصلها ثابت وفرعها في السماء.

يقول وليد الأعظمي.. لقد ذهب الذين قتلوا البنا تلاحقهم اللعنات، أما الإمام.. وأما دعوته فإنها بقيت، وأما ذكره فإنه لا يزال عطرا، بل إن عطره ينتشر ويزداد انتشاراً:

ظنوا بقتلك تنطفي أنوارنا *** ويعود عهد الظلم والخسران

هيهات نور الله لا يطفيه كيـد*** عصابة حمقى من الصبيان

سيعود عصر النور رغم أنوفهم *** ويخيب كل منافق خوّان

الهوامش:

(1) من مقدمة لكتاب: الإخوان المسلمون في ميزان الحق ،للأستاذ محمد فريد عبد الخالق ، دار الصحوة. القاهرة ط أولى. 1408هـ 1987م.

(2) الحق المر: ص 183 .

(3) من مقدمة كتاب دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين.

(4) من مقدمة لكتاب: الإخوان المسلمون في ميزان الحق.

(5) الحق المر: ص 183 . طبع مركز الإعلام العربي ط ثانية. 1417ه 1996م.

(6) مجلة لواء الإسلام: 1-45 . رمضان 1410ه مارس: 1990م.

(7) من مقال بمجلة الدعوة بعنوان: العالم المربي العدد (207) 22 جماد آخر 1374ه 15 فبراير 1955م.

(8) الحق المر: 183-184 .

(9) مقال مجلة الدعوة السابق: "العالم المربي".

(10) من مقدمة كتابه دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين.

(11) من مقدمته لكتاب الأستاذ محمد فريد عبد الخالق.

(12) في موكب الدعوة: 212-213 . نهضة مصر. ط أولى. 1997م.

(13) من مقدمته لكتاب الأستاذ محمد فريد عبد الخالق، وانظر مقدمة دستور الوحدة.

(14) من مقدمته لكتاب الأستاذ محمد فريد عبد الخالق.

(15) مراجعة لا رجوع. مقال للشيخ الغزالي في مجلة الأمة القطرية. عدد 27 . ربيع أول. 1403ه يناير 1983م، وانظر أيضًا: غصن باسق في شجرة الخلود. مقال له أيضًا في مجلة الدعوة، عدد (3)، 7 جماد أول 1370ه 13 فبراير 1951م.

(16) في موكب الدعوة: ص 211.

(17) الحق المر: ص 184 .

(18)-       ديوان مهاجر: د. نجيب الكيلاني، مؤسسة الرسالة، بيروت.

(19)-       ديوان عصر الشهداء.

(20)-       ديوان أغاني الغرباء.

(21)-       موقع الجزيرة نت.

وسوم: العدد 698

1- مجلة الدعوة، فترة الخمسينيات.

2- جمعة أمين عبد العزيز: قالوا عن الإمام البنا، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 2004م.

3- شركة البصائر للبحوث والدراسات: الإمام البنا في عيون إخوانية، دار النشر للجامعات، 2007م.

مصادر الترجمة:

١_2023 شبكة الجزيرة الاعلامية.

٢_ مواقع إلكترونية أخرى.

الأستاذ صالح عشماوي يكتب: حسن البنا مرحلة في تاريخ الكفاح الإسلامي

الأستاذ صالح عشماوي يكتب: حسن البنا مرحلة في تاريخ الكفاح الإسلامي

د. محمد رشاد خليل يكتب: منهج حسن البنا في الإصلاح والتجديد.

د. عبد العظيم المطعني يكتب: الإمام الشهيد حسن البنا ودعوة لن تموت

1- ريتشارد ميتشيل: الإخوان المسلمون: ترجمة عبد السلام رضوان، مكتبة مدبولي، القاهرة، سنة 1977م.

2- روبير جاكسون: حسن البنا الرجل القرآني، ترجمه: أنور وجدي.

3- مجلة يصدرها الطلاب اليهود في الجامعة العبرية في عددها الصادر في شهر يونيو سنة 1970م.

4- زياد أبو غنيمة: الحركة الإسلامية وقضية فلسطين، دار الفرقان، عمان، 1985م.

5- زياد أبو غنيمة: الإخوان المسلمون في كتابات الغربيين، الطبعة الأولى، 1415هـ ، 1995م - ص 12.

وسوم: العدد 1069