يوسف الصائغ : أما زلتَ على الصليب ؟

حسين سرمك حسن

الوجدان الآثم هو الذي كان يدفع يوسف الى اطلاق التساؤلات المتكرًرة عن سبب ومصادر مخاوفه مثلما انعكست أيضا في تماهياته وتعلُقه بشخصيًات دينية تحمًلت عذابا كبيرا . ففي الوقت الذي يقول فيه : ( آه من عيون القديسين .. كم عذبتني عيون القديسين ) فإنه بالمقابل يعلن تماهيه الصارخ مع يسوع المصلوب ومع ( يوسف ) المغدور المضيًع كجزء من عملية قصاص ذاتي غلفت بأردية فداء وتضحية وتطهًر . ( كان يسوع المسيح أول ميت أراه في حياتي ، ولم يكن موته مخيفا مثل سائر الناس بل حزينا . وكان هذا الحزن يأتي من أمه الصامتة التي تشبه أحزانها أحزان أمي حين تراني ميتا بين يديها ) .

وكانت تستهويه قصة ( يوسف ) :

( لفرط ما فيها من ظلم وقسوة أعرف مقدًما أنها سوف تنتهي بانتصاره الكريم وكنت أبداً أرى نفسي فيها وكان ألذّ ما يعجبني في ذلك أن يبيعني إخوتي للنجًار وثم يأتي وقت يقفون فيه أمامي نادمين مستغفرين ) .

ومركًب التخييلات هذا المرتبط بالشعور بالذنب يسقط على الآخرين ، والفشل في لعب الدور الإنقاذي لموضوع الحب يظهر معكوسا في التعلًق بفكرة الغياب وصورة المخلًص الراسخة في أعماق الإبن . فهو يقول :

( أنا على الصليب وستار الهيكل قد انشق الى قسمين وأظلمت السماء وأنا أتطلع من بين جفني المغمضين فأرى أبي وأمي وعمي وأعمامي وبناتهم يبكون وأحس انهم جميعا نادمون لأنهم ما أحبوني كفاية ) .

هكذا يسقط الإحساس بالذنب على الآخرين جميعا دون استثناء ، وتتحول أسطورة يسوع العظيمة كفداء وتضحية نيابة عن البشر الى تصفية حساب فردي محكوم بعدوان مختزن ونبضات مكتومة لنرجسية فائضة .خلطة عجيبة تنعكس حتى على تناقضات الصور الفنية في تخييلات يوسف الصغير :

( حين أُصلب مثله أمامها ـ أمام أمه ـ ويأتي جندي روماني ويطعن لي جنبي ويخرج للوقت من الجرح دم وماء . تعجبني هذه الصورة ) . مزيج الماء والدم لا الدم فقط كما اعتاد البشر وهو ترميز فنًي خادع لاختلاط الدوافع المتضادًة ، فليست الرغبة في الصلب والفداء خالصة لوجه التضحية ولا منزًهة عن التعلق المستميت بأذيال الحياة : ( مات يسوع .. أمال رأسه وأسلم الروح . يغدو صوت الكاهن رهيبا وتطفأ الشمعة الأخيرة فيسود الظلام ثم يرتفع في صمت الكنيسة صوت صرخة تعقبها ضحكات مكتومة ) .

من جديد تدوًي أصداء الخليط العجيب المتصارع ولكن المتناغم مع دوافعه الحاكمة ، الصرخة المفجوعة مع الضحكة المكتومة تتداخلان بمكر مسموم ، صرخة الفجيعة ـ الدم ـ قصاص الوجدان الآثم ـ الرغبة في الفداء ، وضحكة الحياة المكتومة ـ الماء ـ ترفً النرجسية الفائقة والرغبة الجنسية المستترة . و ( لايلبث المذبح أن يضاء بشموع نحيلة وتبدأ الأناشيد الحزينة .. حتى لأتمنى ان ابكي ولا أبكي ) . قيد التضاد العاطفي الملجم يحبس الدموع ويشيع الذهول والإنشداه في مواقف ينبغي أن تنفلت فيها المشاعر عادة في اتجاه معلوم محدًد . إن حزنا فحزن وإن فرحا ففرح . ولكن مشاعر يوسف متضادة عجيبة تجعله يظهر أمامنا استجابات غير مألوفة ، أما انها متجانسة مع مثيراتها أو انها ملجمة بتصارع الأضداد الذي ( يربط ) الإرادة والذي جعله يقدًم لنا لعبة ( فنية ) عظيمة صمًمت كحلقة عذاب مفرغة : ـ ارتكاب الأثم ـ فالشعور الممض بالذنب والحاجة للقصاص فإنزال العقاب بالذات ، بالصلب أو التعذيب أو الموت .. فالإنبعاث فالإثم .. وهكذا . ولاحلّ لهذا الإثم مادام مزدوجا قائما على التضاد الوجداني من جهة وتصارع ـ والأدق امتزاج ـ دوافع الحب والعدوان .

ومن المهم الإشارة الى أن ليس ضروريا أن يتم إنزال القصاص بالذات الآثمة مصورة حادة مكافئة ، بل يمكن أن يتمظهر ذلك في أشكال أخرى متطاولة وممتدة منها ما ينتشر في مسارات مسيرة يوسف كافة وهي الرهابات والمخاوف التي تشيع في مرحلة مبكرة من حياته : الخوف من الجنون في مثل ذلك العمر البريء ( بقيت لسنوات أفكر في ( وديع ) وفي جنونه الخصوصي والمكتوم وأخاف أن أصير مثله ) . و ( أخرج وأنا أرتعش خوفا لأنني لم أكن أملك طاقة أن أدفع عن نفسي فكرة أنني سأصاب بالجنون ذات يوم وسأقيد بالسلاسل نفسها ) . وهناك الخوف من الأفعى ، حيًة البيت التي اخترعتها زوجة أخيه ولم يهدأ هذا الخوف رغم محاولات عمّته الحولاء لتطمينه وتعليمه رقية شعبية . يقول ( حفظت هذا الشعر الاسطوري كما أحفظ صلاة ، ورددته مئات المرات حذر أن أنساه . كنت أردده بمناسبة أو بدون مناسبة وحين كبرت وما عدت أستخدمه إلاّ للحنين . أصبحت أتساءل ترى من أي جهة انحدرت هذه التميمة ، تعلمها الأم لأولادها ويتوارثونها مثل وصيًة ) . وهناك الخوف من فقدان البيت الذي ستكون لنا معه وقفة خاصة في الجزء الثاني من مشروعنا .

من بين عشرات الصور التي رأتها عينا يوسف الصغير البريئتان انطبعت على صفحة ذاكرته البيضاء الغضة صورة راهب وهو يقتل :

( الصورة مرسومة بالأبيض والأسود ومعلّقة في صدر غرفة الضيوف يبدو فيها راهب خاشع وقد ركع للصلاة ومن حوله ثلاثة من القتلة وقد أشهروا خناجرهم . إنهم على وشك أن بقتلوه وهو مستسلم لصلاته كأنما يحاول من خلالها أن يذهل عن المصير الذي ينتظره ، ما استطعت قط أن أنسى عيون ذاك الراهب في اللوحة ولا عيون قاتليه ) .

يصف يوسف التساؤلات التي ثارت في ذهنه الصغير وهو يشاهد صورة هذا الراهب بقوله ـ:

( ماكنت أستطيع أن أفهم كيف بمكن أن تبلغ الشجاعة بإنسان ليذهل هكذا عن خوفه من الموت .. ورحت لسنوات عديدة أتساءل ماذا لو أنني وجدت نفسي في الموضع نفسه الذي وجد فيه هذا الراهب نفسه فيه حين خيًروه بين دينه وبين الموت ؟ ) . وينسى يوسف الصادق أن حياتنا في معناها الجوهري العميق هي سلسلة من تلك المواقف البسيطة والمعقدة القائمة على محنة الإختيار ، البسيطة مثل مواقف طفولته التي كان يحلف فيها برأس أبيه كذبا مثلا حين يوضع أمام مشكلة ضخمة بالنسبة لإمكانياته ، والمعقدة مثل ذلك الموقف الخطير الذي وضع فيه قسراُ بعد عشرات السنبن . فذات يوم شتم ( مصطفى ) وهو زميله في المعتقل ـ آمر المعتقل وسمع الشتيمة ذاك الحارس وتوهم أن يوسف هو الذي شتم الآمر فذهب وشكاه . إنه الآن يتجه نحو صليب جديد ، يسير بهدوء مفزع ومبيّت نحو موقف فداء جديد .. لعبة إنقاذ .. وبدل أن يتوتر ويتوجس وهو في طريقه لمواجهة آمر المعتقل الغاضب الناقم يقول :

( في الخارج كان الليل جميلا .. وكانت رائحة خضار تفوح على طول الممر المؤدي الى غرفة الآمر ) .

وهاهو يقف هادئا أمام الآمر الذي يخيًره ما بين الوشاية وبين سلخ جلده .. ( أعجبني ان يصيح وازدهاني دوري .. كان يتناهى عن بعد صوت أغنية أليفة وتمنيت حقا أن يسلخ جلدي ولكنه لم يفعل . راحوا يضربونني وما كنت أحس أذى بل كنت لأمر ما منتشيا وكان استغراقي في دوري يحميني حتى بدأ الدم يسيل من أنفي ) . هذا الإستغراق في دور تضحيوي وإنقاذي محفوف برائحة الليل الجميلة وصوت الأغنية المنعش هو في تلك اللحظات الفائقة الصوفية ـ إذا جاز التعبير ـ لحظات نشوة وتوحًد كبرى مع مطلق غائر بعيد لا يعلمه إلاّ اللاشعور . برود أعصاب مقدّس على مسامير الصلب التي تخترق الجسد الفاني . لكن أليس لهذه المواقف جذورها الدفينة المغيًبة الآن بعد رحلة السنوات الطويلة المتعبة وتراكم المعرفة والخبرة وآلام الجسد ؟ ألا يمكننا ان نعد هذا الموقف ( مقلوبا ) أو صورة سالبة لموقفه السلبي القديم ذاك مع ضربات معلم النشيد ثم صموده أمام ذويه كذبا ثم في وجه مصابه الحقيقي ؟ .هذا العنيد المتصلًب في المعتقل يقف الآن عند إطلاق سراحه : ( مشعث الضمير والروح مرتبكا من الضوء والحرية ، ضائعا ، لا أعرف كيف أستعمل قدمي وقد أدركت أمًي ذلك بمجرد سذاجتها ، فأخذت بيدي ونحن نجتاز ذاك الممر بالطريقة نفسها التي سبق وقادتني بها الى مدرسة الراهبات وأنا ابن خمس سنين ... )) .

يوسف ... أيًها الصادق ... كم كنت صادقا في رؤياك ..

وكم من الآلام تحملت ..

أمازلت على الصليب ؟ .