قراءة في ديوان "عطب الروح"

التأريخ للهزيمة والاحتفاء بالموت:

قراءة في ديوان "عطب الروح"

للشاعرة الجزائرية زينب الأعوج

بن العربي غرابي

مدينة ميسور، المغرب

كل أطياف الوعي العربي المعاصر وصلت إلى قناعة مشتركة مأساوية وهي أن الإنسان العربي يعيش انحطاطا شاملا واهتراء وفراغا. لقد كرر الفكرةَ/القناعةَ الدارسُ النفسي والاجتماعي والفيلسوف والأديب و رجل الدين واليميني واليساري والناقد الإبستمولوجي وغيرهم، ولاداعي لتقديم الأمثلة فهي من الكثرة بحيث أصبحت مطروحة في الطريق بتعبير الجاحظ. التخلف فينا أصبح حقيقة أو مدخلا يقع عليه الإجماع مهما تناقضت المنطلقات الإيديولوجية والفكرية، ولن نغفر لصوت ناشز يقول إننا أمة تصنع التقدم أو بالأحرى تساهم فيه أو تسير في طليعة الأمم أو بالأحرى إلى جنبها أو خلفها. والحقيقة كما سنَّ علم النفس الحديث أن المتعَب نفسيا يبحث عن آليات دفاعية نفسية يستمد منها بعض التوازن المفقود، وهذا ما يفعله الإنسان العربي الراهن، إنه يعوض عن هشاشة الحاضر وفراغه بامتلاء الماضي وعظمة التراث، وهو ماض ضخم وممتلئ حقا شهد له الخصوم أنفسهم، وهنا تكمن أزمة الإنسان العربي، ويمكن أن نصوغها في هيئة سؤال: كيف يمكن أن يتعايش في فكر وقناعةِ شخصٍ واحد معنيان متناقضان، أننا بقدر ما نحن الآن منتجون للتخلف كنا في الماضي سادة التقدم والتنوير والعقلانية؟.

 حاول الواقع العربي تصحيح المسار المنحرف بعد حملة بونبارت على مصر فانخرط مُكرَها في سلك النهضة ، وكاد يقطع أشواطا مهمة فيها لولا ثقل التاريخ وتركة التخلف الهائلة وتدخل الغرب الخصم نفسه، وحاول بعد هزيمة 1967 أن يعيد طرح الأسئلة بواقعية بعيدا عن الطوباوية الرومنسية ومسلحا بالمناهج الحديثة والمقاربات العلمية، ولكن النتيجة هي ما وصلنا إليه، وكأن قدرنا ألا ننتفض لإصلاح أعطابنا إلا بمنبه الخصوم، فهل تحولات ما يعرف اليوم بالربيع العربي هي من وحي الغرب أو هي نابعة من مخاضات واعتمالات ذاتية؟

 الشعر، كأحد أشكال الوعي ، انخرط في جوقة الرثاء التي ترافق الجثة العربية الممددة التي تزف طوعا باتجاه المقبرة، ولهذا، كل من تصفح الإبداعات الشعرية الحديثة يلمس فيها طغيان الصوت الدرامي والتشاؤم الذي يصل إلى مسويات عليا من السوداوية أحيانا، ويلحظ أيضا التنازل عن الخطاب الرومنسي الذي ساد من بدايات القرن الماضي إلى خمسينياته وستينياته.

 هاته النغمة السوداء تعزف عليها الشاعرة الجزائرية موالا حزينا طويلا يسك الآذان ويطربها في نفس الآن، حيث ستظل الشاعرة في عرض الديوان وطوله تمارس أعنف أشكال جلد الذات وأقسى تعذيب لها تصل أحيانا إلى مازوشية حارقة وعاصفية، تكشف عن قبح صورتنا ودمامة وجهنا لاعنةً بذلك الإنسانَ فينا والزمان والمكان والأشياء، رغم أن الشاعرة تحاول التخفيف من ذلك بإيهامنا أنها توجه خطابها إلى العالم البشري كله حيث استبدل صناعة المدافع والقذائف بإنتاج القمح والشعير والأشجار والنخيل وألعاب الأطفال، لكنها في متن الديوان ستوجه الخطاب إلينا نحن – العربَ – الذين أصبحنا عبئا ينوء به العالم. وكل قارئ للديوان يستوقفه المعجم الكئيب الذي يملأ جنبات الديوان من مثل: الدم والقبور والموت والجرح والانتحار والجثث والكفن والذبح والسلخ والرزايا والجمجمة والأشلاء...و يطغى ضمير المتكلم الجمع العائد على النحن الجماعية، وهو ضمير يعود على الإنسان العربي السائر بعينين مغمضتين باتجاه الفناء والنهاية.

 توجِّه الشاعرة خطابها إلى جدتها ( تكررت عبارة "ياجدتي العتيقة" أربعا وتسعين مرة 94)، وهي عبارة مثقلة بالماضوية ( الجدة + العتيقة) والذاتية الوجدانية (ياء المتكلم)، فكأن المراد الاستنجاد بماض يحمل مقومات العزة والمنعة في وجه حاضر بائس وشائه وقاحل.

 تنعت الشاعرة الزمن العربي بكل ما يسمح به المعجم من عبارات القدح والتقريع والتردي، تقول:

- هذا الزمن/الذي/لا أحد لاطفه/ولا أحد أجبر بخاطره/ولا أحد هدهد حلمه/ولا أحد ضمد جرحه/ولا أحد قرأ سره.ص30.

 وهو زمن الهزائم والشقوق لدرجة أنه يسلب الإنسان طاقة الفعل والعطاء والحياة ويجرده من إرادة الحلم:

- هذا الزمن/يتعقبنا بكل انكساراته/وبضجيج صمته الرهيب/يغرس فينا المسامير والأوتاد/يوصد أبوابه/يرمي مراياه على قلوبنا المغلقة/ويستحي بانتمائه لفصيلتنا المنقرضة/هذا الزمن المثقل بالأشباح/يحدق في وجوهنا المتلفة/ويقيس قاماتنا المتقزمة/يتحسس حجم التجميل/على هاماتنا الشبيهة بالقش/يغلق قلبه على الكوابيس المبرمجة/وينام/دون أن يحلم بأي صباح.ص32-33.

 وهو زمن مجتث لا قرار له ضائع مضيَِّع ولقيط لا يعرف شجرة عائلته:

- هذا الزمن لاجئ/لا أراضي له ولا سماوات/لا تواريخ معلنة له/ ولا أرزاق أصبحت تطلب/ ولا محن تنتفي/لاموسيقا تبرق على الشفاه/ولا كلام ينبت على صفحة الروح/ولا ملح يجمع بين القلوب/هذا الزمن وحيد/لا أخ لا أخت لا توأم له/هذا الزمن يتيم/لا أم لا أب/لا من يعيل/ هذا الزمن اللامبالي/مسجى/حيث لا أديم لا قبر ولا ثرى/حيث لا ماء/ولا هواء.ص49-50.

 وكذلك تفعل الشاعرة بالمكان "الهنا" حيث تصفه بكل ما يوحي بخرابه ويبابه ويباسه. إنه فضاء البربرية(ص54) والعبوس واستبعاد لغة التواصل:

- هنا الوجوه مغلقة/اللغة ناشفة والكلام مسدود/هنا يجرح الدم ويجرح الماء.ص55.

 وهو فضاء تنتفي الحرية في رحابه ليسود الاستعباد:

- هنا/تستوقفني السبايا والجواري والغواني والقيان/هنا يستوقفني الغلمان وسادة الأسرار/هنا تستوقفني المحظيات/ وأطفال الظل.ص67.

 في ظل هذا الوضع المأزوم تصاب الأنا الشاعرة بالخَوَر والوهن والهشاشة، فلا تقوى على الفعل والعطاء والإسهام في تصحيح المسار، تقول:

- كأن السماء/على اتساع ضيقها/تشدني إلى ما تعتق من مائها/وإلى ما تدلى من عطر الأنفاس/ وإلى ما علق بالرموش من بقايا احتجاج/تشدني/بمسامير من عرعار وغار/إلى صيحتها الخفية/حتى لا أجبر على حمل عيوني/وحتى لا أجبر على تفتيت قاماتي.ص22.

 وتقر بضعفها وسلبيتها فتدعو الآخرين إلى عدم الاعتماد عليها لأنها ستخذلهم لعجزها:

- لا تدقوا كثيرا على صفحة دمي/لن يزهر/لا ثلجه ولا ملحه/هذا المساء.ص60.

 وكذلك حال "النحن" الجمعية تتفاقم معاناتها وتعجز عن الفعل كثُلَّة من الأشباح، وتنفتح عل النص القرآني:

- أصبحنا أقواما بورا/كما التربة الشقية/وكما الرمل يسكنه السعير/ هنا المغانم الكثيرة/لكن الفرح يولي الأدبار/والدم ناشف/والمسامات واسعة/كأفواه البراكين.ص147.

 إن الذوات الجماعية عبارة عن أشلاء وأشياء غير نافعة:

- مرميون نحن/على قارعة الشعارات المجنونة/مرهونون نحن/والعصر/على قراصنة ولصوص/الوعود كثيرة/والفخاخ/تسكننا الطحالب والمياه العكرة/تسيجنا ذاكرة الأجداد.ص162.

 ورغم صعوبة الموقف ومأساويته، فإن الشاعرة تفرد شعرة معاوية للأمل:

- من هنا/تبدأ/الولادات العصية/ومن هنا/تبدأ/الرحلة/الأكثر شراسة.ص40.

 رغم أنها تدرك صعوبة إعادة الحياة إلى جثة في موت سريري:

- الرحلة/ما زالت طويلة/والخفق معدود والخطو مرتبك/الرحلة/ما زالت بلون الغراب/ ولا حادي ولا دليل.ص11.

تتشح الشاعرة بثوب الحداد وهي تنعي جماعتها ونفسها وترثي وضعنا الآيل للسقوط والمنطلق حتما نحو الموت، ولا أحد يستطيع أن يعاتبها على مشاعرها ورؤيتها، لأنني مثلها، كقارئ، أشاطرها لوعتها وحرقتها وأقول ما تقول.

*عطب الروح، شعر زينب الأعوج دار الصدى، الطبعة الأولى،يونيو 2013.