مشروع النقد الثقافي وحجب الثقة عن البلاغة

مشروع تنويري لم تحتضنه التربة العربية بما يكفي

بن العربي غرابي

ميسور، المغرب

تُجمع كتب النقد في تراثنا على أن الشاعر الجاهلي ظل لسان القبيلة ومثقفها المنافح عنها والمدافع عن مفاخرها وأيامها، إلى أن اتخذ شعره سبيلا للتكسب والمنفعة الذاتية، فتزحزحت مكانة الشعر قليلا وتحول الشاعر من مثقف مشغول بهموم الجماعة وتطلعاتها إلى مثقف جوال يرتاد القصور وذوي الثراء، يثني ويمدح لينال بذلك أجرا ماديا. وبما أن المدح أصبح طريقا إلى الثراء فقد استعان الشاعر بحيل البلاغة وشباكها للذهاب بالصنعة إلى نهايتها وأصبح الكذب والنفاق والمبالغة من ضمن الأسلحة المتاحة للتأثير في الممدوح لبسط يده في العطاء. ورغم خفوت وتراجع الشعر في العهد الإسلامي الأول نتيجة انشغال الجميع بالدعوة الجديدة نصرة أو حربا،ممالأة أو مناوأة، فقد ربحت صناعة الشعر واتسعت في العهدين الأموي والعباسي و أصبح حضور الشاعر قويا في الثقافة العربية، وشعره مؤثرا في صناعة سلوك الأفراد ومخيال الجماعة. ولا نبتعد عن الحقيقة إن قلنا إن الشاعر كان يعد من زمرة الأنتلجنسيا المفكرة والمثقفة التي تملك حق النقد والمساءلة والتغيير إلى جانب عالم الكلام والفيلسوف وعالم اللغة والمفسر والفقيه وغيرهم.

 ورفع النقد من شأن الشعر والبلاغة، بل وظل الناقد تابعا للشاعر لاهثا وراءه يبرر ما يقول ولا يعترض عليه حتى وإن انتهك الضوابط الأخلاقية واللغوية ( نتذكر ما فعله الفرزدق من اعتداء مكشوف على أشعار بعض الشعراء وتعالي أبي تمام على علم العروض وتبخيس المتنبي وبشار لزمرة النقاد). فالنقاد وكل الناس انشغلوا بحلاوة الشعر وجمالياته وتلذذوا به ولم يفطنوا إلى الأضرار التي قد يسببهاالانسياق وراء القيم الجمالية التي تتعالى في كثير من الأحيان على العقلي والفكري وتروج لقيم سلبية تفتقر على المضامين الإنسانية والحضارية.

 تغلغل الشعر في نسيج الثقافة العربية وأصبح الشاعر هو الفارس الفحل الذي يتحرك في طول الأرض وعرضها دون أن يقف أحد في سبيله، يقول فيسمع الناس ويرددون قوله ويزداد ثراء ولا يُسأَل عن ذلك ويبذل ذوو الثراء الأموال الخيالية لإرضائه وكسب مودته ولا ينظر إلى ذلك باعتباره تبذيرا وبذخا وإهدارا ، بل يُنظر إليه رديفا للكرم والإيثار والندى،ويتتبع مواطن المال محملا بقصائد مصطنعة وكاذبة( اللافت للنظر أن الشاعر في غلب الأحيان لا يمدح ممدوحه بالشجاعة والحكمة والعفة إلا إذا مدحه بالكرم والنوال والسخاء) ولكنها مدججة بإمكانات فنية وجمالية مؤثرة وفاعلة، ترفع من شأن الممدوح إلى مراتب الكمال ومدارج البطولة والنجدة والسيادة، فظهرت شخصية المثقف الشحاذ التي امتدت إلى النثر كما في المقامة التي هي فن الاستجداء بامتيازحيث يتضافر الشكل اللغوي البراق والجميل بالخبث الإنساني والتهافت على أسباب الثراء للإيقاع بأصحاب الدينار. والحقيقة أن الفحولة الشعرية هي التي سنت خطاب الكذب والنفاق فحدثت تحولات خطيرة لا يستطيع النقد الأدبي بتعامله البلاغي مع النصوص رصدها وتجليتها، ولا بد من منهج نقدي أكثر تعقيدا وعمقا ليكشف تهاتف الخطاب البلاغي الذي بقدر ما يمتع آنيا فإنه يسبب تشوهات على مستوى المنظومة الثقافية على المدى الطويل.

 طالب النقد الثقافي بإعلان إفلاس النقد الأدبي المرتكز أساسا على أدبية الأدب وغواية الجمالي، ورأى أن الجميل بلاغيا قد يهدر المعقول الفكري وينمو على حسابه. وهدف النقد الثقافي ليس نقد النصوص بل يتجاوز ذلك إلى نقد الأنساق الخفية التي تحتاج إلى زمن طويل كي تتبلور وتتشكل، يقول صاحب مشوع النقد الثافي :(والنقد الثقافي فرع من فروع النقد النصوصي العام، ومن ثم فهو أحد علوم اللغة وحقول الألسنية معني بنقد الأنساق المضمرة التي ينطوي عليها الخطاب الثقافي بكل تجلياته وأنماطه وصيغه، ما هو غير رسمي وغير مؤسساتي وما هو كذلك سواء بسواء، من حيث دور كل منهما في حساب المستهلك الثقافي الجمعي. وهو لذا معني بكشف لا الجمالي كما هو شأن النقد الأدبي، وإنما همه كشف المخبوء من تحت أقنعة البلاغي|الجمالي) 1. الناقد الثقافي، بهذا المعنى، لا ينساق وراء التواءات البلاغة ومراوغاتها وسحرها، بل يغوص في مجاهلها لتعرية ما تقوم به من تصدير للقيم الزائفة وما تعمل على إزاحة للمكاسب العقلية والفكرية العلمية والعقلانية.

 لا يثق النقد الثقافي في بريق البلاغة، لأنها مخاتلة ومخادعة ولأنها ليست هي الطريق الصحيح نحو العقلاني والفكري، فإذا كانت فلسفة الأخلاق لا تعتبر جميلا إلا ما كان حقا ، فإن البلاغة تؤمن بغير ذلك فترى الجمال كامنا في غير الحقيقي وغير العقلي. وبهذا المعنى فإن النقد الثقافي يحذر من الانسياق وراء سحر البلاغة وفتنتها لأنها تركت تأثيرا سلبيا على مستويات الثقافة فصنعت الشاعر الفحل الطاغية الذي يخشى الجميع لسانه ولا يقوى أحد على إسكاته ومواجهته مهما انتهك العقل والأخلاق وقواعد اللغة نفسها. إن الشاعر الفحل في تراثنا العربي هو المسؤول عن صناعة الطاغية بعد أن أرسى بتوجهه المدائحي القيم المزيفة والكاذبة والانتهازية والاستعلائية على حساب الفعل والعمل والقيم الإيجابية ( نسجل هنا خفوت الصوت الشعري في اللحظات التي كانت لحظات فعل وبناء وإنجاز، كما في عهد الراشدين والخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز الذي أقصى الشعراء لدرجة أنهم ارتحلوا إلى أماكن الغيث الكاذب حيث النفاق والرياء).

 الشعر العربي من منظور النقد الثقافي حقق شرط الجمال حتى غص به،فقصائد النابغة الذبياني عظيمة ومدائح المتنبي شغلت الناس وكذلك البحتري وأبي تمام والأخطل وغيرهم، ولكن المتضرر من تضخم الجمالي كان هو المنظومة الفكرية والأخلاقية والتربوية، وذلك عندما انتقلت قيم الفحول الشعرية المتغطرسة والقائمة على نقاء الذات وتعاليها ونبويتها إلى فروع الثقافة الأخرى، لتصطبغ بالكذب والأنانية والنفاق والاحتفاء باللفظ الأنيق على حساب المضمون. ويحتل غرض المدح في تراثنا الشعري العربي مكانة واسعة ( ويمكن أن نضم الهجاء والفخر في سلك المدح لأن الهجاء تجريد الآخر من الحضور الإيجابي لتحلية الذات ضمنيا بها، والفخر مدح مباشر للذات عندما تصبح في اعتقاد صاحبها محورية)، فلا يعترف للشاعر بفحولته إلا إذا كان مداحا، لذلك سمي ذو الرمة ربع شاعر لأنه لم يكن مادحا، ونُظِرَ إلى الرثاء على أنه فن نسائي لأنه بكاء لاطائل من ورائه، أما الغزل ، ذلك الشعر النبيل الذي يعلي من شأن العواطف النبيلة كالإيثار والحب والتضحية فمكانه محفوظ في مطالع القصائد فقط لتليين النفوس الصلبة والقلوب الشديدة من أجل تهييئها للغرض الرئيسي الذي هو المدح. ولا شك أن شاعر المدح المتمكن والفحل في تراثنا العربي امتلك مكانة عظمى وكان يحسب له ألف حساب سواء كان مواليا أو في المعارضة، وكانت تبذل في سبيل استرضائه إمكانات مادية خيالية، وكان يؤدي خدمات كبيرة في الدفاع عن التوجه السياسي ودحض حجج الخصوم، ولكنه كان إضافة إلى ذلك يؤدي للممدوح خدمة شخصية وسيكلوجية أخرى وهي رفعه إلى مصاف الأبطال بتطهيره من كل النقائص وحقنه بكل شروط المنعة والحصانة والاكتمال البشري.

 لماذا لايهيمن في السوق النقدية العربية إلا النقد الأدبي ويكاد يختنق النقد الثقافي رغم حاجتنا الملحة إليه؟ الجواب بسيط: لأن تحكيم النقد الثقافي سيطيح بقامات إبداعية عظيمة لها في مخيالنا احترام وحضور لا يقاومان، من زهير والنابغة والأعشى وجرير والفرزدق والبحتري وأبي تمام والمتنبي إلى شعراء كبار معاصرين كالسياب وخصوصا نزار قباني وأدونيس. هل نستطيع أن نعتقد مع صاحب مشروع النقد الثقافي أن المتنبي مجرد شحاذ عظيم (ص93) وأنه أقل الشعراء اهتماما بالإنساني وصاحب الذاتية المفرطة والأنا الطاغية (ص 169) وأن أبا تمام شاعر رجعي(ص177). وهل يقبل عربي كلاما كهذا في حق نزار وأدونيس ( فإن نزار وأدونيس سيتوليان إعادة الروح للنسق الفحولي بكل سماته وصفاته الفردية المطلقة والفحولية التسلطية، وسيحققان عودة رجعية إلى النسق الثقافي القديم والمترسخ ) ص246.

 أخيرا، نقول إن الكاتب عبد الله الغذامي وقع في رأينا المتواضع في فخ التعميم، وذلك واضح من تتبع التراث الشعري والنقدي العربي، لأن الكثير من الشعراء الكبار لم يرتق به إبداعهم الشعري إلى مصاف الأثرياء كابن الرومي مثلا، كما أنه كثيرا ما امتدت السيوف إلى رقاب شعراء كبار كبشار مثلا، كما أنه من المجحف أن نتخيل كل الشعراء مداحين مهطعين لاهثين وراء المال، وهنا نعطي مثالا بأبي العلاء المعري. ورغم ذلك يقدم الكاتب مشروعا نقديا جريئا نتمنى لو تم تدارسه أكثر.

               

1- النقد الثقافي:قراءة في الأنساق الثقافية العربية للدكتور عبد الله الغذامي، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثالثة 2005،ص 83-84 .