أنين الفصحى.. بين علال الفاسي وحافظ إبراهيم

أنين الفصحى..

بين علال الفاسي وحافظ إبراهيم

حسني عبد الحافظ

بدأت محاولات التشكيك في مكانة اللغة العربية، وقدرتها على استيعاب حضارة العصر.. منذ أن حط الاستعمار البغيض في ديارنا العربية والإسلامية، وأخذ ينشر سمومه الفكرية في عقول أبناء الأمة، بواسطة طائفة من المنصرين والمستشرقين الذين استطاعوا (توظيف) عقول بعض أدعياء "التنوير" واستخدموهم معاول هدم لأركان هذه اللغة المكرمة، التي هي – بحق- أم اللغات.

وكان كل من الشاعرين الكبيرين.. حافظ إبراهيم، وعلال الفاسي.. قد عاصرا جانباً من هذه الحرب الخبيثة، وأدركا خطورتها على الأمة ومستقبلها فنسجا أشعاراً عن أنين الفصحى.

تساؤلات

إنه لمن غرائب الأمور، أن يذهب البعض من العرب، ليتعلموا أصول اللغة العربية، كما يتوهمون، في معاهد الغرب وجامعاته.. فهذه إهانة كبيرة لأنفسنا وللغتنا، خاصة إذا علمنا أن من يقومون بتدريسها جماعة من المغرضين، الذين لا هم لهم سوى هدم أصول لغتنا، وليس إصلاحها كما يزعمون.. وهذا أحدهم، يدعى زويمر، يقول: "تعليم المسلمين يجب أن يكون بلسان واحد من أنفسهم، ومن بين صفوفهم، لأن الشجرة يجب أن يقطعها أحد أبنائها"، ويشير سلامة موسى، إلى أحد أساتذته(!!)، قائلاً: "والهم الكبير الذي يشغل بال السير ولكس، بل يقلقه، هو هذه اللغة التي نكتبها، فهو يرغب في أن نهجرها، ونعود إلى لغتنا العامية، فنؤلف بها، وندوّن بها آدابنا وعلومنا.."، ونرى سلامة موسى قد غرق في مستنقع تعاليم هؤلاء المغرضين، يقول: "الرابطة الشرقية سخافة، والرابطة الدينية وقاحة، والرابطة الحقيقية هي رابطتنا بأوروبا".

ونتساءل: هل سمعنا أن إنجليزياً جاء يوماً ليتعلم أصول الإنجليزية في بلادنا العربية..!! إذا كانوا هم قد صنعوا علم الاستشراق، فلماذا لا نصنع نحن أيضاً علم الاستغراب..؟! إن تقهقرنا الحضاري ليس مبرراً لإعطاء الآخرين الحق في أن ينسجوا لنا ثوبنا اللغوي.

وكان شاعرنا علال الفاسي، قد تنبه إلى خطورة انجراف بعض بني جلدتنا إلى تيارات الغرب العاتية، التي لا تحمل سوى الحقد والحسد للغتنا، فقال:

تآمروا وأعدوا كل مدرسة    بها قواعد الاستعمار تقتعد

كما تنبه لهذه الهجمة المغرضة، شاعرنا حافظ إبراهيم، فنسج يقول على لسان اللغة العربية:

أيطربكم من جانب الغرب ناعب    ينادي بوأدي في ربيع حياتي

هـجــر..

واللغة العربية، هي لغة العرب من المحيط إلى الخليج، وأملهم في التوحد والبقاء، وسط العولمة الجديدة، التي لا مكان فيها للغة ضعيفة.. وفي دراسة صدرت مؤخراً في ألمانيا، أعدها فريق من كبار علماء التاريخ واللغات بجامعة بيلفيد، ورد أن سكان العالم قبل عشرة آلاف سنة، كان عددهم لا يتجاوز المليون نسمة، يتحدثون بنحو 15 ألف لغة، انقرض نصفها على رغم تضاعف السكان حوالي 5 آلاف مرة..

وحذرت الدراسة من أن اندثار اللغات سوف يستمر. وقد صرح بروفيسور كريستيان ليمان بأن هناك احتمالاً قوياً لاندثار ثلث لغات العالم، خلال هذا القرن الجديد، من الألفية الثالثة..

وأشار ديتر فوندرليش، من جامعة هاينريش هانيه في دوسلدورف، إلى أن العالم يمر الآن، في ظل الثورة المعلوماتية، بظاهرة (موت اللغات)، ووصف شبكة الإنترنت بأنها (قاتلة اللغات)، كونها تفرض لغات بعينها على الجميع، وفي مقدمتها اللغة الإنجليزية.. إلا أن هناك نحو 600 لغة فقط تحمل مواصفات الاستمرارية، إلى أجل غير محدود.

وكان حافظ إبراهيم قد حذر من إهمال الفصحى، فقال على لسانها:

فلا تكلوني للزمان فإنني=أخاف عليكم أن تحين وفاتي

أيهجرني قومي -عفا الله عنهم=إلى لغـــة لم تتصل برواة

سرت لوثة الإفرنج فيها سرى=لعاب الأفاعي في مسيل فرات

فجاءت كثوب ضم سبعين رقعة=مشكلة الألوان مختلفـــات

ويرى علال الفاسي أن هناك اضطهاداً للفصحى، من دون وعي بأهميتها.. ويتساءل:

إلى متى لغـة القرآن تضطهد=ويستبيح حماها الأهل والولد

أما دروا أنها في الدهر عدتهم=ما لهم دونها في الكون ملتحد

ويؤكد أن اللغة في القوم هي نبراسهم في ممارسة حياتهم، وأن معرفتها الجيدة ضرورة:

لن تقوم لهم في الناس قائمة=أو يستقيم لهم في العيش ما نشدوا

إن لم تتم لهم بالضاد معرفة=أو يكتمل لهم في الضـاد معتقـد

درر

لقد أثبتت كل الدراسات والأبحاث اللغوية والتاريخية (الرصينة)، أن لغات العالم قاطبة تأثرت بالعربية، وأخذت منها.. وإن كنا نجد، بين الحين والآخر، من يخرج علينا وينكر ذلك، بل إن أحدهم، وهو يهودي، كتب بحثاً هزيلاً، روجت له كثير من وسائل الإعلام الغربية المتصهينة مؤخراً، واعتبرته "من العلامات البارزة في التاريخ للغات"!!.. أشار فيه إلى اللغات الأكثر أهمية في العالم، ولم يذكر لا من قريب أو بعيد أي شيء عن اللغة العربية، معتبراً اللغة العبرية هي اللغة الأم لكل لغات الأرض..!!

والحقيقة أن هذا الأمر لم يفاجئنا، فنحن نعرف جيداً ما لليهود من افتراءات ومغالطات تاريخية ودينية.. ولغوية أيضاً.

وكان علال الفاسي قد أشار إلى أن العبرية لم تكن يوماً لغة علم أو فن:

تلك اللغات التي لم تعيها فكر   ولا فنون ولا علم ولا عدد

ويكشف عن الوجه القبيح لهؤلاء المزورين، طالباً الإنصاف، مشيراً إلى أن اللغة العربية في ألفاظها الدرر كامنة..  فيقول:

يزورون من التاريخ ما علموا=ويدعون من الأمجاد ما فقدوا

لو أنصفوا لرأوا تاريخنا صحفاً=من المآثر لم يسبق لها أحد

وعلى لسان اللغة العربية يضيف حافظ إبراهيم:

أنا البحر في أحشائه الدر كامن     فهل سألوا الغواص عن صدفاتي؟

دعوة

ألا يكفيها أنها اللغة التي اختارها المولى تبارك وتعالى لكتابه العظيم، الذي هو نور وهداية للعالمين؟ يقول حافظ إبراهيم على لسانها مستغرباً اتهام بعض الكتاب لها بالعجز عن مواكبة العصر:

وسعت كتاب الله لفظــاً وغايـة=وما ضقت عن آي به وعظات

فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة=وتنسيق أســماء لمخترعات؟

وفي المعنى ذاته يقول علال الفاسي:

قد يسرت كلمـات الله في سـور=لا ينقضي عجب منها ولا مدد

من غيرها في لغات الأرض قادرة=على أداء كـــلام الله إذ يفد؟

وفي ختام أنينها، تدعو اللغة العربية الكتاب بأن يحافظوا على قواعدها، وأن يحموها من الأخطار المحدقة بها، وأن يسعوا إلى نشرها في العالمين:

إلى معشر الكتاب والجمع حافل=بسطت رجائي بعد بسط شكاتي

فإما حياة تبعث الميت في البلى=وتنبت في تلك الرموس رفاتي

وإما ممـات لا قيامـة بعـده=ممات لعمري لم يقس بممات