بين متعة القراءة وهواية التأليف

رؤية فنية

سليمان عبد الله حمد

[email protected]

كل منا له هوايات مختلفة تكون منارات في مشوار حياته  ،  وأعتقد أن الهوية تختلف من مرحلة عمرية عن التى بعدها ، وتظهر هذه المواهب  بحسب الميول الشخصية والأدبية والنفسية فهي مثل النبته إذا أهملت فإنها  تموت وتتلاشي !!! ...

فقراءة التاريخ كانت على الدوام هوايتي المفضلة التي أجد فيها متعتي.. ابحث عنها في كل مكان ..  فقراءة الكتب والمقالات الأديبة والتاريخية ، فتناول كتاب ( طبقات ود ضيف الله)  الذي حوى اخبار شخصيات وأحداث الصالحين والعلماء والشعراء في اهم فترة من تاريخ السودان.

ومتابعة لهذا المد الثقافي نتناول سيرة كتاب أخر هو العامية في السودان لمؤلفه الدكتور عون الشريف قاسم ...

نبذه عن المؤلف :

ولد في حلفاية الملوك السودان عام 1933 درس بمدرسة حلفاية الملوك الأولية ومدرسة الخرطوم بحري الابتدائية ومدرسة وادي سيدنا الثانوية ، نال بكالوريوس الآداب من جامعة الخرطوم  عام 1957م نال الماجستير في الآداب من جامع لندن عام 1960م. نال الدكتوراه في الفلسفة من جامعة ادنبره عام 1967م. عمل محاضراً بمدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن من عام 1959- 1961م عمل محاضراً لشعبة اللغة العربية كلية الآداب جامعة الخرطوم من عام 1961 وحتى 1964م عمل محاضرا أول بجامعة الخرطوم 1969 مدير قسم الترجمة من 1969 وحتى عام 1970م عين وزيراً للأوقاف والشئون الدينية عام 1973م رئيس المجلس الأعلى للشئون الدينية عام 1980م أستاذ الأدب العربي بجامعة الخرطوم عام 1982م ..

البروفيسور عون الشريف قاسم له إسهامات عديدة في الجانب الأدبي والديني نذكر منها:-

العامية في السودان خواطر إسلامية صدر عام 1978م الدين في حياتنا 1975م التراث الروحي والبعث القومي 1976م دبلوماسية محمد –دراسة لنشأة الدولة الإسلامية في ضوء رسائل النبي صلى الله عليه وسلم ومعاهداته عام 1971م شعر البصرة في العهد الأموي - دراسة في السياسة والاجتماع عام 1972م العامية في السودان (نسختان) حلفاية الملوك التاريخ والبشر عام 1988م في الثورة الحضارية عام 1977م في صحبة القرآن عام 1979م في معركة التراث عام 1972م قاموس اللهجة العامية في السودان الطبعة الأولى عام 1972م قاموس اللهجة العامية في السودان الطبعة الثانية عام 1977م المرتكزات الفكرية لبعث رسالة المسجد عام 1975م من قضايا البعث الحضاري 1971م موسوعة الثقافة الإسلامية عام 1975م كتب المطالعة في المدارس الأولية في السودان – نقد وتحليل عام 1969م لمحات من مقاييس النقد الشعري نظرات في كتاب الله عام 1979م.

موسوعة القبائل والأنساب في السودان وأشهر أسماء الأعلام والأماكن (تتكون هذه الموسوعة من ستة أجزاء) بلغ من العمر 73 عاما وتوفي في 20 يناير 2006.

" كتاب العامية في السودان "

 صدرت الطبعة الأولى لهذا الكتاب، في العام 1974م، وقد برر الكاتب
دراسته للعامية، بأنها تؤدي للتقارب والتفاهم الشخصي بين الأمم
العربية، وكما قال، ليس الغرض من هذه المجهودات ابراز العامية كبديل
للعربية الفصحى، ولكن الهدف الأساسي هو التعرف على اللهجة العامية
بردها إلى أصولها وتحليل جذورها حتى نستطيع أن نعرف عن أنفسنا
أكثر مما نعلمه الآن.. وهي أيضاً تساعد تبيان في ثقافة وفكر، المجمع
السوداني بأعراقه وثقافته المتعددة والمتنوعة.

ومعلوم أن الازدواج اللغوي «لغة فصحى، ولغة عامية، هو من سمات
اللغة العربية، قديمها وحديثها، وهذه الثنائية كما قال الدكتور عون
الشريف قاسم ليست حديثة العهد، ولم تنشأ بخروج العرب في جزيرتهم
إلى الأقطار التي استقروا فيها بعد الإسلام بل هي ظاهرة قديمة كانت
قائمة في حياة العرب حتى قبل بروز هذه العربية الفصحى التي نشأت
في فترة متأخرة من الجاهلية الأخيرة تأثير عوامل حضارية، وثقافية
معروفة فجاءت الفصحى خليطاً من لهجات كثيرة مرهصة بانتقال العرب
من مرحلة البداوة والترحال إلى مرحلة الحضارة والاستقرار، معبرة عن
توحد فكري وثقافي وديني واجتماعي بدأ ينتظم حياة العرب وبلغ غايته
بظهور الإسلام.

وقصد الدكتور عون الشريف قاسم أن نشوء العامية يأتي من تأثير
الحضارات والثقافات الأم عند وفود اللغة الفصحى إلى هذه المناطق
وهي تدل على أن اللغة العربية قابلة للتفاعل الحضاري الثقافي الجديد
والأخذ من كل الحضارات والمعارف الجديدة.

بمعنى أن اختلاط العرب بغيرهم من الشعوب والثقافات، كان سبيلاً إلى
إكساب الشخصية العربية أبعاداً وسمات تتباين بتباين البيئات والأزمات.
ولا شك أن الأثر الفرعوني والقبطي سواء كان في عادات الناس أو
لغتهم أثر بالغ القدم ولم يأت مع تدفق موجات المهاجرين من الشمال
في العصور الحديثة.

ولعل كثيراً من المصطلحات الخاصة بالنيل والزراعة من مخلفات هذه
اللغات المصرية في لغاتنا النوبية.

فمثلاً كلمة الأجواد المشهورة والتي تجمع على أجاويد، وتعني من
يتوسطون بين المتنازعين ويسعون لرأب الصدع قد يتبادر إلى الذهن
أن أصلها الجود لأن من يقوم بهذه المهمة لابد أن يكون كريم النفس.

وقد قال الحاردلو يمدح: بعرفك كنت تقوم في حجازه وأجوادية والواقع أن الكلمة ليست من الجود في شيء وإنما هي نوبية الأصل
مكونة من مقطعين أو لهما، أج، بمعنى مختلف وواد بمعنى الفاصل
والمعنى العام الذي يفصل بين المتنازعين.

وكما يقول الدكتور عون الشريف قاسم، فإن عامية السودان تضرب
في عمومها بسهم آخر في التراث العربي القديم، وقد يتطلب دراسة
أصل كلمة واحدة مثل كلمة البيَّاح إلى الغوص البعيد في أعماق أمهات
المعاجم، فنحن حين نقول بيَّح البياح وبيح الفجر نعني طلوع الفجر،
وبعض أهل الغرب كالحمر يقولون البواح في مثل قول المغنية:

من طلعة البوّاح                                  لنوم عيوني انزاح

وكل ذلك لقطة البواح وهي اسم علم للشمس عند العرب القدماء.

ومن الملاحظ جداً أن اتساع رقعة أرض السودان، وتباعد أطرافه
واختلاف بيئاته الجغرافية والإنسانية يفتح المجال واسعاً لتنوع
اللهجات وتباين أساليب الكلام ويكفي أن ينظر الإنسان في لهجات
غرب السودان وخاصةً كردفان ليتبين أثر البيئة في تشكيل اللغة
نطقاً ومحتوى وشكلاً، ومن البديهي أن السودان كغيره من المناطق
الإفريقية كان وما يزال يعج بمختلف اللغات واللهجات.

 

ولابد أن وسط السودان الذي يتحدث اللغة العربية كلغة أم كان قبل
انتشار العربية يتحدث بلغات مختلفة مثله في ذلك مثل بقية أجزاء
القطر وقد كان دخول العرب في السودان نقطة تحول خطيرة،
أحدثت هزة إنسانية ولغوية عنيفة ونتجت عنه تعديلات بعيدة الغور
في كيان البلاد.

ولكن مدى تأثير هذه الهزة مرتبط إلى حد كبير بتحركات القبائل العربية
ومناطق إستقرارها، إذ أن موجة الفتح سرعان ما انحسرت عن الأطراف
وتركزت في الوسط الذي كان أقرب إلى بيئة العرب.

ونحن إذا أمعنا النظر في لهجتنا العامة نستطيع أن نكشف أننا ما نزال
نحتفظ بكثير من رواسب اللغات الميتة، كالفرعونية والنوبية والزنجية
والبجاوية والتي دخلت في الإطار العربي للغة الاستعمال اليومي.. وحتى
الكلمات النوبية الشائعة ألفاظ الساقية وأدوات الزراعة مثل «الكوريق،
والسندقيق، والسبلوقة، والوريق، والأورتي، وكذلك، النبرو والشادوف
والكرو والكرسي والقرير..

ومن النباتات العرديب، والماريق، والتبش، والحنقوق، والعاشميق.. إلخ
ومن الكلمات التبداوية البجاوية كلمة «المرفعين، والبعشوم والبعنيب،
والصقر.. وكلمة العنقريب والكركب والفندك والدانة للشراب، والسكسك
والكرورية والنصل أو حين نأخذ الشبال في العرس.

وفي مجال الأطعمة «الدوف والقنقر والعنكوليب، ومن الألفاظ الفرعونية
القديمة، مثل الكلمات النيلية كالدميرة، والسيمة، والسلباية والريح
المرسى «الجنوبي» والطياب الشمالي عند النواتة، ولفظة «الطورية»
والأثر الفرعوني يدور على ألستنا كل يوم في لقطة «شنو» وفي لفظه
«
كانيماني

والألفاظ الأوربية كثيرة في العامية السودانية، فمن الفارسية وصلتنا
ألفاظ بعض الأطعمة، كالبالوطة، والباذنجان، والكعك والخشاف
والجزر واللارنجة، والزنجبيل، والتماك، والنشادر.

ومن أسماء الأدوات، الطشت والإبريق والبرواز والجزلان
والتماك، والجنزبير والدوباره.

والألفاظ اليونانية مثل أسماء الأطعمة «الملوخيا،
والبامية، والترمس، والكرنب والكراويا والبقدونس ... والأدوات مثل الطاجن والكبسونة والأصطبل.. الخ

فمن المأمول أن يتابع جيل اليوم والغد هذا الخيط الرفيع من التأليف المكتوب بهدف التوثيق الكتابي لهذا الموروث الثقافي أم أن حواء السودان بخلت بهذا المد الثقافي والتراثي بهدف سد هذا النقص الثقافي في المكتبة السودانية !!!