مع طرفة العبد في تمرّده

مع طرفة العبد في تمرّده

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

يصرخ طرفة بن العبد بوجه من يقف أمام رغباته وينكر عليه أن يمارس ما يريد دون رقيب أوزاجر:

ألا أيها الزاجري أحضُرَ الوغى     وأن أشهد اللذات : هل أنت مُخلِدي؟!

فإن كنتَ لا تسطيعُ دفعَ منيّتي          فدعني أبادرْها بما ملكت يدي 

وأسمع تحديه يملأ الصحراء ، وأراه متوتر الأعصاب يرفع قبضته في وجه ناصحه متحدياً ، ولعله يراه – من وجهة نظره – رجلاً يفرض وصايته عليه ويحد من تعطشه لممارسة حريته في اختيار طريقة حياته ، ولعلنا نتذكر أن طرفة قـُتِل في ربيع الشباب ، ولمّا يتجاوز السادسة والعشرين من عمره ، شأنه شأن الشباب الذين يرون في أنفسهم القدرة الخلاّقة  والرأي السديد.

يعتقد أن الموت حق، وأن ماله بداية له نهاية ، وهومثلنا في نظرته لهذه النهاية غير المرئية :

أرى الموت يعتام  الكرام ويصطفي              عقيلة مال الفاحش المتشدد

إلا أنه يستبق الموت بسبب من عقيدته المادية بطريقة انتهاب اللذات والعبّ منها دون هوادة ، ولعله يذكرني برجل ستينيّ يدخل على صديقي الطبيب النفسي يخبره أنه حين رأى نفسه يجتاز عتبة الشيخوخة ولمّا يشبع نهمه من لذات الحياة خاض (بحر النساء) يرشف كل ليلة رحيق وردة منهنّ ويتنشّق عبيرها ويغوص في أمواجها إلى أن غرق في دوّامتهنّ وأصابه أمراض الاتصال غير الموزون وأدرانها ، هذا الستيني يعيش في جاهلية القرن الحادي والعشرين ، فلا عتب ولا عجب ان نرى طرفة بن العبد قبل ستة عشر قرناً يقع في بحر اللذات نفسه ، فهما يضربان في مستنقع واحد ، بيد أن طرفة لا ينسى حبه للقتال وشرف مقارعة الأبطال، فللوغى لذة لا تعدلها لذة ، ولا يموت المرء إلا في أجله المحتد  ، ألم يعلنها سيف الله على الملإ حين قال قولته المشهورة ( لقد خضت زهاء ثمانين معركة وما في جسمي شبرإلا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح ، وها أنا اليوم أموت على فراشي كما يموت البعير ، فلا نامت أعين الجبناء) حقاً فلا نامت أعين الجبناء.

إلاأن الفرق بين عقيدة خالد ومن على دربه وعقيدة طرفة  ومن على شاكلته كبير كبير، فخالد يقاتل لمبدأ عظيم يجد في الدفاع عنه لذة آنيّة تدفعه لبذل روحه في سبيله وثواباً عظيماً يناله حين يلقى ربه شهيداً في سبيله ، أما طرفة فهو يسابق الموت قبل أن تفنى اللذات فيفقدها بانتهاء الأجل ، وشتان ما بين الهدفين .

وعلى الرغم مما اكتنف طرفةَ بن العبد من مفاهيم دنيوية آنيّة أجده حرّ النفس كريمها ، يكره العيش في الزوايا المنسية ، ويأبى أن يكون رقماً مهملاً في حياة تتجنب المغامرة لتحفظ على حياة صاحبها أماناً موصوماً بما تأباه النفس الحرة.

حين يعلم المرء أن الحذر لا ينجي من القدر ويتخذ من ( المنية ولا الدنية ) شعاراً يعمل من خلاله يجد الحياة الحقة في ظلال السيوف . ويرى الجهاد سبيله إلى العزة والكرامة في الدارين ..