الرواية اليهودية .. غياب الدافع الأخلاقي

(فريدة أنموذجا)

يوسف يوسف

صاحب هذه الرواية نعيم قطان يهودي عراقي ولد في بغداد عام 1928 ، ودرس الأدب الفرنسي في جامعة السوربون ، ثم انتقل من هناك إلى كندا ، حيث يستقر ويحمل جنسيتها . ولنعيم من الكتب في حدود الثلاثين كتابا ، منها إلى جانب رواية فريدة (1) روايتان هما : وداعا يا بابل (1975) وثروة العابر (1989 ) .

 وهذه الرواية في حيادية تامة نبتعد بها عن أي موقف قد يخالف الرأي النقدي البعيد عن الهوى ، تؤكد بأن صاحبها قطان يمتلك من مقومات الصنعة الروائية ، ما يجعله واحدا من بين أبرز الروائيين اليهود ، الذين على عكس الكثيرين يكتبون بفنية عالية ، دون أن تصيب نصوصهم الأمراض الفتاكة التي تكاد تعصف بعشرات الروايات اليهودية كمثل المباشرة والزعيق وتغليب الأيديولوجيا على الفن والجمال ، وسوى هذا مما يرتبط بكوزمولوجيا الفكر الصهيوني الذي تخضع له مختلف أجناس التعبير اليهودية ، رواية كان هذا الجنس أو قصة أو غيرهما .

 وفريدة رواية واقعية ، أو هي في تعبير أدق من روايات الواقعية الحرفية ، التي يتحدد التجويد فيها بالحرص على التطابق بين أي تخييل محتمل ، وبين الواقع المرئي للمتلقي بحذافيره كاملة ، وليس عبر أحداث منتقاة دون غيرها ، وإن وقع هذا فعلا ، لاعتبارات فنية بحتة . ولعل نعيم قطان صاحب كتاب ( الواقعي والمسرحي ) (2) الذي يبحث فيه عن الخط الفاصل بين الواقعين والذي هو خط وهمي في تشكله ، قد تعمد النزوع إلى نوع من الكتابة السيروية ( من السيرة ) ليبدد وحشة المسافة بين القارئ وبين ما يحيل إليه التخييل كمؤلف . وهو ما جعله ينأى عن أي من الحلول الجمالية الأخرى سوى الواقعية كالانطباعية والرمزية وسواهما مما قد يؤجل وقوع الصدمة – صدمة التلقي ، لرواية تجري أحداثها في سرعة عجيبة ، وفي سلاسة نهر عميقة مياهه ولا يثرثر ، وإن كان المتن الروائي الذي يحمله إلينا خطاب الرواية ، صهيونيا هو الآخر ، حتى وإن كنا ندرك بأن نعيم قطان قد هاجر إلى كندا وليس إلى أرض الميعاد الموعودة لخلاص اليهود كما فعل بطل الرواية سليم عبدالله ، إذعانا للفرية التي كان يؤمن بها ، وهذا ما ياتي على لسانه إبان لحظات توديعه فريدة ، المعشوقة اليهودية هي الأخرى التي ساعدت في تهريبه خارج العراق ، بعد أن كانت قد هرّبته من السجن في

 بغداد ، ومن الحكم بالمؤبد الذي صدر ضده بتهمة جريمة قتل ساسون ، اليهودي الآخر، الشريك التاجر ، والصهر في آن واحدة .

 لقد كان في مقدور هذه الدراسة اختيار مقترب آخر إلى الرواية سوى المقترب الذي يرتبط بالدافع الأخلاقي ، بيد أن المقترب الذي يلتفت إلى هذا الجانب يعتبر في اعتقادنا من أهم المقتربات التي سيتمكن قارئ الأدب اليهودي من خلالها الكشف عن واحدة من أهم ثيمات هذا الأدب في سنواته الأخيرة ، ونقصد ثيمة الجنس التي يقصد الروائي منها إغراق القارئ في بحر من الشهوة المحرمة التي تتم فيها عملية إسقاط مختلف المحرمات ، وبالتالي القيام بممارسة خطيئة الزنا التي من شأنها إذا ما استفحلت بين الأفراد ، تفتيب المجتمعات ، ونزع أي ميل باتجاه الأديان بصرف النظر عن أسمائها ، وهكذا وصولا إلى بروز ظاهرة الإباحية التي تجعل يهوديا يدعى سليم عبدالله ، لا يكتفي بممارسة الزنا مع عاهرة من المسلمين ، ولا بممارسته مع عاهرة من المسيحيين ، وإنما نراه في وقت لاحق يقوم بممارسته مع واحدة من المحارم كما يتم تصنيفها بحسب الشريعة اليهودية ، دون أن يجد غضاضة من الاشتراك حتى مع مدير شرطة بغداد المسلم ، في إقامة العلاقة الجنسية معها .

 ويحملنا هذا الفضاء المسيطر في الرواية ، الذي هو فضاء الزنا بالمحارم من اليهوديات وبالعاهرات من الديانتين الأخريين ( الاسلام والمسيحية ) ، وفضاء القبول بالاباحية والشيوع في ممارسة الجنس المحرم الذي يصور فيه المؤلفون ما يسمونها قضبان الشهوات وفتحاتها ، إلى ما يبين علو نبرة هذه النغمة في الأدب اليهودي العبري أو الاسرائيلي بصرف النظر عن التسمية التي يختارها الواحد منا ، ذلك أن الغاية تبقى هي نفسها في حالة تناول موضوعة الدافع الأخلاقي في الأدب اليهودي وفقدان هذا الدافع ، الذي يعدّ أمرا جوهريا لدى كتاب يهود آخرين كمثل شموئيل يوسف عجنون ، حيث المرأة اليهودية في قصصه أكثر إخلاصا دينا وصهيونيا من الرجل كما يقول جودت السعد في كتابه ( الرموز العنصرية في الأدب الصهيوني )(3) . وهي كما يقول كذلك أقل جرأة على الخروج على التعاليم التوراتية لأنها ينظره " الأرض " القادرة على العطاء الدائم .

 والاشارة إلى هذه الثيمة دون غيرها ليس محض افتراء أو اختلاق نأتي بهما من فراغ ، فهناك على سبيل التقريب سوى هذه الرواية عشرات الروايات التي منها على سبيل المثال لا الحصر رواية ( مشكلة الروح والجسد – 1983 ) للكاتبة ربيكا جولدشتين التي تدور حول نعوم جيميل التي تدرس التلاميذ مادة الرياضيات . ونعوم التي خاضت تجربتها الجنسية الاولى وكانت ما تزال ابنة اثنتي عشر سنة ، تعتبر النموذج الذي تقدمه ربيكا لكي تقول للمتلقين من خلالها وبالوصف الدقيق غالبا ، بأن اليهود في مقدورهم ممارسة الجنس بنفس القوة والشهوة التي وصفها كبار الكتاب في رواياتهم الاباحية . وسى ربيكا فإن الكاتبة أريكا يونج تقدم في ( قصة ومغامرات فاني الخليعة ) واحدة من نساء القرن الثامن عشر الشهيرات في عالم الدعارة والشبق الجنسي الطافح بمختلف غرائب الممارسات التي تلقنها للقارئ وهي تنقله من عالمه إلى عالمها الذي يخلو من أي دافع أخلاقي فاضل . وهي أيضا تقدم في روايتها الأخرى ( تعقيد إيكاروس) البطلة إيزادورا اليهودية البرجوازية التي تعيش في نيويورك ، بعد طلاقها من زوجها ، وزاواجها من طبيب نفسي صيني الجنسية (4) . إنها الأخرى كسابقاتها لا تقيم وزنا للدين ، وتمارس الجنس في شراهة وشبق شديدين ، يتم التعبير عنهما بنسق حسي ينعدم فيه العقل عند من يقوم به ، فيصبح كما لو أنه أحد البهائم السائبة . وحتى في رواية ( كوكب القرود ) لبيير بول التي يطلق فيها الروائي على القرود أسماء يهودية ، فإن البطل ينشئ مدرسة لكي يعلم فيها سكان الجزيرة من القردة تعاليم اليهود ، وليروي لهذه القردة قصة حب ماري مادلين التي يهدف من خلالها نشر فكرة تبادل الزوجات ومشاعية الجنس بدون ضابط أخلاقي .

 وهكذا فإنها ليست الصدفة ما جعلت الروائي نعيم قطان يطلق على بطله اسم سليم ، وهو الاسم نفسه الذي يحمله بطل قصة ( غريب بين إخوانه (5) للقاص إيلي عمير اليهودي العراقي الآخر . واللافت للانتباه في كل من الرواية والقصة ، ليس هو فقط مما يرتبط بما يسميها الكاتبان معاناة اليهود في العراق وتقديمهما هذه المعاناة كل واحد منهما بطريقته وإن تشابه اسما البطلين ، وإنما انعدام الدافع الأخلاقي في النصين كليهما معا كذلك ، بدلالات عديدة من بين أبرزها ذهاب الاثنين : سليم القصة وسليم الرواية إلى ملاهي العهر واحتساء أكبر الكميات من الخمرة ، وممارسة الجنس مع العاهرات والبغايا ممن يبعن أجسادهن . لقد وقع سليم الرواية في غرام فريدة المطربة وابنة ملته اليهودية ، ومثل سليم القصة هو الآخر فقد رأيناه يتلوى في خلاعة مع الراقصة المصرية سامية جمال . إنه المناخ نفسه إذن ، وما يعتقده نعيم قطان جذابا للسرد وللمتلقي ، يعتقده إيلي عمير كذلك . إنه الثدي ذاته الذي رضعا منه حليب طفولتهما ، والتربية ذاتها التي تلقياها من التوراة وكتاب تفسير الشرائع التلمود . ولا ننسى أنه المكان نفسه الذي تعيش فيه الشخصيتان وينحرك فيه السرد .

 بغداد هي المكان الذي تدور أحداث الرواية فيه ، إبان عقد الأربعينيات من القرن المنصرم ، وخلال سنوات الحرب العالمية الثانية التي حدثت فيها في العراق أحداث سياسية تركت تأثيراتها عليه وعلى الشخصيات كذلك . وبحسب ما نتبينه فإن نعيم قطان الروائي ذو الأسلوب الواقعي ، يقدم لنا متنا سرديا كما لو أنه ابن بلد ما يزال يعيش في بغداد ولم يغادرها منذ الأربعينيات . وهنا نرى نوعا من العلاقة التفاعلية الحسية بالمكان قوية ولا فتور فيها بتاتا ، ونكتشف تضاؤل الفجوة المتوقعة بين تأثير الهجرة على المهاجر من مكان ولادته إلى مكان آخر وبين البقاء فيه . ونعيم قطان في خطابه الروائي حيث البطل سليم عبدالله اليهودي الطامع بالمال والجاه والجنس جميعها معا وفي تلازم كأنه الارتباط الجدلي بينها ، يظهر لنا كقراء كما لو أنه زار بغداد خلسة في سنواتها الأخيرة التي كتب فيها الرواية ، بجواز سفره الكندي ، ليستعيد تفاصيل المكان الذي فارقه منذ عدة عقود ، وذلك من أجل أن تظهر علاقته بالمكان – بغداد على النحو الذي سبقت الاشارة إليه – العلاقة التفاعلية الحسية القوية ، وهو ما يؤهل الرواية لأن تكون رواية مؤثرة وناجحة في المعايير النقدية ، يكتبها روائي يهودي لم تتضاءل علاقته بمكان ولادته ، وحيث يتجول مع بطله في محلات بغدادية عتيقة منها سوق الشورجة ، وساحة غازي ، وحي قنبر علي ، ومنطقة البتاوين ، وحي التوراة ، وكنيس حسقيل ، وغيرها من أمكنة بغداد وأحيائها الشهيرة كمنطقتي الصليخ والكرادة وسواهما . كل هذا تحقق في الرواية بسب حرص صاحبها على تقديم رواية في مقدورها إحداث الصدمة المرجوة في القارئ ، الذي سوف يزين له الروائي أيضا حياة سليم عبدالله في مختلف مراحلها المتعاقبة : الموظف في المصرف وعلاقته بساسون الذي يعمل هو الآخر في ذ1ات المكان + افتتاح مكتب للوساطات التجارية بمشاركة صاحبه ساسون + التطور في العمل التجاري وزيادة أرباحهما والخطو في طريق الرأسمال + البدء بارتياد الملاهي الليلية حيث الرقص والغناء والخمرة + مشاركة ساسون في ممارسات الجنس مع عاهرتين إحداهما من المسلمات والأخرى أرمنية كما يقول الروائي في اللتعريف بهما + العلاقة بابنة الجيران والزنا بها بموافقتها وهي التي سرعان ما يعلم سليم عبدالله بأنها يهودية مثله + مصاحبة فريدة إلى الملهى حيث تعمل كمغنية وبداية التنازل التدريجي عن أدق تفاصيل الشرف والكرامة حتى + محاكمته بتهمة الوقوف وراء جريمة قتل ساسون شريكه وزوج أخته نجيبة + دخوله السجن بالتهمة ذاتها والحكم عليه بالمؤبد + قيام فريدة بتدبير أمر تهريبه من السجن أولا وتهريبه من العراق لاحقا .. إلخ.

 فإذا كان الغوريلا في ( كوكب القرود ) لبيير بول قد قتل أخاه القرد من أجل أنثى ، فإن اليهودي سليم عبدالله دفع باتجاه قتل يهودي آخر هو ساسون شريكه في التجارة وزوج أخته والأخ في الديانة أيضا ، وذلك بعد أن رأى أنه ينافسه ، وأنه قد دخل بيته في غيابه حيث رآهما وحدهما : هو وفريدة العشيقة التي لم يكن يتردد في الاعتقاد بأنها يمكن أن تعطيه جسدها مثلما أعطته للمسلم جواد هاشم . وهنا نتبين واحدا من جوانب انعدام الدافع الأخلاقي ، الذي يتمثل بالقتل من أجل أنثى ليست زوجة وإنما عاهرة تمنح جسدها لمن يطلبه . إنه القتل على طريقة الغوريلا ، خصوصا وأن القارئ يعرف تاريخ الاثنين الجنسي ، الذي من بين علامات فقدان الدافع الأخلاقي فيه ، الاذعان للشهوة الجنسية ، وجعلها الدافع الأساسي في حياة كل من الاثنين ، وفي حياة كل من سليم وساسون ، بدلالة قيامهما بممارسة الجنس مع عاهرة واحدة أولا هي نورية ، بدون وازع من خجل أو حياء .

 صحيح أنه من بين أبرز حقوق الشخصيات كمخلوقات يوجدها الروائي امتلاكها حريتها في الرواية ، والتصرف على وفق ما تقرره هي وليس على وفق ما يرسمه لها كخالق يوجدها فوق ورق الكتابة ، إلا أن هذه الحرية في الحدود التي تحتمها رسالة الأدب الأخلاقية ذات المضمون الاجتماعي البناء لها شروطها ومواصفاتها ، التي من شأنها إذا ما وضعنا ما يسمى بأفق انتظار المتلقي للأثر الأدبي أيا كان جنسه في الحسبان ، أن تعمل على الارتقاء ليس فقط بوعي المتلقي وتنمية قدرته على التلقي وتذوق الجمال في الأدب ، وإنما الارتقاء به كمخلوق بشري ملتزم بأفق اجتماعي ذي طابع أخلاقي من شأنه العمل مع الآخرين لإيجاد منظومة اجتماعية يمكنه الاحتماء بها والعيش في داخلها في اطمئنان ووئام . إنها أيضا مهمة مساعدة القارئ التي على الروائي العمل من أجلها لاكتشاف نفسه ، فإما أن يجدها في حالة رواية فريدة في شخصية سليم عبدالله أو ساسون قره غولي أو جواد هاشم مدير الشرطة ، أو في غيرهم من الشخصيات التي لا وجود لها في الرواية وبين أسطرها ، أي في منأى عن ممارسة الجنس المحرم واحتساء الخمرة والسهر في الملاهي وغيرها من الأمكنة التي تتزايد فيها الخطايا .

 إننا نعرف بأنه في مقدور الرواية بصرف النظر عن بلدها والكاتب الذي وضعها ، أن تكون انعكاسا لتجربة إنسانية ، تمثلها شخصيات وأحداث بعينها . والروائي عادة يرسم الطريق التي سيدفع القارئ إليها ، لكي يكون في مقدوره هو الآخر القيام بعملية التخيل كمثل الروائي وإن بدرجة أقل وبكيفية مختلفة ، مما يكون من شأنه لحاقه بهذه الشخصية أو تلك مما تنال إعجاب الواحد منا . إنها نفسها التي تسمى أحيانا مسألة الفرض بالقوة التي تجبر القراء على الاستسلام لأطروحة فكرية بعينها ، أو لسلوك ما ، تقوم به إحدى الشخصيات ، وبما يعني في المحصلة الأخيرة الاذعان لرغبات الروائي، الذي نراه في حالة نعيم قطان لا تصطدم حريته بحرية شخصيات روايته اليهودية منها على وجه الخصوص ، التي هي شخصيات منفلتة عن واقعها ، وإنما هي تتلاقح معها ، وبما يوهم القارئ بأنه أمام سيرة ذاتية ، غاية الروائي منها إيقاع المتلقي في ذات الأنشوطة التي يكون قد أعدّها لوضع رقبة سليم عبدالله ابن ملته فيها ، ونحن نراه يتنازل عن مختلف معايير الشرف والكرامة والعفة ، وحتى عن معشوقته اليهودية ، وعن حلمه في الجاه والثروة ، في مقابل الهجرة إلى فلسطين والمشاركة في بناء الدولة اليهودية فيها على أنقاض أهلها الفلسطينيين وكما يصرح بهذا أمام فريدة في لحظات استعداده للهرب خارج العراق . كل هذا يحدث في الرواية ، وإذا العلماني نعيم قطان لا تهمه مسألة التحايل الآثم الذي من الدالات إليه تسميته الجنس المحرم حبا ، والخمرة مشروبا روحيا، وسوى ذلك مما دفع سليم إلى التحول من موظف بسيط في مصرف ، إلى آخر يمارس الزنا ، ويتحول إلى قواد في مرحلة لاحقة من حياته التي يزينها الروائي للقارئ الذي إن لم يكن ممن يمتلكون الحصانة لا بدّ أن يرى في سليم ضالته المنشودة . إن هذا القواد المدعو سليم عبدالله هو نفسه الذي يقبل بأن يشاركه جواد هاشم جسد حبيبته التي طالما تغنى بجمالها وبحبه لها ورغبته بالزواج منها ، حتى وإن كان يعرف انه فض غشاء بكارتها بالحرام وليس على وفق التعاليم اليهودية كما يحدث في عمليات الزواج . صحيح أن سليم ومثله فريدة يبرران كل ما سبق على وفق مقولة النية الحسنة التي يشيع استخدامها بين جميع من هم كمثلهما في الحياة ، إلا أن دعوى هذه النية كما يقول الكتاب المقدس لا تبرر الحرام حتى لو كانت هذه النوايا حسنة . ومثل هذا أيضا ، فإن الحرام حرام - كمثل الزنا والخمرة في الكتاب المقدس - مهما حسنت نية فاعله - كمثل من يسرق ليطعم أطفاله ، أو كمثل من تقبل بالزنا من أجل المحافظة على حياتها . وهكذا فإن هدف الهرب من السجن والخروج من العراق والمشاركة في تأسيس الدولة اليهودية، جميعها لا تبرر الوسيلة التي سلكها كل من سليم وفريدة : هو بالزنا بها والموافقة على اقتسامها مع جواد ، وهي بموافقتها على الزنا بها وإعطاء جسدها لكل من سليم وجواد بالتتابع الذي يزيد الخطيئة ولا يمسحها . بل ويمكننا القول بأنه لو كان في الرواية ثمة أي دافع أخلاقي مهما كان ضئيلا ، فإن نعيم قطان ما كان ليترك سليم يقبل بعلاقة جنسية يقيمها هكذا إذعانا لشهوته مع فريدة ، وقبلها مع أرمنية زمسلمة ، إلا إذا كان قد حصل على فتوى من أحد حاخامات الديانة تجيز لليهودي الذي هو سليم الزنا باليهودية التي هي فريدة ، وهذا ما نظنه بدالة ما نراه في نشيد الانشاد ( إني نائمة وظبيي مستيقظ . إذا بصوت حبيبي قارعا أن افتحي لي يا أختي يا خليلتي يا حمامتي يا كاملتي ، فإن رأسي قد امتلأ من الندى ، وغدائري من قطار الليل . قد نزعت قميصي ، فكيف ألبسه . قد غسلت رجلي فكيف أوسخهما (6) ، و ( من لي بك كأخ لي قد رضع ثدي أمي فأجدك في الخارج وأقبلك بغير أن يلحقني دم . ثم آخذك وأدخل بك بيت أمي تعلمني وانا أسقيك الخمر المطيبة وعصير رماني ، شماله تحت رأسي وعينه تعانقني . أستحلفكن يا بنات أورشليم أن لا تنهضن ولا تنبّهن الحبيبة حتى تشاء (7) .

 كنا قبل قليل قد أشرنا في عجلة إلى حريتين : حرية المؤلف وحرية الشخصيات . وألمحنا إلى أن أيا من أشكال التصادم بين هاتين الحريتين في الرواية لم يحدث . وهذه مسألة في غاية الأهمية إذ أنها تشير إلى أن نعيم قطان الروائي اليهودي الذي هاجر من العراق إلى كندا ، لم يمنح الموافقة لبطله سليم عبدالله بأن يحذو حذوه ، فيهاجر إلى أوروبا بدل فلسطين – أرض الميعاد ، وذلك لاعتقاد الاثنين : المؤلف والشخصية التي يتعهدها برعايته ، بأن الوطن التوراتي الموعود في فلسطين حقيقة وليس مجرد بناء ذهني حتى لو كان نعيم قد هاجر بمفرده إلى أوروبا . هذا يعني إيمانهما المشترك بالوطن الموعود الذي عليهما المشاركة في بنائه ، الأول – المؤلف من خلال دفع بطل روايته للهجرة إلى فلسطين ، والثاني – البطل من خلال الاذعان لخالقه فوق الورق الذي لم يشأ الاصطدام به ولو لمرة واحدة .

 إننا عند الحديث عن أية رواية ، يجب أن نعرف بأن أبطال الروايات ، إنما يولدون نتيجة تزاوج كما يقول فرانسوا مورياك . وهو تزاوج يعقده الروائي مع الواقع (8) .وهذا الذي يسميه مورياك بالتزاوج ، هو ما جعل سليم عبدالله يتحول من يهودي له حياته الخاصة البسيطة كموظف صغير في مصرف ، إلى ممثل للمؤلف وناطق باسمه ، وإن بدا من خطاب السرد عكس هذا . لقد صاغ قطان بطله على وفق قاعدة الانصياع الكامل لما يريده منه كخالق له . وعند النظر إلى الأعماق وعدم الاكتفاء برؤية الظاهر، نرى كيف تتم عملية تحويل سليم إلى مجرد جثة لا حول لها ولا قوة . وهي جثة فرويدية النزعة ، قوامها الاذعان للجنس كدافع وغريزة أساسية في الحياة ، وهذا ما سيتقدس كممارسة يهودية من بوابته يتحق انتقال الشخصية من هامشية ربما في الحياة ، إلى شخصية تؤمن بالدولة اليهودية وتسعى من أجل المشاركة في بنائها ، وهذه غاية المتخفي وراء قضيب شهوة سليم وساسون وجواد وهو يحرك هذه الشخصيات على هواه .

 لربما يعترض أحد هنا فيقول بأن أي روائي إنما يجب عليه إيجاد الشخصيات وإطلاقها إلى الميدان الذي تتحرك فيه ، إلا أن الواقع يفيد أيضا بأنه إنما على الروائي في الوقت ذاته أن يحمّلها مسؤولية القيام بمهمة ما ، نختلف معها حولها او قد نتفق . هكذا فقد حوّل نعيم قطان بطله سليم إلى كبش فداء يرتكب مختلف الخطايا التي لا يقبل اليهودي المتدين – أليس الدين هو اساس بناء الدولة اليهودية الموعودة توراتيا؟ - القيام بها . على أننا لسنا هنا بصدد القول بوجوب ان يكون احد نصفي البطل سليم عبدالله من الآلهة التي لا تخطئ ، ولكننا في هذه المقالة بصدد البحث عما قلنا أنه الدافع الأخلاقي المفقود في الرواية ، على اعتبار أن الأسئلة التي على الرواية عموما الاجابة عليها إنما يجب أن تكون أسئلة أخلاقية وميتافيزيقية . إي إنها اسئلة حول الوجود وكيفية العيش في مجتمع عقلاني تعتدل الشهوات فيه ، والنزوات ، واتجاهات الفرد في السلوك الذي يمارسه ، لكي يبقى ميزانسين الوجود في حالة من الاتزان خارقة ، وإلا فإنه الانهيار بانتظار المجتمع ، أي مجتمع أفراده كمثل سليم وساسون وجواد وفريدة ونورية ، وهو ما نراه في نهاية العلاقة بين فريدة التي أصبحت تمنح فرجها وفتحة شهوتها لهذا الرجل ولذاك ، وبين سليم الذي قبل بان يكون قوادا ، وهو ما يجعلنا نقول بأن ما يتأسس على الخطيئة لا بدّ ان تكون نهايته الانهيار ، أو كما يقول المزمور الأول ( لا تضلوا فإن المعاشرات الردية تفسد الأخلاق الجيدة ) .

 إن ما فعله سليم مع فريدة وغيرها من المومسات آنذاك ، وموافقة نعيم قطان بل ومباركته هذا الفعل – الأفعال جميعها ، إنما يأتي إيمانا بما في التلمود الذي يرى بأن كل ذنب يغفر للانسان إذا بقي متمسكا بيهوديته بشدة وإخلاص . وإذا كان إيمان سليم اليهودي الذي سوف يدفعه للهجرة إلى فلسطين سوف يمنحه صك البراءة المتوقعة ، فإن فريدة اليهودية هي الأخرى ستنال صك براءتها ، لأنها في كل ما فعلته ، حتى في علاقتها الجنسية بواحد من الأغيار – جواد هاشم لم تنس الديانة اليهودية التي دفعتها لتهريب سليم مرتين : واحدة من السجن والحكم بالمؤبد ، وثانية بتهريبه خارج العراق. لربما يعتقد بعضنا أخيرا بأن هذه الرواية التي بلا دافع أخلاقي تتصادم مع ما في الديانة التليدة من التعاليم ، إلا أن ما في التلمود الذي هو كتاب تفسير الشرائع الكثير مما يبيح كل ما سبقت الاشارة إليه ، وهل ثمة ما هو أشدّ صراحة ووضوحا من تلك القصة التي يرويها التلمود عن الرباني أليعازر الذي لم يترك امرأة من غير أن يضاجعها ؟ وأليعازر الذي دخل الحياة الأبدية كما يقرر التلمود ، هو نفسه الذي عندما وصله خبر تلك المرأة التي تطلب صندوقا من الذهب للموافقة على مضاجعتها ، حمل الصندوق وذهب إليها ، قاطعا سبعة أنهر في صريح عبارة التلمود .

 في هذه الرواية يقدم نعيم قطان أخيرا رواية إباحية مع سبق الاصرار . وهنا فإن ما يختفي تحت الظاهر من السرد ، سوف يطفو ويظهر إلى العلن ، وسيكتشف المتلقي بأن الروائي إنما يحاول التخفي وراء قناع الحيادية الكاذبة والعلمانية غير الواضحة . لقد كانت علاقة سليم بفريدة بالشكل الذي رأيناها فيه ، نوعا من زواج المتعة ، سارا فيه على خطوات الرابي نشمال ، والرابي راب ، اللذين كانا يناديان جهارا في كل مدينة ينزلان فيها ولا يجدان اهما امرأة ، من من النساء تريد أن تكون امرأة لهما لبضعة أيام ...

               

الهوامش :

(1)             نعيم قطان ، فريدة( رواية) ، ترجمة ، آدم فتحي ، دار الجمل ، كولونيا 2006

(2)             نعيم قطان ، الواقعي والمسرحي ، ترجمة صباح الخراط ، دار الجمل 1997

(3)             جودت السعد ، الرموز العنصرية في الأدب الصهيوني ، دار الجاحظ ،2000، إربد

(4)             هذه المعلومات أخذت عبر الانترنت

(5)             مختارات من القصة العبرية ، دار الجليل للنشر 1998، عمان

(6)             نشيد الانشاد – الفصل الخامس 2-3

(7)             نشيد الانشاد – الفصل الثامن 1-4

(8)             فرانسوا مورياك ، الروائي وشخوصه ، ترجمة علاء شطنان التميمي، دار المأمون للترجمة والنشر ، (بدون سنة طبع ) بغداد