زمن الشعر وزمن الرواية

د. وليد قصاب - كاتب سوري

يأخذ المرء كثير من العجب لهذا الابتذال المريع الذي يتعرض له الشعر – فن العربية الأكبر- بل قل لهذه الاستباحة التي لا مثيل لها، حتى كأنه لقيط لا آباء له ولا أجداد، أو هجين واغل لا نسب له ولا أعراق.

ومن العجب – في مقابل ذلك - ألا تجد هذا الانتهاك يطول فنوناً أدبية أخرى قد لا يكون لها في نفس الإنسان العربي من العراقة والرسوخ والتاريخ مثل ما للشعر، وأقصد الرواية والمسرحية والقصة مثلاً.

إن ضرباً من التحديات اللاواعي قد طال جميع فنون القول، فأفسد قليلاً أو كثيراً من صفائها وجاذبية وجهها، طال القصة والمسرحية فدخلهما العبث واللامعقول وغير ذلك من (تقليعات) مستهجنة، ولكن الذي نال الشعر العربي الحديث من التخريب والانتهاك أكثر بكثير.

إن ما يكتب اليوم مما يدعى شعراً لا يمت إلى الشعر العربي الأصيل الذي نعرفه بأية رابطة قربى، إنه منبت عنه انبتاتاً كاملاً، حتى كأنه دعي يأتي من كوكب آخر، أو غريب ينحدر من عالم آخر غير عالم العربية.

ثم يكون العجب الأكبر عندما نجد قوماً من نقادنا وباحثينا يحاسبون ذلك الشامخ الأصيل إلى هذا الأشوه الهجين في محاولة لتغييب الأول، وبسط هيمنة الثاني وتسويده.

وفي ظل هذا الترويج المحموم لسيادة هجين الشعر ومستورده تطلع علينا مقولة تدعي أن عصر الشعر قد انتهى، وأن هذا عصر الرواية.

يقول جابر عصفور في كتابه زمن الرواية: "أصبحنا – نحن النقاد - نصف زمننا العربي إبداعياً بأنه زمن الرواية، ويتحدث بعضنا عن الرواية العربية بوصفها ديوان العرب المحدثين".

وينقل عن نجيب محفوظ قوله: "لقد ساد الشعر في عصور الفطرة والأساطير، أما هذا العصر – عصر العلم والصناعة والحقائق - فيحتاج حتماً لفن جديد، يوفق – على قدر الطاقة - بين شغف الإنسان الحديث بالحقائق وحنانه القديم إلى الخيال. وقد وجد بغيته في القصة.. فالقصة – على هذا الرأي - هي شعر الدنيا الحديثة".

وعلى ما في هذه الآراء من حق وباطل، وكلام قابل للأخذ والرد مما لا مجال للتوقف عنده في هذه العجالة، فإن الذي لا شك فيه أن الترويج لهذا الهذيان الذي ينشر في هذه الأيام، وتسميته – من غير تحشم ولا وقار- شعراً، يسهم كل الإسهام في تقبل فكرة انتهاء زمن الشعر، وسيادة زمن غيره من الفنون التي هي أكثر موضوعية وجدوى..

وبالنسبة للمتلقي العربي – على وجه الخصوص - لا تعد خسارة هذا الذي يقدم إليه اليوم على أنه شعر خسارة فادحة أو مفجعة، لأنه إذا كان الشعر هو هذا الغناء المنتشر فهو غير محزون عليه، ولا مكلوم لفقده، فمن ذا الذي يأسف لموت الزمني والمشوهين؟

إن شعراً من قبيل ما هو شائع ذائع في هذه الأيام لحقيق ألا يكون فن العرب الأكبر ولا الأصغر، بل لحقيق أن يبرأ منه الجميع، وأن يتنكروا له، ولا يهمهم أن تسوده الرواية، أو تعلوه المسرحية، أو تزاحمه القصة والمسلسلة، أو أن يعلن عن موته وتشييع جنازته.. فهو في الأصل كائن مشوه غير حي.

ولكن صورة الشعر العربي الذي يهز الأفئدة والمشاعر ليست هكذا.. وعندئذ لا يمكن أن تزيحه الرواية، بل لكل منهما دور لا يؤديه الآخر.