محبرة الخليقة (26)

تحليل ديوان "المحبرة" للمبدع "جوزف حرب"

د. حسين سرمك حسن

ملاحظة : حلقات من كتاب للكاتب سوف يصدر عن دار ضفاف (الشارقة/بغداد) قريباً . 

.. لقد بُنيت كنيسة الله بالخطايا كما يصرخ جوزف حرب :

(                 في سلطةِ النساءِ

                  كان العهرُ طقساً ، ومقدّس ْ .

                  في سلطةِ الآباءِ

                  صار الغهرُ عاراً ،

                                       وجريمهْ .

                  ورغم

                  أنّ العاهرهْ

                  تُحرقُ ، أو تُذبحُ ،

                  كانت سلطةُ الكنيسهْ

                  ترى إلى البغاءِ أنهُ يدرُّ المالَ . (...)

                  أيّتها الرعايا

                  لقد بنتْ كنيسةَ الله

                            الخطايا . – ص 527 – 529) . وراجع أيضاً نصّ "ذهب العاشق" (ص 523 – 525) ،

صار الحب سُبّة .. وبعد أن كانت الإلهة الأم تتفاخر بعشّاقها ، وتتحدث بصراحة عن تفاصيل مواقعة حبيبها لها ، وكيف ضاجعها خمسين مرة ، صار الإله الأب يتحسّب ويتوجّس ، ويخشى المراقبة وهو يختلي بالإلهة . كانت المواقعة بين الإلهة العشتارية الأم وحبيبها تمثل لحظة فائقة تتدفق منها أحاسيس الديمومة والخلود لتغمر الكون والطبيعة ، وتنسرب موجاتها في فيوض منعشة من أرواح الخصب ، ومن نفثات المياه التي تفيض من المعبد لتغمر الأرض العطشى . أمّا في ظل السلطة البطريركية الخانقة ، فقد صارت هذه العلاقة الكونية علاقة "خاصة" تبغي تحقيق الإشباع الفردي ، وكفاية الدوافع التملكية الأنانية . وفي الوقت الذي كانت الطبيعة ، بكل مفرداتها ، تحتفي بوصال الإلهة بحبيبها ، بل حتى بفعاليات جسدها المجرّدة المنعمة ، صارت تنقم على هذه العملية الضرورية لنمائها ، وتنزل اللعنات ، وتحرق الموجودات :

(                  زفسْ

                   الإلهْ

                   فتنتهُ

                             هيرا

                             الإلههْ .

                             تعاشقا ،

                             تعانقا . (...)

                             خافا

                             على حبّهما .

                                            فخبّآهُ في غمامٍ ذهبيٍّ

                صار سقفاً لهما . وأبعدا الريحَ فلا يُصابُ مرةً

                                                              بلمسْ ،

                             ولا ترى

                                          عُريهما

                             عند العناقِ الشمسْ ،

                             فتلعنَ

                             الترابْ ،

                             وتُحرقَ

                             السحابْ ،

                             ويملأَ الأرضَ

                                 الخرابْ . – ص 511- 513) (نصّ "السقف") .

هذه "العفّة" المفرطة نتاج النزوع التملّكي الذكوري المشحن بعصابية القلق من ضعف الطاقات الإخصابية ، ومن اتجاهات ولاءات الإلهة الأم لأبنائها أولاً – الزوج عابر في حياتها وهي مشاعة لكل الابناء – وحسّها الفطري الذي يجعلها منسجمة مع ذاتها ومع الطبيعة ، وهو الأمر الطاريء على السلوك الكوني الذكوري . وللولاء الأمومي المشاع للأبناء يمكن أن نردّ جانباً من دوافع البغاء المقدّس الذي استمرت بعض أشكاله حتى في ظل اقسى العقوبات الذكورية كالحرق مثلا . الذكر نفسه يعلم أن المرأة ليست بحاجة إلى إثباتات خصوبة ، وأنه هو المطالب بأن يثبت قدرته على الإخصاب . المرأة يمكن أن تتخصب من أي رجل وتحت أي ظرف ، بالفطرة هي أرض معطاء تلد الكل ويمشي عليها الكل ويعود إليها الكل . وهذا ما عجز الذكر أن يستلب – أو يكتسب - تعبيراته الرمزية - ناهيك عن اصطناع وعابرية الفعلية منها - حتى يومنا هذا . ولهذا كانت الآلهة الذكورية بحاجة دائما إلى الفعل الإخصابي الكوني للأنثى ولتعبيراته اللاهوتية ومنها : البغاء المقدّس . ولهذا تحتاج قصيدة الشاعر "قبل" إلى تأمل خاص ، فقد تحدّث فيها عن المشاعية التي طبعت الحياة الجنسية والإجتماعية للنساء قبل مجيء الأنبياء والرسل ، وقبل ظهور ديانة الرجل . لم يكن هناك حرام ، ولا خجل ، لا غيرة ولا ملكية ولا سلطة أب . وكانت للنساء طقوس تهتّك مشهودة تجري في المعابد يستقبلن فيها كل أنواع الرجال : الأحرار والعبيد ، السقاّء والصيّاد والفلاح .. فإذا لم يتوفّر أحد من هؤلاء دعون الكهّان . ثم يضع الشاعر ملاحظة توضيحية يختم بها نصّه :

(ملاحظة : يُقالُ : هذا ليسَ عهراً

                 إنّه الإنسانُ في عمائه البدئيّْ

                 مشاركاً

                 في خصبه الكونيّْ – ص 534) .

هذا الإختلاط التهتكي يراه بعض المحللين تعبيراً عن حقيقة راسخة في الوجدان الجمعي اللاشعوري وهي أن أمنا الأولى هي الأرض ، وهي الغمر العظيم Chaos الذي أنجبنا وأنجب الكون كلّه بكل موجوداته ، وما طقوس التهتك والإختلاطات المفتوحة التي يشهدها البغاء المقدّس إلا عملية خلط لكل الموجودات الحيّة .. أي أنها عودة إلى حالة الغمر والسديم الأولى حيث الموجودات متساوية في لحظة صفر الشروع .. بلا مراتب ولا طبقات .. وحيث يعود الأبناء إلى أمّهاتهم الحانيات . ومن الضروري أن تتوفّر وسائل تشعل الإنفعال والحاجة إلى الإلتحام في روح الأم الكبرى التي هي مومس في وجهها اللاشعوري . فالوجه الطاهر والوجه المدنّس هما وجهان متكاملان لعملة الأمومة في لاشعور الإبن .. إنهما فسيلتان منفصلتان في الخارج ، ولكنّهما ملتحمتان في أعماق اللاّشعور . والإثارة الجنسية المسعورة التي كانت تجري في تلك الحفلات هدفها إنعاش الخصوبة العامة ، وتجاوز الشرط البشري للإلتحام بالمطلق . وإذا كنّا قد تحدّثنا عن أن أغلب معاني أسماء الآلهة الذكورية كانت مرتبطة بالقضيب وبالإنتصاب ، فإن أسماء إلاهات الخصب ترتبط بالمقابل بالخصوبة ورموزها ، فكلمة أفروديت تعني البطن ، وإسم عشتار – كما قلنا – يعني الرحم . والجذر السامي Q.D.SH "مقدّس" هو على الأخص عبارة تعني الخصوبة وبصورة خاصة أكثر الرحم : "قدس الأقداس" في المرأة ، والمعبد الداخلي من الهيكل . وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ كلمة زانية في العبرية وردت بلفظتين أولاهما "زنى" وهو المعنى المعروف والثانية هي "قدش" وهو المعنى الديني القديم للمقدّس قبل أن يختلط المفهومان في العقائد العبرية (52) .

فالمشاركة الجنسية هي مشاركة في الخصوبة الكونية . إنها خصوبة إلهية ، فالجنس سرّ ، خبز وخمر المؤمنين بالحب .... وفي أغلب الحضارات كانت البغايا يسمّين قدّيسات أو طاهرات وإلهيات .. إلخ . ووظيفتهنّ كانت مشايهة لوظيفة "المشاركة القربانية" حيث كانت تسمح للرجل بالحصول على "التماس الإختباري مع الألوهة" . وإذا كان بعض الباحثين "النباتيين" يرى أن المشاركة الحاصلة مع الألوهة يمكن أن تكون ايضاً مبتعدة عن الحساسية الجنسية ابتعاد تناول القربان المقدس عن الشره ، فإن أغلب الباحثين لا يتردّدون في القول بأن هناك إشباع جنسي ، وأن هناك تمجيد للجنس هو أيضاً تمجيد روحي ، وأن الجسد يجد في ذاته كل عناصر تجلّيه . فالإنسان الذي كان يشارك هكذا في الجنس كان يجمع أصول الحياة ووحدة التجسيد ؛ فالبغي ، بالنسبة لها ، كانت تضاهي نفسها بالحي حيث كانت ترمز في آن واحد للجاهزية والقبول .

ومن المهم القول أن من الصعب حتى على علم النفس التقليدي فهم المعاني السامية التي تتحدّث بها الأساطير عن البغايا المقدّسات . فعلم النفس من جانبه أيضاً أفسد الكثير من جماليات السلوك البشري وألغازه اللاهوتية العميقة . إنه هنا مثلا يحسب البغي إنسانة مصابة بسوء التكيّف ، ويفسّر سلوكها كاضطراب جنسي سلوكي . إن علم النفس هذا الذي يخفي مقاصده الإخفاقية خلف لغة شبه علمية يصف بعدم التحضّر النساء اللواتي لديهن قابلية يمكن التنبؤ بها . ومن المؤكد أن ما قدمناه من تفسير يذهب بعيداً جداً ، لكن من سوف يمتنع عن التساؤل رغم كل شيء فيما إذا لم يكن البغاء حالة نسوية بشكل ظاهر . أفلم يصبح ، صدفة الإلهام الحقيقي للمرأة كأمل عميق للنوع ؟ أليست البغي تعبّر عن أمل النساء السرّي بكونهنّ "مشغولات بالتكاثر" ؟ (53) .

ومع إتساع وتمكّن السلطة الذكورية الأبوية تحوّل أيضاً مفهوم البعث والقيامة والحياة الآخرة جذرياً . ففي ظلّ الحضارة الأمومية كانت القناعة راسخة في أنّ الكائن لا يفنى .. وأنّنا نبدأ من التراب (الأرض الأم) وإلى التراب نعود .. نبدأ من الرحم الأمومي وإليه نعود . وقد يفسّر هذا عادة الإنسان القديم في دفن موتاه في جرار فخارية وهم في وضع جنيني . لم يكن ممكناً تصوّر الموت كفناء نهائي لا عودة منه . أي أمّ تتحمل هذا الفرض ؟  فكان واحداً من الحلول أن يُعتقد بفناء الجسد لانه يتفسخ أمام الأنظار ، وبوجود روح نقيّة هي تلك الروح التي خصّبت الأم ، تعود لتولد من جديد أو تتلبّس جسداً ماديّاً آخر .. أي أن الأرواح يمكن نقلها من كائن إلى آخر "فكرة التناسخ" . وهذا ما كان يمكن أن يقتنع به الإنسان القديم ببساطة وهو يلتحم بتحوّلات الطبيعة ، ويجد أنّ زخّة مطر واحدة تنبثق بعدها كل مظاهر الحياة من الأرض ، وكيف أن روحاً واحدة هي روح الأم الكبرى ما هي إلا جوهر لتمظهرات الحياة الكونية باختلاف أنواعها . ولهذا :

(                     ليس الموتُ سوى أن نتحوّلَ ، أن

      نتداخلَ ، أو نتذاوبَ ، في خلق الأشياءِ الأخرى . إنّي

      في العشبةِ ، والعصفورِ ، وسنبلةِ القمحِ ،

                                فمن يفنى جسدهْ ،

                                ليس يموتُ

                                ولكن تجدهْ 

                                حيّاً في أجسادٍ أخرى

                                ذاتِ سنينْ

                                ملأى أشواقاً

                                وحنينْ .

                                فإذا ما دُفنتْ أجساد الموتى

                                فلتُدفن في شكل جنين . – ص 539) (نصّ "لا موت") .

ولكن الطغيان الذكوري المنهوس بالقدرة الجنسية ، وبإمكانات قضيبه المهدّدة ، جسّد القيامة والإنبعاث بقابلية قضيبه على الإنتصاب والإنتعاض . لقد صارت الرمزية الجنسية الكونية لجسد الأنثى التي كانت تفيض من الذات على حركة الحياة وتحوّلات الوجود ، رمزية مرتدّة تريد تلخيص الكون والوجود في حدود الذات ، ومن الذات في عضو محدّد منها هو القضيب (راجع نصّ "القيامة" -  ص 540 و541) .

وفي أطول نصوص هذا القسم وهو "الجناحان" ، كان بإمكان الشاعر تصوير تلك اللحظة التكوينية البدئية للإنسان – أو لشكل من أشكاله – من دون أن "يخصّصها" بالإشارة إلى الإله الأغريقي "زفس" أو "زوش" . بلا هذا التخصيص كان من الممكن أن يتيح لنا فرصة مراجعة النص كـ "أسطورة" خاصّة بالنص نفسه لنفتش عن دلالاته العميقة من دون إحالات مسبقة . ولكن لاحظ كيف أن إحالة إلى "إسم" واحد في النص قد غيّرت الكثير من أطر استجابتك لمؤثراته وموجّهاته ، فكيف بمن يريد فصل النص عن أية مرجعية تاريخية أو اجتماعية مثلاً ؟ :

(                 كانا معاً

                  ذكراً وأنثى

                  كانا بشكلٍ

                  دائريٍّ

                  كُرويّ .

                  من الشمس والأرض جاءا . وكانا

  كتدويرة الشمس والأرض .

                  ملتصقانِ معاً ،

                  فهما واحدٌ . (...)

                  زوش الذي كان قد وُلدا منهُ ..

                  سلّطَ سيفاً من البرقِ

                  فانشطرا . – ص 542 و543) .