رواية قصبة الذئب للمبدع محمد بنعبود

خالد البقالي القاسمي

رواية قصبة الذئب للمبدع محمد بنعبود

"في حب الحكي"

خالد البقالي القاسمي

كاتب وناقد من المغرب

" قصبة الذئب " هي الرواية الجميلة التي صدرت للمبدع والمترجم المحترف الأستاذ " محمد بنعبود " عن منشورات اتحاد كتاب المغرب سنة 2013، وقد صدرت الرواية عن مطبعة " عكاظ " الجديدة بمدينة الرباط، الرواية من القطع المتوسط وتشغل حيزا ورقيا يبلغ مائة وستا وعشرين صفحة.

 كان المبدع مصيبا للغاية في عملية توظيفه للزمان والمكان والمزج بينهما لإنجاز روايته التي اختار لها اسم " قصبة الذئب "، وتعني القصبة بسكون الصاد الخصلة الملتوية في أعلى شعر الرأس، والقصبة بفتح الصاد هي مجموعة سكنية في حي من أحياء المدينة يحيط بها سور، والقصبة من البلاد مدينتها، والقصبة أي القصر، والقصبة جوف الحصن، قصبة الذئب تحيل في الرواية على مكان خاص: " أما وصلك الخبر؟ عبد الله بلفقيه عاد إلى المدشر، سكن بيته الجديد في جبل قصبة الذئب واعتزلنا " ص.10، لم يقدم لنا السارد أي تفسير مفيد أو مقنع عن معنى قصبة الذئب في مجريات الرواية، وهذه الصيغة لها تأثير حاسم في مجريات تشكيل العالم الخاص للرواية، فما نستفيده من النص أعلاه هو أن قصبة الذئب مكان قصي بعيد يوجد في جبل وتحيط به جبال مشرفة على المدشر، والنتيجة هي أن السكن بهذا الموقع عبارة عن عزلة، لذلك يبدو أن في الأمر خيارا مقصودا حيث آثر عبد الله بلفقيه وهو من شخصيات الرواية ومن أهل قرية " المشارفة " العائدين إلى حضنها السكن بعيدا عن الناس، ربما لتجنب فضول البدويين الذي لا يفتر ولا يهمد، وربما لأسباب خاصة لم يعلن عنها أو لم يرد أن يفصح عنها السارد بوضوح رغم أنه لمح إليها عدة مرات، وهو كذلك يبدو مثلنا متتبعا باشتياق لأخبار عبد الله بلفقيه الغامضة: " لم أدر كم من الاحتمالات تناوبت على ذهني كالبرق، وأنا أتصوره في بيته الجديد المعلق في الجبل كما وصف لي، معتزلا الناس، يدخن بشراهة، ويقضي يومه ممددا قبالة نافذة الزجاج الكبيرة، متأملا حالته في صفيح بيوتات المداشر على مرمى البصر، وقد رصعت بها الجبال أمامه " ص.11.

 وقد عمد المبدع إلى توظيف المدينة والقرية في روايته، مدينة تطوان كأفق إبداعي حيث يدون المبدع مرة أخرى مثله مثل كثير من المبدعين قبله اسمه في عملية تشييد التراكم الحاصل حول اعتماد مدينة تطوان روائيا ضمن أعمال متعددة لمبدعي المدينة والجهة، يضيف الكاتب إلى عمقه المكاني في مدينة تطوان لمسات خاصة وزيارات خاطفة لمدينة طنجة، مع الوقوف مطولا وأصالة بقرية المشارفة التي تعد بحق المكان الروائي الأثير للكاتب في هذا العمل رغم صعوبة الطريق التي كانت تصلها بالمدينتين المذكورتين سابقا: " أما الآن فالطريق، وإن كان غير معبد، يصل الطريق الرئيسية الرابطة بين تطوان وطنجة، بعين المدشر، أي مدخله " ص.13، ورغم هذه السهولة المذكورة فإن الطريق يصبح صعبا في بعض الحالات: " ومعنى هذا أن الوصول إلى المشارفة، يعني الاعتماد على الأرجل التي عليها أن تتخبط في الوحل المتبقي، وأن تقاوم الرطوبة المتسللة، وبالتالي البرودة التي لا تكاد تستحملها حتى أرجل البدويين الصلبة الخشنة " ص.96، ذات السارد منشطرة ضمن النص الروائي شطرين، أحد الشطرين متعلق بمدينة تطوان، المكان الأثير الذي سجل عتبة ومدخل الرواية حيث يقطن بطل الحكاية وراويها، مع بعض شظايا الظلال من مدينة طنجة التي استقر بها عبد الله بلفقيه وعمل بها لردح من الزمن قبل أن يعود للاستقرار بمسقط رأسه بقرية أبيه المجاهد مقاوم الاستعمار مصطفى بلفقيه، والشطر الآخر متعلق بقرية "المشارفة" التي شهدت مولد الراوي وارتقاءه في النمو والعلم والانتماء الاجتماعي، لقد ظل الراوي مشدودا إلى مدينة تطوان التي تزوج بها من عائشة ابنة الحاج الأندلسي التاجر المشهور، وتعرف بها على أصدقاء صهره أمثال الحاج الطاهر السفياني والحاج عبد النبي المطالسي، واتخذها مكانا لعمله وسكناه، فكانت هذه المدينة حاملة لكثير من الذكريات العزيزة على نفسه والتي شكلت جزءا غير يسير من عملية السرد الروائي، أما قرية المشارفة فإنها تشكل الأصل والهوية اللذين لا تستطيع ذاته أن تسلو عنهما ولو للحظة، ولذلك فهو يغتنم شتى الفرص للوقوف على أخبارها من صديقه ابن القرية عبد السلام القنفذ، أو من الذين يأتون للتسوق داخل أسواق تطوان من سكان القرية أمثال ولد الكساب، كما أنه يتصيد العطل المدرسية المرحلية لكي يشد الرحال إليها لزيارة عمته العجوز، وللوقوف على أماكن لهوه ولعبه وممارسة هواياته المتعددة خلال زمن ولى مع رفيق صباه عبد الله بلفقيه، وعلى هذا الأساس شيد الراوي وبطل الحكاية معماره المكاني الأثير على قلبه، ودمغه بأبعاده الزمانية التي خولت له إمكانية تخريج عملية سردية جميلة، مثيرة، ورائعة، لقد قدم لنا قرية " المشارفة " عبر الاحتفال السنوي الذي يقيمه سكانها على شرف ذكرى جدهم الأكبر مجسدا في الحلقة الاحتفالية " العمارة " التي تدل على التجمع الكبير والحشد اللافت الذي يحج إليها للمشاركة في فعالياتها، وهي تحتاج إلى رصد انثروبولوجي لمعطياتها المتنوعة والمختلفة والمتمظهرة في الروائح: " قبل العصر بقليل، كان أغلب المنتظرين قد وصلوا. وكانت رائحة طهي وشواء، تنساب مع الرياح القوية قليلا ملتوية عبر المنعرجات والانعطافات التي تؤدي من وإلى الجامع " ص.44، والألوان، والأحاديث، والأطعمة، والألبسة، وحضور الرجال من مدينة تطوان ومدينة طنجة، ودور النساء في تنظيمها وتخليدها طيلة يومين كاملين من كل سنة، وهكذا يصبح الاندماج الاجتماعي ممكنا بسبب موسم " العمارة ".

 انطلاقا من هذه الصيغ التي صادرنا عليها أعلاه نلفي المبدع يمارس لعبة الحكي في النص الروائي من أجل تكثيف الوجود الذي تصنعه شخصيات الرواية عبر الأدوار المرسومة لكل شخصية على حدة، وعبر المسار الذي تحدد انطلاقا من العلاقة الرابطة بين الشخصيات، ونفس الشيئ بالنسبة لبطل الحكاية وراويها، فإن وجوده بين الشخصيات هو الذي يؤسس حقيقته التي تنجلي من هويته الذاتية التي هي حصيلة تفاعل رمزي وفعلي مع الآخرين، وهكذا نراه يحاول باعتباره ساردا أن يجلب لنفسه البراءة عن طريق إقامة فاصل بين كاتب النص وبينه باعتباره بطلا وراويا: " المرجو من القارئ النابه أن ينتبه إلى أنني إنما بطل الحكاية وراويها. أما كاتبها فشخص آخر، وإذن فإن لاحظ القارئ أن أخطاء بالجملة، ومن كل الأنواع، مبثوثة في هذا المكتوب، فليلم الكاتب ويعفيني أنا بوصفي راويا لا دخل لي في نقاء الكتابة، وبه الإعلام والسلام" ص.84، هو إذا بيان واضح يدل على مكر الإبداع والحذر من الكتابة، وإلا فما معنى أن نؤسس لحياة روائية إبداعية يراها البعض غير مكتملة فيلجأ السارد إلى اتخاذ مسافة معها احتياطا وخوفا من الانزلاق نحو الضعف والوهن والرداءة، مع العلم أن الإبداع هذا يتخذ بكل بساطة صيغة الاختلاف والتكرار؟ فهو مختلف حسب القناعات والعوالم الروائية المتنوعة، فيحصل الاختلاف ليس فقط في الأسلوب والرؤية بل وكذلك في اللغة الموظفة، إذ اللغة الروائية ليست لغة الإسفاف أو الانهيار، بل هي لغة البناء والشموخ والكبرياء، ثم إن التكرار يدل أساسا على أن ما أورده المبدع موجود في كل مكان، بمعنى أنه يتكرر في كل رواية، ويبقى الإبداع الحق هو كيف أورده؟ في روايتنا المستهدفة حقق المبدع المغايرة التي تكمن فيها الفنية الواضحة، كان المبدع يريد ليس فقط استنباط المعنى من الأحداث التي قام بسردها بل وكذلك منطق هذا المعنى: " وكي أكون منطقيا مع نفسي، فلا أقتحم ما لا علم لي به، وكي لا أسقط فيما كان يعيرني به بعض الزملاء ممن نلتقي عادة في مكان ما، إذ كانوا يعقبون على تفسير أو تأويل أقوم به: هذا تفسير أدبي... يحسن بك أن تظل في حدودك المرسومة، والعلم له رجاله " ص.84.

 شكلت قرية " المشارفة " المكان المفضل للراوي قصد سرد الأحداث التي ساهمت بتماسكها في تحقيق الانتظام للخط الروائي من خلال استنادها واتكائها إلى طرفي المعادلة المكانية المجسدة في مدينتي تطوان وطنجة عبر التنويع في الإطار الزماني حسب منطق الأحداث والعلاقات المتشابكة بين الشخصيات، وحسب مقتضيات الحكي، وكان الحكي في هذا المجال يرمي إلى تكثيف الوجود، وبقي الحكي السابق عن الاستعمار وأحداث مقاومته بشجاعة وشراسة من طرف مصطفى بلفقيه يخدم بالضرورة السؤال المصوب نحو عبد الله بلفقيه عما يفعله أو يشتغله في طنجة تحديدا، لقد ظل عبد الله بلفقيه يحس بجميع أعين القرويين تحاصره مع عيني صديقه الراوي وهي تستفسر صمتا قاتلا، وتنتظر جوابا شافيا عن نشاطه بطنجة، وعبد الله بلفقيه بدأ يشعر بالحرج والضيق ولم يحر جوابا إلا إخفاء عينيه خلف نظارته التي يحتمي بها من لهيب النظرات الحارقة والثاقبة، فأنقذه استحضار أو تذكر حكي جد مولاي أحمد الراوي عن أيام المقاومة، وعن أيام أبيه المقاوم البطل مصطفى بلفقيه: " لم نصدق في البداية... إلا أن الأسئلة كثرت في الأذهان، وسالت بالمداشر - مع توالي هجماته وانتصاراته الباهرة – الإشاعات، حتى صار مع توالي الأيام، اسم " المصطفى بلفقيه " أسطورة تقارب في غموضها أسطورة دفع جدنا الأول للصخرة بعكازته " ص.40، وقد أكد السي عبد الهادي نفس هذه المحكيات الأسطورية التي كانت تروى عن كفاح ونضال مصطفى بلفقيه ضد الاستعمار الإسباني في شمال المغرب، وكان كل هذا الحكي بمثابة خلاص ومنقذ لعبد الله بلفقيه من أسئلة القرويين الفضولية الملحاحة، خصوصا وأنه عاد من طنجة بعد أن بدا للعيان بأنه جنا ثروة طائلة وقرر أخيرا الاستقرار في مدشره الأصلي، وبالضبط في موقع " قصبة الذئب " الرابض بين الجبال مما يدل على أن لديه ما يخفيه عن غيره، وكان الراوي دائما يركز عينيه على عبد الله بلفقيه لكي يحاول ملاحظة أثر كلام الرواة وهم يحكون سيرة أبيه على سحنته: " كنت أرقب خفية ردود أفعال بلفقيه. كانت نظارتاه تحولان دون رؤية رد الفعل مباشرة في العينين، كان يبدو لي كالذي يعيش لحظة قاسية، كالذي يحيا داخل المشهد المأساوي، والمألوف على ما يبدو للبدويين هنا " ص.47، الراوي هو كذلك فضولي مثل البدويين، فهو بدوي من مدشر " المشارفة "، لقد كان صديقا حميما لعبد الله بلفقيه أيام الصبا والشباب، ولكنه لم يعد يعرفه جيدا اليوم، إنه يتحرق شوقا لمعرفة حقيقته التي يخفيها عن الجميع: " سيطر علي شبح عبد الله بلفقيه، سيطرة كاملة. فبعد أن اختلطت صورته بكل ما رأيته في الطريق إلى المشارفة، أمس، رفقة صديقي العزيز " القنفذ "، عاد الليلة الماضية أيضا ليفرض نفسه خلفية مركزية لكل ما أقوم به" ص.100، ما الذي يخيف بلفقيه؟ ما الذي يخفيه؟ فضول بطل الرواية وراويها فضول مشروع، إنه يؤسس للحكي ويبني عليه، إذ بالحكي تبنى الرواية وتستوي وتستمر فصولها، لقد مات السي عبد الهادي، السي عبد الهادي يحتضر بعد أن أكمل سرد تاريخ المدشر ورجالاته في مواجهة الاستعمار، لقد انتهت مهمة السي عبد الهادي التي حملها للأجيال من بعده، لقد انقطع حكيه، ولذلك كان لا بد أن ينتهي أجله: " قضى السي عبد الهادي يومه ذاك وليلته يحتضر، وظللنا نحن رفقته لا نبرح أمكنتنا إلا لقضاء الحاجة، يأتينا طعامنا حيث نحن، فنصيب منه القليل، لهيبة اللحظة، ونظل نستمع للقرآن يتلى تباعا من قبل فقيه الجامع، ثم من طرف الطلبة والفقهاء الوافدين على مر الوقت من مختلف المداشر القريبة. وعند الفجر، وفي الوقت الذي نظر إلي، على ضوء المصباح الغازي الصغير، وأراد أن يرفع سبابته اليمنى وكأنه يريد أن يشير إلى جهة قصبة الذئب، سقطت ذراعه خائرة، وسط صوت شبيه بالصوت الذي يحدثه نزع فلينة قنينة، فمه منفرج وعيناه نصف مسدودتين. انطلق العويل كما هو معروف عندنا، ومد الفقيه كفه لعينيه يغمضهما وهو يردد: إنا لله وإنا إليه راجعون " ص.105.

 الرواية عبارة عن بيان لغوي لافت، وسرد مضبوط بمتواليات دقيقة معبرة بواسطة جمل قصيرة ذات نفس وظيفي يحملها المبدع قدر وعائها الدلالي، وتناغم في الألفاظ ضمن إطار حرفي متقارب ومنسجم، وتشبيهات جديدة عديدة مثالها: " والسحب كأسمال على السماء، لا تكاد تغطي الشمس للحظة حتى تعود لتتكشف عنها، فتنصب على الرؤوس دافئة باردة، منيرة إلى حين " ص.7، وحكي بانورامي وفق لوحات فنية متلاحقة تجد عتبتها في جانب وسيرورتها في جانب آخر، ويظل المدخل أو عتبة الرواية ملامسا مباشرة للمطلوب، ثم هناك إتقان بارع في توظيف الحوار بنوعيه الوصفي والاستدلالي بواسطة أسلوب تصويري تشخيصي، والأمر كله أولا وأخيرا لا يعدو أن يكون إلا في: " حب الحكي لا غير " ص.79.

 ** ألقيت هذه المداخلة بمناسبة النسخة السادسة عشرة لعيد الكتاب بمدينة تطوان خلال شهر نوفمبر 2013، من تنظيم وزارة الثقافة المغربية بتعاون مع اتحاد كتاب المغرب.