الدكتور عبد الله الخطيب يدافع عن قدسية الموروث الإسلامي

صالح أحمد البوريني

الدكتور عبد الله الخطيب

يدافع عن قدسية الموروث الإسلامي

ويرفض اعتداء الثقافة على النص

صالح أحمد البوريني/عمان

[email protected]

خرجت رابطة الأدب الإسلامي من حالة الاسترخاء الرمضانية إلى وضعية الاستعداد لموسم من النشاط المتنوع والمتميز ، بدأته بأمسية شعرية بعنوان ( بأية حال عدت يا عيد )، كانت بمثابة حركة تسخينية لتنطلق بعدها إلى تناول قضية نقدية حيوية مهمة تتعلق  بالحداثة في محاضرة شهدها جمع من أعضاء الرابطة، وعدد من المهتمين بالنقد الأدبي، مساء يوم السبت 8 / 9 / 2012 في مقر الرابطة في عمان ، طرق فيها المحاضر الأديب عضو الرابطة الدكتور عبد الله الخطيب موضوع الحداثة من حيث علاقتها بالإسلام؛ ممثلا في القرآن الكريم .

 وكان تفاعل الجمهور مع محاور المحاضرة وما طرحته من أفكار وآراء واجتهادات تفاعلاً شاهداً على أهميتها وقيمتها ؛ إذ احتلت المداخلات والتعليقات مساحة من وقت الأمسية تنافس الوقت الذي اختزل فيه المحاضر مادته العلمية اختزالا، وعالج محاورها بكثير من التكثيف والإيجاز . 

ما الحداثة ؟ وما هي العلاقة بين الفضاء النصي للحداثة ونصوص الإسلام ؟ وهل الحداثة تناقض الإسلام وتعمل على تفكيك معتقداته المقدسة ؟ وكيف اشتغل الحداثيون العرب الذين طبقوا مناهج النقد الحديث في تعاملهم مع النص الشرعي ؟ بهذه الأسئلة استهل الدكتور عبد الله الخطيب محاضرته التي وسمها ب ( الحداثيون وقراءة النص الشرعي )، والتي كانت في الأساس بحثا علميا شارك به الخطيب في مؤتمر ( النص الشرعي بين الأصالة والمعاصرة ) الذي انعقد في عمان، وقامت على تنظيمه الجمعية الأردنية للثقافة المجتمعية بالتعاون مع الجامعة الأردنية .

وبعد أن عرض المحاضر باقتضاب لتأثر النقاد العرب بالمناهج النقدية التي ظهرت في النصف الثاني من القرن العشرين؛ ذلك التأثر الذي انعكس في كتابات طه عبد الرحمن وعبدالله العروي وأدونيس ومحمد أركون ونصر أبو زيد وعبدالله الغذامي وسواهم ، أشار إلى اصطدام النقد العربي الحداثي بالموروث النقدي العربي وما تضمنه من تقديس للنص الشرعي، واحترام لسلطة النص الفقهي، وتأدب في التعامل مع القرآن الكريم على وجه الخصوص، وذكَر ما أدى إليه ذلك الاصطدام من تبلور اتجاه نقدي يتمرد على الأصول، ويرتمي في أحضان الفكر النقدي المستورد .

ثم انتقل إلى الإجابة عن التساؤل المطروح حول حقيقة الحداثة؛  فقدم إضاءات حوْلها عبر الحديث عن غايتها، ونَقَلَ وجهة نظر الذين قالوا بأن الحداثة هي تيار انقلابي عام يقدم مشروعاً حضارياً جديداً شاملاً , ويقصد إلى تخليص الإنسان من أوهامه وتحريره من أغلاله وإعادة تفسير الكون عقلانيا وذاتيا لينتج واقعاً جديداً منبتـًّاً عن الماضي، مشتغلاً  بالتجربة الإنسانية الآنية في لحظتها الراهنة؛ وأنه لا يمكن لذلك أن يتم إلا بتغيير أنماط السلوك وطرائق التعامل مع كل شيء، وفي كل نواحي الحياة الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، الأمر الذي يقتضي إعادة النظر في المرجعية النصية التي ترسم السلوك وتعيـّن الاتجاه وتحدد سلم القيم، وإعادة تفسيرها وفقاً لمعطيات الواقع المتغير ومتطلبات التكيف الوضعي.

وسجل الدكتور الخطيب مؤاخذاته على هذا الطرح بأنه انفكاك عن الموروث الحضاري، وإلغاء للفكر والثقافة العربية، وتجاهل لخصوصية القرآن الكريم، وانقلاب على ميراث الأمة الأصيل، واستبعاد كلي للثوابت لحساب المتغيرات التي يتحكم بها التفكير البشري القاصر المحدود.

وفي حديثه عن الأسباب الكامنة وراء اتجاه الحداثيين العرب لهذا المنهج ذكر أسباباً ثلاثة هي:  الانبهارُ بالحضارة الغربية، وحركةُ الابتعاث التي رجعت على الأمة بنخب تشربت ثقافة الغرب وتبنت رؤية المستشرقين، وتوجُّهُ الحداثيين إلى تقليد الثورة الغربية على الكنيسة ليعلنوا ثورتهم على الوحي المعصوم وموروث الأمة الإسلامية المقدس، فتجسدت ثورتهم تلك في ما سماه الخطيب من قبل : اعتداء الثقافة على النص.

وقبل أن يُظهِرَنا المحاضر على كيفية قراءة الحداثيين للنص الشرعي ـ وهو ما يمثل الجانب العملي التطبيقي من البحث الأصلي ـ ، ذكر أن الدارسين للنص الشرعي ـ على وجه العموم ـ أقسام ثلاثة : يمثل الحداثيون قسماً، والمنعكفون الرافضون للحداثة كلياً قسماً ثانياً، ويمثل المعتدلون المتوسطون الذين جمعوا بين الأصالة والمعاصرة القسم الثالث . 

قراءة الحداثيين للنص الشرعي :

  بين الدكتور الخطيب أن الحداثيين هاجموا المفسرين القدماء واتهموهم بالمشاركة فيما زعموا أنه  مؤامرة للتستر على الاضطراب الذي حصل عند جمع القرآن، وأن المفسرين اقتصروا في تفسيره على المعاني السطحية ، وأن الحس النقدي عندهم معدوم ، وأنهم افتقدوا الرغبة في الاطلاع على خفايا الأمور وحقائقها، وانعدم لديهم التوق إلى كشف المجهول، ومات لديهم الشعور بإمكانية خطأ المتقدمين. 

وأسند الدكتور الخطيب اعتبار الحداثيين القرآن الكريم منتجاً ثقافياً إلى اتكائهم على الشعور بالدور المغلوط للمفسرين في معالجة آيات الذكر الحكيم ، والتعمد الحاصل في إسقاط نصوص قرآنية، فرأى الحداثيون أن القرآن الكريم منتج ثقافي يمكن إخضاعه لمختبر سردي يعيد إنتاجه وقراءته ، وأعلنوا صراحة عن مشروعهم في قراءة النص القرآني، وحددوا مساقات إعادة القراءة في مراجعة أصول الفكر الإسلامي الأول، وتفكيك تلك النصوص من النسق الذي ركّبها فيه الضمير الإسلامي إو الاستشراقي، بوصلها بالحدث التاريخي والمحيط الجغرافي والنظام الاجتماعي؛ وهو ما يعني اعتمادهم في إعادة قراءة النص القرآني على المنهج الأنثروبولوجي . وذكر أن الحداثيين عمدوا إلى إخضاع النص القرآني لكافة المناهج التحليلية ، منكراً عليهم مساواة النص القرآني المعصوم بالنصوص البشرية الأخرى ، ومؤكداً أن تناول النص القرآني بالدراسة وفق مناهج قراءة النصوص الأدبية كما تشكلت في ثقافاتها الأصلية يلغي الفوارق بين النص الديني المحكم والنص والأدبي.

في الجانب التطبيقي من دراسته  لقراءة الحداثيين للنص الشرعي تعامل الدكتور الخطيب مع منتج حداثي لمحمد أركون الكاتب الحداثي المصري في كتابه ( القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني)، الذي وظف فيه مناهج النقد الأدبي وبخاصة المنهج الألسني. وذكر الخطيب أن أركون قد وظف دراساته النقدية منذ مطلع السبعينيات من القرن العشرين لإعادة قراءة القرآن الكريم، وتفسيره وفق مناهج النقد الأدبي الحديث ، فنشر عدة دراسات نقدية وفق المنهج اللساني والسميائي والتحليلي، وأنه عرّف الخطاب النبوي بأنه النصوص المجموعة في الإنجيل والتوراة والقرآن؛ فساوى بين نصوص الأديان الثلاثة في كتبها المقدسة مسقطا الفوارق الحقيقية بينها.

وفي نقد الخطيب لقراءة أركون لسورة الفاتحة مؤاخذات عديدة؛ ذكر منها  أنه أزال عن القرآن الكريم ثبوته النصي والحرفي والكتابي، وأنه ذكر أن الفاتحة بنيت على ثمانية مبادئ يُنظر إليها على أنها مسلمات؛ منها أن الله تعالى موجود، وأنه تعالى تكلم للعالمين باللسان العربي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وأن كلامه تعالى إلى محمد صلى الله عليه وسلم مجموع ومدون في القرآن الكريم، وكل هذه المبادئ هي موضع شك لدى أركون ، وهو  يسعى لخلخلتها في نفوس قرائه .

ومن المؤاخذات الملحوظة أيضا أن أركون وظف المنهج الألسني في التلاعب بالمعاني وإحالتها إلى معان بعيدة كل البعد عن مقاصدها الأصلية، فذكر أن أداة التعريف في التراكيب اللغوية تنصرف إلى وظيفة تصنيفية تنقل معاني المعرَّفات إلى غير أعيانها ، وبناء عليه فإن المغضوب عليهم والضالين هم أشخاص محددون في مكة معادون للرسالة ، وليس كما هو متفق عليه عند علماء المسلمين.

ومن المؤاخذات الخطيرة غلوه في إظهار قيمة التفسير التأويلي الباطني الذي، أخرج آيات الفاتحة عن معانيها الحقيقية وذهب في تأويلها مذهباً تغريبياً صوفياً روحياً أبعد ما يكون عن معاني القرآن الكريم .

بهذه المؤاخذات ختم الدكتور عبد الله الخطيب محاضرته معتذراً إلى الجمهور عن اضطراره للإيجاز الشديد الذي تفرضه مساحة الوقت المتاحة للحديث .

وقد أثار الجمهور في نهاية المحاضرة جملة من التساؤلات حول حقيقة الحداثة وأهدافها وآثارها على الفكر والسلوك والقناعات والمسلمات الثابتة في عقلية المجتمع العربي والمسلم ، وأجمعت آراؤهم على رفض الحداثة بمفهومها الغربي الاستشراقي، وعابوا على أصحاب الموقف الاعتزالي تقوقعهم وسلبيتهم، بينما رأوا أن الموقف الوسطي من هذه القضية يتطلب جهوداً مضاعفة من البحث العلمي والدرس الأكاديمي والتعاون والمتابعة المستمرة؛ للوقوف أمام هذا التحدي الذي يصيب الأمة في أصول عقيدتها وفكرها ونظامها الأخلاقي والاجتماعي.