الحضور الشعري في قصيدة (غياب) للشاعرة لطيفة الأزرق

الحضور الشعري

في قصيدة (غياب) للشاعرة لطيفة الأزرق

محمد فريد الرياحي

[email protected]

لا مناص قبل التوحد بعالم القصيدة، من الإشارة إلى أن المجاميع الشعرية التي قرأتها، لا تخرج عن هذه الأربعة النعوت.

 النعت الأول ومؤداه، أن يكون المجموع الشعري جامعا لقصيدة واحدة موصولة برؤيا واحدة.

 النعت الثاني وموضوعه،  أن يكون المجموع الشعري حاملا لقصائد كثيرة تعارفت، فائتلفت كلها في مساق واحد من التجربة.

 النعت الثالث ومعناه، أن يكون المجموع الشعري قائما على قصائد عديدة تناكرت، فاختلفت في الاتجاه والمنظور الشعريين.

 النعت الرابع وحماداه، أن يكون المجموع الشعري مقيما على قصائد تعدها بالعدد الذي بلغته ولم تتجاوزه، ولكنها إلى ذلك تجمع ما تقارب من الرؤى في سياق، وما تباعد في سياق آخر.

 ويبدو من قراءة المجموع الشعري (لكن) للشاعرة لطيفة الأزرق، أنه من المجاميع التي تنعت بالنعت الثاني، ذلك بأنه يصدر، على كثرة قصائده في العد والحساب، عن رؤيا واحدة ملمومة بأقدارها، معلومة في آثارها. فما هي إذن هذه الرؤيا التي تجد هويتها وكينونتها في تجربة الشاعرة، بل ما هي هذه التجربة التي خضعت لها هذه الشاعرة في المد والجزر من وجودها.؟ إن هذه التجربة وتلك الرؤيا أصلهما الوجودي من الاضطراب الذي يخلخل الكيان، فإذا هو موزع مهزوز، لا يستقر على حال من الأحوال، بل لا يكاد يستقر به المطاف عند نهاية من النهايات، حتى تعاوده الزلزلة التي لا تبقي فيه على إحساس بالهدوء، أو شعور بالاطمئنان، في خضم الانفعالات النارية، والتمزقات الضارية، التي ما حلت بذات من الذوات إلا أحالتها هشيما من الهشيم، أو رميما من الرميم. غير أن هذا الاضطراب، وعانت الشاعرة حمياه، لا يلبث أن يهدأ في لحظة من لحظات الوجود، تستعيد فيه هذه الشاعرة أنفاسها، وتسترد قواها، فإذا أيقنت أنها عادت إلى مستقر لها من السكينة، واستيقنت وجودها الفاعل من بين ليل أظلم حتى احلولك، واحلولك حتى أظلم، أجاءها الاضطراب النفسي كرة أخرى إلى حالها الأولى من القلق والخوف، فإذا هي، فيما قدر لها أصلا من التلبس بسرابيل من الانقسام، والانفصام، والانشطار في واقعها، ذرات لا يجمعها جامع من إرادة، ولا يربطها رابط من عزيمة. إن تجربة الشاعرة  إذن ورؤياها، من التأرجح السيزيفي بين المد والجزر. وليس يخفى أن هذا التأرجح كان في ميثولوجيا يونان، من نصيب الرجال الذين هم أحق الخلق في المخيال الأسطوري بمواجهة العبثية الخرقاء، والقدرية العمياء، فهم الأبطال وهم أنصاف الآلهة الذين بمكنتهم الدخول في عالم التراجيديا، فإذا دخلت إلى هذا العالم امرأة، فإن دخولها يكون من باب الاستثناء، أي من باب ماهو مقعد مرسوم في الذاكرة، بفعل الذكورة التي تعطي من ذاتها لذاتها، ما به تمكن لنفسها، في وجود ذي بعد واحد، غير أن هذه القاعدة في المأساة الوجودية، سرعان ما تهتز ثوابتها، وترتج أصولها، إذ تبرز امرأة أنثى، وأنثى امرأة، للوجود الشعري بما لها من الذات المأزومة، والكيان المكسور، فتثبت حضورها الوجودي أولا، وحضورها الشعري ثانيا، وتؤكد ما لها من الفاعلية والفعالية، بفعل الأنا الحاضر، فترقى إلى القمة من هذا الأنا، وتشقى بأحسن ما فيه من الثبات والتحدي، فإذا استنفذت جهدها من هذا التحدي، وذلك الثبات، عادت إلى سابق عهدها من التوزع والضياع فهي إذن الشاعرة الأنثى، والأنثى الشاعرة، التي تعاني ما تعاني من الضلال في مجاهل الأتاويه، ولكنها إلى ذلك تقف ثابثة في حالها من المد والجزر، والصعود والهبوط، والتماسك والانهيار، بفعل ما تملكه من قبس يشعل ذاتها نارا، ويوقد كيانها زخارا، ويهبها من الدفقة الشعورية، ما به تستطيع أن تجد هداها في لحظة تغلق في وجهها الأبواب، وتسد المنافذ. وليس هذا القبس أولا وأخيرا إلا الشعر أو الناي الذي يملك الروح بأكملها، والكيان بأجمعه

ناي في الروح

تسكنه غابات ليلية

وقطيع غيوم غجرية

ورفيف جناح

ناي في الروح

تعبره شطآن وضفاف

وزوارق ضيعها المجداف

في موجة تيه أزلية

إن في اختيار الناي دالا بلاغيا على الشعر، في مجال هو مجال الكناية، لآيات من المعنى الأزلي الذي أراد لهذا الشعر أن يكون غنائيا، ينمو في غنائيته الثرة نحوين اثنين.

 أولهما، الاحتفال بالذات المتفردة التي تتكور على ذاتها، في لحظة التأمل الداخلي، فإذا هي آنست من هذا التأمل كشفا عن العوالم الخفية، انفتحت على هذه العوالم في ثراء من الشهوى، وثراء من الشعور، وأقبلت عليها في ضرام من الوجدان، وعرام من الانفعال، فجاءت بذلك، وفي ذلك، بأبدع الكلم، وأروع الخطاب.

وثانيهما، التغني بهذا الخطاب، وذلك الكلم موزونين بتلاحينهما، منغومين بأغاريدهما، في طقوس من الاعتداد بالجميل في الذات الفردية، والجليل فيما يحوط بهذه الذات من البدائع الوجودية، والروائع الحياتية التي لا تظهر فيما لها من الآثار إلا للشعراء الذين خبروا الجواهر، وأعرضوا عن الأعراض، فإذا هم من الحق الذي هو حق بما فيه من الحق، قاب قوسين أو أدنى. ولقد فطنت الشاعرة لطيفة الأزرق إلى هذه الجمالية الكونية والذاتية، فرشفت من ديمها، وغرفت من بحارها، في اللحظات السعيدة التي هي لحظات الإبداع، وما أدراك ما هو، عالم من الصور، والرؤى، والأحلام، والأوهام، والانفعالات، والخيالات، تتبرج فيما تملكه من الأضواء، ويملكها من الأهواء، فتعطي ما يبهر الذوات بلألائه، ويسحر النفوس بآلائه. إن للشاعرة، وهي تواجه مصيرها الذاتي، وعالمها المصيري، حضورين، حضورا وجوديا، وحضورا شعريا، وهي في هذين الحضورين، تتزود بالشعر فهو الزاد زادها في الليالي ذوات العدد، وهو ما به، وفيه، ومعه، تجد ذاتها فيما اعتور هذه الذات من الأسقام، واعتراها من الآلام. وليست هذه الآلام، وتلك الأسقام، إلا امتدادا لحال الانقسام والانشطار التي تكابدها بين الحضور والغياب، بين التوازن والاختلال، بين الهدوء والاضطراب، أو قل هي مدد من الانفعال لا يفتر لهذه الحال

يراودني لبعض التيه

حنين أن أكون سواي

أن أرمي

ورائي سحنتي واسمي

يارياح التيه لا تذري

أنا قد بعت كل قوافلي

ورجعت صحراء بلا مطر

بلا حادي

كأني آخر الصيحات في الوادي

كيف تواجه الشاعرة هذه الحال، وهي موزعة بين حضورها في الأنا الشاعري، وغيابها عن هذا الأنا، في اللحظات التي تكون فيها عرضة للتكسر والانكسار؟ كيف تخرج من الأزمة التي تلتف حولها، فتضغط عليها، وتكاد تخنقها، لولا حضور الوعي أي عودة العقل، وغياب الانفعال بالخوف والقلق، أي عودة الفعل، في مجال هو مجال البناء، أي إعادة  البناء للذات الموزعة بين ما هو كائن من عوامل اليأس والهزيمة، وما ينبغي أن يكون من روافد الأمل والحلم؟ كيف تفر من حال الانفعال إلى حال الانضباط التي فيها يعرف الوعي طريقه إلى تخليص الذات مما ألم بها من الفشل والإحباط في لحظة مشعورة، ولكنها غير موصوفة بدلالتها الشعرية من القصيدة؟ إن غياب هذه اللحظة، بما هو فيها ولها من الإمكانات الأدبية، أمر قصدته الشاعرة قصدا، ذلك بأنها رغبت في تمثيل حال المواجهة، مواجهة ما أرادت تغييبه من النص الشعري، بوضعها لنقط حذف في بدء هذا النص ، وليس يخفى أن القصيدة في مفهومها اللغوي والشعري، إنما تجد ذاتها، ووجهتها، وهويتها، وكينونتها، في القصيدة من جهة، أي في الوعي بالبناء الفني الذي يريد الشاعر وتريد الشاعرة هندسته، ومن الانقشاع الخيالي في الإلهام  الذي هو حال من الغياب عن الوجود، أي حال من اللاوعي الذي يتم فيه الكشف عن الجميل والجليل من الجهة الأخراة، إن الشاعرة، وكتبت قصيدة (غياب) أكدت وجود هذه القصيدة بطريقتين اثنتين

الأولى، تغييب تجربتها التي عانت منها

والثانية، تتبع حال المواجهة لهذه التجربة قصد الخروج منها، ومعنى هذا أن الذي كان يشغل بال الشاعرة هو الانفلات من حال الغياب التي فرضت عليها، والدخول في حاضرة الحضور الوجودي والشعري، بتغييب الغياب الذي حبسها في حيز زماني ومكاني لا تتعداه، وكأن هذا الحيز قدر لا راد له من الإرادة الإنسانية، أي من الإرادة الشعرية عند هذه الشاعرة. إن هذا الغياب الذي كان أمرا مقضيا، وذلك التغييب الذي كان تمردا، بل كان ثورة من الشاعرة على واقعها، هو ما شكل النسيج الفني والشعري لقصيدة (غياب). إنه من الغياب والتغييب، يتولد الحضور بكل ما فيه، وعنده ، ولديه، من الفاعلية المبدعة التي هي فاعلية الأنا في تخلجه، وتبلجه، وتوهجه، وهو ينتقل من العالم غير المكتوب، أي من المُغيب في القصيدة إلى العالم المكتوب، أي عالم القصيدة بتلاوينها، وتلاحينها، وأسرارها، وأخبارها، وتصاويرها، وتفاعيلها. وينبغي أن نلاحظ في هذا المجال أن العالمين متداخلان ومتوحدان في الذات الشاعرة التي إن غيـّبت ما قدر عليها من التوزع والانقسام والانشطار، فلم تصفه بطريقة مباشرة، فإنها دخلت بكل هدوء في عالم القصيدة، أي في عالم المواجهة. وإذن فالذي يشكل  صلب هذا العالم بكل جمالياته، هو الفعل الواعي للأنا الحاضر الذي اختار الخروج من الأزمة سبيلا إلى بناء الذات من جديد. وليس من شك في أن هذه المواجهة الشعرية لواقع الهزيمة، أي واقع التوزع، والانقسام، والانشطار، إنما هي كشف لهذا الواقع، ولكن بطريقة فنية وتشكيلية، فضلت الفعل الإيجابي على الانفعال السلبي. إنه من هذا الانفعال، وذلك الفعل، يحضر الأنا بإنيته الشعرية، فيكون الشعر المتفرد بالذي يملكه، بل يتملكه من الثراء والثروان في الذات أولا، وخارج الذات ثانيا.

ألملم بعضي

حكايا حكايا

وبين الطوايا

أخبئ كسرة صبر

يباس

إن الأنا حاضر في جملة (ألملم بعضي) حضورا وجوديا. فلولاه لما كانت اللملمة مشهودة في حركيتها، وفاعليتها، وحضورا شعريا إذ تقع هذه اللملمة على البعض من كلّ الشاعرة الذي يبدو غائبا مغيّبا، بفعل التوزع والانقسام والانشطار. وعلى هذا يكون البعض تحقيقا للحضور الفعلي، على مستوى الوجود الشاعري، ومستوى الكتابة الشعرية، أي تحقيقا للكل ماثلا في الشاعرة التي وجدت ذاتها من بعد ضياع، ومصورا في القصيدة مركبة ومكونة، وقد كانت من قبل شذرات من المعنى، وخطرات من الخاطر. وليست الذات وقد لملمت، وركبت في كليتها إلا القصيدة وقد استوت حقيقة مشهودة بآثارها. أليس الحضور الوجودي إذن هو الحضور الشعري.؟ أليست الشاعرة، وهي تركب أو تعيد تركيب كيانها، مغرمة في الوقت نفسه بتركيب الشعر، أي بنظمه، وبنائه في أجمل صورة وأحسن هيئة.؟ إن الكيان كيان الشاعرة ،إذن، هو كيان القصيدة في إرادة الجمع، جمع ما تفرق من الكل في لحظة وعي بالذات والوجود. وقد أشارت الشاعرة إلى هذا الجمع باللملمة، فلم تقل( ألم)، ولم تقل (أجمع)، لقصور هذين الفعلين، عن أداء المعنى الشعري الذي أرادته، أو أريد لها .وظاهر أن فعل (ألملم) يدل، وهو ينطق صوتيا، على الانكسار والتكسر، إضافة إلى دلالته على الجمع واللم، فيكون بهذا دالا بلاغيا على معنيين، معنى التوزع والانكسار والانشطار ومعنى الانضمام والالتئام والائتلاف. وهما معنيان عانت منهما الشاعرة معاناة وجودية وشعرية، فهي كانت وما زالت تلملم الأشتات والأجزاء حكايا، تمثل في حال الاجتماع كلا، هو الكل الذي ترومه هذه الشاعرة في رحلتها الدائبة بين الحضور الوجودي، والحضور الشعري، عالما يبهر بما فيه من الغرابة والعجب. أليست الحكايا ذات علاقة بحاك يحوك، وهو فعل يدل على اللملمة.؟ أليست الحكايا أيضا نسيجا من الخيال الذي يعلو على الواقع، بل يرتفع فوقه إلى النهاية التي فيها ينقشع الغمض، ويشع الشعر، في لحظة انبثاق واندفاق يكشفان عما وراء الأستار، من أسرار وأسحار.؟ أليست الحكايا أخيرا، هي الأصل الأصيل من شعور الشاعرة ولاشعورها، منذ أن استوت طفلة إلى أن بلغت مرحلة من مراحل الشباب، هي مرحلة الوعي بالحاضر في عنفه وعنفوانه، في بحثه عما كان ملموما ثم تصدع، ثم ها هي تعيد بناءه في حضورها الوجودي، وفي حضوره الشعري، فيمثل في نهاية المطاف، قصيدة تمثل المعادل الموضوعي لحال الغياب الذي يُسترجع مزقا، وأطيافا، وخيالات، وما في الطوايا إلا كسرة صبر يباس قابلة للانكسار، والتكسر، والانصداع، والتصدع.؟ فلا وجود، إذن، لحال الديمومة أوالثبات أوالسكينة في وجود الشاعرة التي ما إن تنهي عملية اللملمة، أو يخيل إليها أنها أنهت هذه العملية، حتى تعاودها حال التوزع والانقسام والانشطار، فلا تستطيع لها ردا، ولا يستطيع صبرها الذي بلغ من القوة حد التصلب والانكسار أن يمكن لها في الذات المستوية الملمومة. إن الشاعرة، وهي تلملم بعضها حكايا، تخبئ في طواياها كسرة صبر يباس، لعلها تجد في هذه الكسرة، ما يمدها بالزاد الذي به تواصل رحلتها نحو الاكتمال الواعي. ولكن هذه الكسرة، كما يدل عليها لفظها، قابلة للانكسار والتكسر، أما الصبر، فعلى وجود حرف الصاد القوي فيه، فهو يباس وصلب، ومن شأن الصلابة أن تنصدع، ومن طبع اليباس أن يتصدع، فلا وجود، إذن، لحال اللملمة، وفي هذا تلاقي الشاعرة مصيرها بين الصعود والهبوط، وتعاني قدرها بين المد والجزر، فلا هي قادرة على أن تبقى مبعضة مجزأة مشتتة، ولا هي مستطيعة بلوغ ما تهفو إليه من الاستواء. وتلك، إذن، مأساتها في حضورها الوجودي، وفي حضورها الشعري. غير أنها، وهي تحمل هذه المأساة، تستمر فيما عقدت عليه العزم أول مرة من فعل الحضور داخل الغياب

بكل هدوء

على مضغة القلب

أطوي ملامح وجهي الكسير

ودون وداع

وقبل مرور القطار الأخير

أغادرني

وأسافر وحدي

وتمضي الرحلة بكل هدوء، وتطوي الشاعرة أشتاتها وأبعاضها، بل تطوي ملامح وجهها الذي تكسر بفعل طول الرحلة ومضي العمر، بل بفعل ما عانته من الهزيمة، وهي تحاول أن تعيد إلى ذاتها، ما كان من ذاتها مرونقا مموسقا، في حال من الغياب المستمر، تطوي هذا وذاك في طواياها التي خبأت فيها كسرة صبر يباس، وفي مضغة القلب باعتباره أجل وأجمل ما في هذه الطوايا. أليس القلب هو منبع الإشراقات ومصدر الحكم.؟ أليس القلب مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله.؟ تلك هي،إذن، وجهة الشاعرة وإن كانت جعلت للقلب مضغة، مع أنه في ذاته مضغة. لقد كان بمكنتها القول، بكل هدوء على القلب أطوي،،،فلا ينكسر الوزن، بل يستمر البحر المتقارب في موسقته الشعرية للقصيدة بتفاعيله المتغنى بها، وهي تفاعيل تتكرر في الثبات، وتثبت في التكرار، دلالة على خطوات الشاعرة الثابتة المتكررة، في سياق زماني ومكاني، هو هو لا يتبدل، وإشارة إلى ما في التقارب والثبات والتكرار، من الإصرار والمضي في طريق لا يلتوي ولا يعوج. إن الشاعرة تطوي ملامح وجهها، وأشتاتها المبعّضة، التي لملمتها، ولم تلمها، في تركيب كانت ترغب في أن يمثل حضورها الذي غاب، أو غيّب بما فيه وله من الكينونة المونقة، تطوي كيانها الممزق، وأنفاسها الكلمى، وما لها من ظلال وخيالات، لتطوي وحدها مسافات من العمر، بحثا عن ذاتها في ذاتها، قبل فوات القطار الأخير أي قبل فوات الأوان. لقد ملت الشاعرة ، إذن، من اللملمة، أي من الذكرى والتذكر، وأصرت على أن تغادر ذاتها الغائبة، وتعيش في ذاتها الحاضرة، بما في هذه الذات من الغنى الروحي، والإشراق الوجداني. إنها تريد طي مرحلة الحضور الأولى التي حاولت فيها استرجاع ما كان لأنه كان، وهي في المرحلة الثانية تعلن في إصرار(وأغادرني)، أي أغادر ذاتي الأولى، وأسافر وحدي من غير حضور لما أخفيته، وطويته، بل بحضور ما معي من النسيان والغياب لحال أريد لها أن تكون غائبة. وإذن فتأرجح الشاعرة بين حضورها في الغياب، وغيابها في الحضور، يطل علينا بملامحه التي لا نمسكها إلا لنفلتها، ولا نفلتها إلا لنمسكها، في حركة لا تستطيع أن تطوي المسافات، كما خيل إلى الشاعرة، ولكنها حركة تأكل ذاتها بما فيها من الإقبال والإدبار. إن الأنا، أنا الشاعرة، يظهر في الاستتار ضميرا لا يملك لنفسه نفعا، ولا ضرا في الدوامة التي تفرغه من ذاته وكيانه، لتسلمه إلى حال من الرتابة الحركية. إن الأنا المضمر الذي وإن ظهر في الأفعال الإرادية (أطوي)، (أغادرني)، (أسافر وحدي)، فإنه ينفي ضميرا محكوما عليه بأن يكون مستترا. وإذن فحضوره المشروع في أن يكون غائبا، وغيابه المقدور في أن يكون حاضرا. فهو الحاضر والغائب، الخفي والمعلن، ولا  يمكن هذا الأنا ذا الطينة البشرية، والنزعة الإنسانية، أن يكون هذا وذاك دفعة واحدة، فإن كان هذا وذاك بفعل التناقض، كان التمزق، وكان التوزع، وهي الحال التي تتلبس بها الشاعرة في مساق هو مساق الخواء والفراغ. غير أن هذا الأنا،على تأرجحه بين الحضور والغياب، يحضر في جملة (وأغادرني) مجسما في ياء النفس أو ياء المتكلم، فتكون العبارة كالتالي، وأغادر أنا أنا على ما فيها من المخالفة عن النحو السائد. غير أن هذا الأنا سرعان ما ينفلت من حضوره، أو ينفلت منه حضوره، فيعود إلى سالف عهده من الاستتار في جملة (أسافر وحدي)، من هذا الأنا الذي يظهر ويختفي. من هو هذا الأنا الذي يحضر مرة أو مرتين، ثم يعود ليغيب.؟ إن الأنا الأول هو أنا الشاعرة، وهي تلملم ما كان، فيما هوكائن بحثا عن كينونة حاضرة حضورا وجوديا، وحضورا شعريا لهما من الفاعلية الشاعرية، ما يمكن لهما من التكامل الذاتي، والانسجام النفسي. أما الأنا الثاني الذي يظهر ليختفي، فهو هذا الذي كان، ثم تكسر، فحاولت الشاعرة لملمته، ولكنها قررت، في النهاية، مغادرته لتسافر وحدها في حال من التفرد، وفي حل من أمسها، فهل استطاعت أن تجد نفسها وكيانها، في حال من التفرد التي وضعت فيها ذاتها، بعيدا عن الأبعاض والأشتات.؟

وحين أفيق

أفتش عني

فيبهت في كل ركن سؤال

ويرحل من كل ركن مساء

وحيد

شريد

و ب عـ ض ط ر يـ ق

تسافر الشاعرة وحدها في ذاتها الحاضرة، بمعزل عن ذاتها الغائبة، فتدخل في حال من الغياب تنسيها كل شيء إلا هذا الحاضر الذي يحتويها، أو تحتويه، وحين تفيق تفتش عن ذاتها، أي تعود إلى حالها الأولى من محاولة لملمة بعضها، وفي هذا تلتقي جملة (أغادرني)، بجملة (أفتش عني)، تلتقي الجملتان أولا، في حضور الأنا الثاني، ثم غيابه في القصيدة واقعا تحت فاعلية الأنا الأول. فهو في جملة (أغادرني) مفعول به، وهو في جملة (أفتش عني) اسم مجرور. وتلتقيان ثانيا، في أن مغادرة الذات في السياق الشعري، تؤدي حتما إلى التفتيش مرة أخرى عن هذه الذات، أو عن أبعاضها، وأشتاتها، قصد لملمتها. فماذا تكون النتيجة.؟ تفيق الشاعرة فجأة، وتظل تحت تأثير إفاقتها مدة من الزمن، ثم تفتش عن ذاتها، بعد أن كانت غادرتها، وهي تلملمها. ودليلنا على وجود هذه المدة الزمنية بين فعل الإفاقة وفعل التفتيش، قول الشاعرة (وحين أفيقْ) هكذا بالسكون على حرف القاف، وكان بإمكانها أن تكتب الجملة الشعرية كالآتي(وحين أفيقُ أفتشُ عني) من غير أن يختل الوزن في السياق الشعري. ولكنها فطنت إلى أن هذا الوزن يخدم القصيدة، ويؤدي معانيها. وليس للقصيدة أن تخدمه، أو تضحي بما لها من الإيقاعات الحياتية، حرصا على استقامة ايقاعاته، واتساقه في المجال العروضي. وليس من شك في أن موسيقى (وحين أفيق أفتش عني) جاءت مستوفية للتفاعيل العروضية، فجاءت بذلك موقعة مسترسلة من غير خلل يشوبها، أوتوقف يشينها. ولكن الشاعرة أرادت أن تقف على (أفيقْ)، ثم تتابع سيرتها الأولى في لملمة ذاتها، بعد أن أخفقت في المرة الأولى. إن هذا الوقوف احتواء للحظة التي تفصل بين صدمة الإفاقة، وبين الخروج من هذه الصدمة، بحثا عن الذات ذاتها الغائبة، أو المغيَّبة. وهكذا فالشاعرة تعاني وجودا المأزوم بين صعود وهبوط، بين مد وجزر، تلملم ذاتها في المقطع الأول، وتغادر هذه الذات في المقطع الثاني، وتعود إليها في هذا المقطع الذي هو المقطع الثالث. فماذا ترى وهي تخرج من حال الغياب في لحظة يقظة علقت بظرف زمان هو (حين) وبجملة فعلية هي (أفيق) محلها من الإعراب في محل جر مضاف إليه.؟ إن للإضافة، في هذا السياق، معنى يجد نفسه في أن الإفاقة مشروطة بزمان هو زمان الشاعرة التي تبحث عن ذاتها، إذ يبرز بوعيها وفي وعيها ما كانت غادرته من كيانها، وما كانت طوته من أشتاتها، وأبعاضها كرة اخرى، فلا ترى إلا أسئلة معدودة بعدد الأركان التي تبهت أو تبهت والقراءتان جائزتان في هذا المجال. القراءة الأولى وهي تـَبهت إشارة إلى قلة الضوء، أو شحوب الضوء، ولما كانت الأسئلة تخرج من كل ركن، والركن معروف عادة بخفوت الضوء، فإن معنى ذلك أن الأسئلة لا تملك من القوة ما به تخلخل النتوءات الوجودية، فكيف، إذن تستطيع أن تعرف ما وراء هذه النتوءات من حقائق.؟ أما القراءة الثانية، وهي تـُبهت، فإشارة إلى أن الأسئلة، وهي تواجه الذات والعالم، لا تعرف كيف تصل إلى الوجهة التي فيها وبها يستقيم وجود الشاعرة. إن هذه الأسئلة مصدرها الذات الموزعة الممزقة التي تعيش في الظل، فلا تخرج إلى الضوء بفعل التذكر إلا لتعود إلى الظلمة. إن هذه الأسئلة كناية عن فعل اللملمة التي تخوضه، أو تخوض فيه الشاعرة لعلها تجد فيه ما يمكنها من الاستقرار الذاتي والهدوء النفسي، ولعل عبارة(بكل هدوء) دليل على رغبة الشاعرة الدفينة في أن تعيش مع ذاتها، مع وجودها،مع عالمها في سلام فلا خوف، ولا قلق، ولا انقسام، ولا انشطار في الكينونة والهوية، بل لعل في(ويرحل من كل ركن مساء وحيد شريد) دليلا على الضوء والظلمة التي تتأرجح الشاعرة بينهما. فالمساء رمز لبدء الظلام، ورحيله إشارة إلى بدء الضوء، وهو مع هذه الإشارة، وذلك الرمز، يعاني من الوحدة والتشرد، فيكون بذلك هو زمان الشاعرة أي زمانها الذي فيه تفيق بين ديجور تعيش فيه، وضوء ترجوه مغلاقا لهمها، ومفتاحا لحلمها في الحياة والوجود. غير أن الشاعرة، وهي تحلم، لا تلبث أن تعود إلى تأرجحها بين حالين حال اليأس، وحال الأمل. ترحل الأسئلة من كل ركن إلى غايتها من الحيرة، وغبش الرؤية، وغموض الرؤيا، ويرحل المساء الشريد الوحيد، فيترك ضوءا في كل ركن، فيجتمع بذلك الغموض والوضوح، الضوء والظلمة، ويرحل ب عـ ض ط ر يـ ق كانت الشاعرة تريد أن تسلكه إلى حقيقة وجودها بين حال من الذات ممزقة، وحال تريد لها أن تكون متماسكة، ولكنها تفشل فتزداد انكسارا في بعض طريقها الذي كتب في القصيدة بشكل منكسر مكسور.فهل تلملم ذاتها، أم هل تلملم بعض طريقها.؟ تلك إذن مشكلتها، وهي تريد أن تسترجع ما كان من ذاتها، لأنه كان، فإذا تأبى عليها هذا الاسترجاع طوت مزقها، وانكساراتها، وعادت إلى حاضرها، ليعيدها هذا الحاضر إلى أمسها وهكذا. إنها إذن حال من حالات الضياع والتيه في دوامة لا بداية لها، ولا نهاية.

أتوه ورائي

أطاردني

وذات رصيف أمر بوجهي

فأنكرني

لأني نسيتك وجهي

وكل المرايا تغيم إذا ما نظرت

إليها

و ت ك سـ ر نـ ي

إن التيه هو العالم الذي تدخل الشاعرة فيه، بعد أن أعياها البحث في ذاتها، كي يذكرها بهذه الذات في حال من الوعي الذي يثبت الكيان كله فيما ترسخ فيه من الحضور الوجودي، والحضور الشعري. وليس التيه إلا الغياب الذي يأكل من الذات فيوزعها، ويبعضها، ويتركها أشلاء، ومزقا، تحاول الشاعرة أن تلملمها، لعلها تجد فيها، وهي ململمة، ما تريده من إثبات الكينونة والهوية.غير أنها وهي تفشل تطرد ذاتها الغائبة (أطاردني= أطارد أنا أنا) وتمر بوجهها ذات رصيف فتلفيه مكسورا، بفعل الزمن المجدب الذي تعيش فيه، فتنكر هذا الوجه، أي تنكر ذاتها كلها، وكيانها بأجمعه، (فأنكرني= فأنكر أنا أنا) وتطوي، وهي تعي انكسارها، حاضرها في الغياب. لقد نسيت كل شيء، نسيت وجهها، ونسيت حاضرها، ولم يبق من وجودها إلا ما تعكسه كل المرايا، من وجهها، فإذا هو مكسور بفعل انكسار هذه المرايا التي تغيم إذا نظر إليها.فلا سبيل ،إذن، إلى تلمس الكيان، أو نشدان الذات في الغياب. ما هي هذه المرايا التي علاها الصدأ فغامت فيها الرؤية، وغابت منها الرؤيا؟. إنها صور الشاعرة في مختلف أطوارها وحالاتها، وهي تتأرجح بين الحضور والغياب، فلا تجد في هذا التأرجح إلا ما يحرّقها، ويؤرّقها، ويكسرها. وليست جملة (و ت ك سـ رنـي) المكسورة إلا ضبطا لهذه الحال الفاجعة التي تعيش فيها الشاعرة، وهي حال المد والجزر التي تمتد وتحتد حتى لا مخرج للشاعرة منها، ولا فكاك عنها، بل هي الحال التي يتعانق فيها الحضور الوجودي، والحضور الشعري في سياق زماني ومكاني هو سياق المعاناة والمقاساة. إن الوجود، من هنا، بالنسبة للشاعرة هو الشعر، والشعر هو الوجود. ويبقى الشعر، إلى هذا، مميزا، بل متميزا بالقدرة على الأداء، أداء الوجود في جمالية من التخيل، وتخيل من الجمالية، تمكنه من أن يكون هو الحاضر دائما عند الشاعرة. وإن الوجود الذاتي يغيب ويحضر، يغيب في حال النسيان أوالتناسي، ويحضر في المحاولة اليائسة التي تركبها الشاعرة من أجل استرجاع ما كان، عن طريق لملمته، فيتأبى عليها، ويأبى إلا أن يبقى على ما هو عليه من الانجذار، والانكسار، والانقسام، والانشطار، فترضى الشاعرة بالذي هو من قدرتها، وتكتفي من الغنيمة بالشعر، أي بالحضور الشعري الذي تخلق منه عالمها في المأساة بالمأساة. إن هذه المأساة، هي المأساة التي تبدع الخصب بالكلمات، فتعطي وجودا شعريا، شاعريا، ريانا بالخيالات، دفاقا بالأحلام، مقابل وجود واقعي مجدب، منخلع، يباس. أليست الكتابة الشعرية، من هنا، حلما مبدعا بين الحضور والغياب، بين المد والجزر.؟ أليست هذه الكتابة هي الإكسير الذي يعطي معنى للامعنى الذي يرين على حال التأرجح والتردد بين عالمين أحلاهما مر.؟ إن الشاعرة تريد، وهي غائبة مغيبة،في واقعها الحاضر أن تعود إلى ذاتها وما لها من عوالم داخل هذه الذات، فلا تجد إلا التوزع والانقسام والانشطار فترضى في آخر المطاف بواقعها موسوما بالإبداع، موشوما بالشعر، مرسوما في الانفعال باللحظة الشعرية التي تعطي فيها أجمل ما في أنوثتها التي تمور بالجراحات، وتفور بالعذابات، ولكنها تفيض بالأشعار الحالمة، والأحلام الشاعرة.

إلى أين يا أنت

تعالي فكل المسافات تيه

وكل المحطات وجه السؤال

لمن يزرع الجدب بيني وبيني

ومن في غيابي

سيجني الظلال

هذا نداء من الشاعرة إلى الشاعرة، في حال من التيه والحيرة، بل في حال من الجدب الذي إذا ما مسه الشعر أحاله جنانا يجري من تحتها الخصب المعطاء

لطيفة الأزرق   شاعرة مغربية