انتقاد الغرب والبلد الأصلي معاً في رواية محمد ميلود غرافي

انتقاد الغرب والبلد الأصلي معاً

في رواية محمد ميلود غرافي

زهير عزاوي

محمد ميلود غرافي كاتب مغربي من مواليد مدينة  بركان  مقيم  في فرنسا . صدر له ديوان " حرائق العشق" سنة 2002 وديوان ثان عنونه : "امضغها علكا أسود" سنة 2009 وصدرت له رواية  "لم أر الشلالات من أعلى "عن دار الغاوون بلبنان سنة 2011 في طبعتها الأولى . ينشر أشعاره و مقالاته في الصحف الوطنية والدولية وكذا المواقع الإلكترونية باللغة العربية و الفرنسية.

محمد ميلود غرافي والنقلة من الشعر الى الرواية :

لجأ الشاعر المغربي محمد ميلود غرافي إلى هذا النوع الأدبي - الرواية -  نظراً للزمان والمكان الكافيين لتقديم صورة شبه مفصلة عن تجربة شخصياته، و إبراز غاياتها ودوافعها وأهدافها، وليبين أيضا للقارئ حاضرها وماضيها، ويعطيها حرية الحركة والتنقل وتبديل المكان. كما ان شهادة الأب  وجهت الشاعر المغربي محمد ميلود غرافي. يتناوب على عملية السرد في الرواية راويان أساسيان هما:

 أولاً، الراوي - المؤلف و قصته  بالمهجر.  الشخصية المحورية في الرواية مهاجر علني (طالب) وليس سريا (حراق) كما هو في العمل السردي لمصطفى شعبان "أمواج الروح". الروائي تعمد إعطاء دور الطالب لشخصيته الروائية الرئيسة حتى لا يترجم عيوب المجتمع الغربي في عبارة : "فرنسا قحبة" كما كان يحلو لأحد شخصياته (عمي الناجم) للتعبير عن مأساة الوضع بفرنسا، بل لكي يعمق فضوله و يرى عن قرب خبايا العالم السفلي  و  تناقضاته.

ثانياً، حكاية الأب و نضاله السياسي.

يهيمن السارد الأول على سرد أغلب أحداث الرواية. لم يسهب في الحديث كثيرا عن الام الهجرة والحنين إلى الوطن وعن إشكالية الاختلافات الثقافية والاجتماعية وعن علاقة الأنا بالأخر، لأنه يعي تمام الوعي انها مواضيع خاضت فيها الرواية المهجرية أشواطا مهمة. لذا فالجديد في هذا الإنجاز السردي الرائع هو التطرق إلى مواضيع أكثر أهمية كمسألة انتقاد المجتمع الغربي والوطن الأم.

انتقاد البلد الأصلي - الجانب السياسي  و الاجتماعي

عمل غرافي على إقحام حكاية الأب ليعود بنا إلى الوراء، أي زمن الماضي للنبش في واقع اليسار المغربي الذي كان رمز الأمل و التطلع نحو غد أفضل، لكن سرعان ما تبخرت كل الأحلام، و انتهى كل شيء بالفشل. يقسم الروائي المناضلين السياسيين إلى قسمين: قسم يواظب على حضور اجتماعات الحزب، و هدفه الأسمى هو التغيير و الإصلاح، والقسم الأخر انتهازي ينخرط  في الحزب من أجل تحقيق المنفعة  الشخصية. يقول الروائي متحدثا عن أبيه: "يواظب على حضور اجتماعات الحزب ويأكل كسكسا حافيا، بينما يبني بعض رفاقه فيلات في الأحياء الراقية بالعاصمة و يمضون عطلهم في شواطئ لا كوت دازير"، "هناك فرق بين أن تتقدم للانتخابات من أجل أن تصير غنيا كأعيان المدينة و بين أن تتقدم إليها من أجل إصلاح عمود النور في الدرب".

يواصل مشبها أحد رموز اليسار السياسي المغربي إبان فترة الستينيات من القرن الماضي برفاقه: "لو كان المهدي لايزال حيا لانتهى كما انتهى أصحابه و رفاق دربه. أي وزيرا أول في أحسن الأحوال أو وزيرا بدون حقيبة". و في خضم حالات التذكر والاسترجاع يعرض السارد لأهم الأحداث التي عرفها المغرب في الثمانينيات. تحديد الزمان وخاصة السنة والشهر يقربنا أكثر من الحدث وما عرفه المغرب من مسيرات شعبية في مختلف انحاءه مطالبة بتخفيض أسعار الخبز والزيت وما تلقته من معاملة   وحشية من طرف العسكر. يقول: "بدأ العسكر المرابط أسفل المقبرة في إطلاق الرصاص. صاحت أمي عند باب البيت: أدخل ! قلت إنهم يطلقون الرصاص في السماء. كانوا يطلقونه في الجمع". وعن العسكر يواصل: "كانوا سكارى عن اخرهم و يصيحون يا أولاد القحاب". إنه مشهد رهيب! شبيه بما يجري من أحداث في ظل هذا "الربيع العربي". إن انتقاد محمد ميلود غرافي للبلد الأصلي هو انتقاد لواقع الأنظمة السياسية  العربية كذلك التي عملت على إذلال و تفقير شعوبها.

  الوصف الدقيق للمكان (المنزل، الحي): "كان البيت الوحيد ذا السقف الخشبي و القصبي في حي سالم. ما زال واقفا. قلت مرارا إنه من عجائب الحي القليلة. أبي يقول إنه واقف بفضل ربي. أمي تقول إنه واقف بفضلها"، يجعلنا نحس بصعوبة العيش وبالفوارق الاجتماعية، ونعاود تذكر بيوت و أحياء الطفولة فنحس بالخزي تجاه المكان، أي غربة داخل الوطن.

خصص الروائي حيزا مهما في الرواية للتناقض الديني للمهاجر المغاربي أو المسلم بشكل عام، حيث الالتزام بالشعائر التعبدية من صلاة  وصوم و زكاة و... و التراجع في الجانب السلوكي و الأخلاقي. يقول عن الناجم :"يقيم الصلوات الخمس في مواقيتها أو في غير مواقيتها و يفتح الباب خلسة  مرة في الأسبوع لأول  امرأة عابرة. يقول إن الله غفور رحيم". يضيف عن مصطفى: "... وثلاجة صغيرة أعلاها لحم حلال و أسفلها زجاجات بيرة". وعن الشاب كريم: "يمضي النهار كله وبعض الليل يردد  عاليا الآيات القرآنية نفسها أو بكلام لا نفهمه. رائحة البخور تتسرب من غرفته كل مساء وتملأ الجناح السكني و الغرف المجاورة". أمام هذه الازدواجية  يمكن القول أن بعض أفراد المجتمع الإسلامي تعاني حالة مرضية، أي انفصام الشخصية. حالة تناقض بين ما هو تعبدي و بين ما هو اعتقادي و سلوكي.  يرجع هذا إلى سوء فهم  فلسفة الدين ومقاصده. إذن أين الخلل؟ هل الشخص هو المسؤول الوحيد عن هذه الحالة المرضية أم للمناهج التعليمية و التأطير و التكوين دخل في هذه الإشكالية؟ فعلا الشخص نفسه يتحمل قسطا من المسؤولية كما يتحمل الساهرون عن المناهج و البرامج التعليمية القسط الاخر . إن المساجد والمؤسسات والجامعات مازالت تقدم دروسا عن مبطلات الوضوء، والعملية التعليمية التعلمية في مجملها لم تصل بعد إلى المستوى المطلوب. المدرس أصبح تاجرا والمدير مخزني! يقول:" أخي الذي يرغمه أستاذه في كلية الحقوق على شراء مطبوعة الرديء وإلا "صفر" له يوم الامتحان الشفوي". "كان المدير الجديد للحي الجامعي يحمل شاربا أسود بارزا. كان مديراً سابقاً للسجن!".

انتقاد الغرب – سياسياً و إعلامياً واجتماعيا

 يخرج الروائي عن السيناريو الكلاسيكي الذي يجعل من الحماة مرأة قاسية و شريرة، فماريه(حماته) ليست هي ماري منيب ـ في تمثيلهاـ لكن هي ماري "القلب الذي يسع الدنيا كلها". لهذه العبارة القصيرة معنى أبلغ و أدق في الإشادة بالإنسانية المثالية لبعض أفراد المجتمع الغربي دونما حاجة إلى  مرجعيات دينية و ايديولوجية... كما يتضمن النص بعض العبارات التي تحمل في طياتها معاني تنوه  بما وصل إليه الغرب من تقدم. لكن هذا الغرب المتناقض لم يسلم من انتقادات الروائي.

يبين غرافي أن أغلب خطابات الأحزاب السياسية وعود كاذبة، فالسياسيون يحاولون إقناع الشعب بكل الوسائل من أجل كسب أصواتهم. يقول: " و شيراك مازال يخطب و يكذب". ويرصد بكل وضوح أن هذه الأنظمة تعمل على توفير المجال الحيوي لشعبها فقط. يقول: " حقوق الإنسان أمر يهم الساسة الفرسيين حين يتعلق الأمر فقط بمواطنيهم". حقيقة الدول الغربية تعمل جاهدة لتحقيق رغبات أولئك الذين يسيطرون على النظام الاقتصادي.  تعمل على إرضاء الطبقة المسيطرة في المجتمع، لأن هذه الأخيرة تملك وسائل الإعلام  فبفضله  تقوي مركزها وتدعم نفوذها السياسي وذلك بتضليل الرأي العام وتزييف الحقائق. يقول: " نشرات الأخبار مملة وفيها الكثير من الانتقاء والزيف و الأكاذيب". اجتماعيا أزال  الروائي الستار عن مجموعة من المشاكل و المظاهر الاجتماعية التي تعرفها المجتمعات الغربية كمشكلة السكن التي تفاقمت بشكل كبير. كما أشار إلى بعض المظاهر الاجتماعية التي يعرفها المجتمع الغربي. نذكر منها الشذوذ الجنسي، الشح، استغلال النفوذ، السرقة، النفاق والتمييز العنصري...إن مستوى التمييز على العرق ولون البشرة واللغة خاصة لايزال يمثل واقعا يبعث على الحزن. يقول : "كنت أقرأ جرائد عربية في القطار و ينظر إلي بعض المسافرين بنوع من الحقد والحذر"، "العربي القذر!". بهذا يكون الروائي قد صحح بعض المفاهيم الخاطئة التي كانت عالقة في أذهان أغلب السياسيين و المثقفين لدول الجنوب عن المساواة وحقوق الإنسان في العالم الغربي. لجأ محمد ميلود غرافي إلى الحوار لإعطاء الموقف قوة الإقناع و التبرير، فربيكا الإنجليزية الأصل تتكلم وفق ثقافتها فلا دخل للروائي فيما يحصل. تقول : "إن البريطانيين بشكل عام منافقون و لا يظهرون ما يبطنون". يقولون غير ما يفعلون، ويعلنون غير ما يضمرون و ذلك خوفا من القوانين التي شرعت لمعالجة هذه الظاهرة ليس إلا.  ويمكن أن نلخص السبب الرئيسي لهذا التمييز العنصري في الشعور المرير بفقدان الهوية عند البعض وانتشار الحيرة والمخاوف و الاستياء. . .

إجمالا يمكن القول أن النص عبارة عن حوار بين جيلين مختلفين كل و نظرته إلى الحياة، لكنهما يشتركان في المأساة و المعاناة و خيبة الأمال. لقد أبرز الروائي محمد ميلود غرافي بكل وضوح عيوب المجتمع الغربي والبلد الأصلي معا، وصوَّر مجموعة من المظاهر قصد الإصلاح بلغة جد صادقة تمتعت ببعد أدبي وبلاغي كبير وهو ما قوَّاها من الناحية الفنية دون إغفال أهمية الحكاية.

 تنضاف رواية "لم أر الشلالات من أعلى"  إلى الأعمال المهجرية الحديثة التي ساهمت في تحديث و رقي الرواية العربية. ـ و تعتبر مادة  خام للدراسة النقدية وتسليط الضوء على مجموعة من الأمور و والأحداث ـ  وهي كتابات تؤسس لميلاد أدب يؤرخ لعلاقة الانا بالأخر برؤية مخالفة عن الرؤية النمطية التي تقدس المكان ويغلب عليها طابع الانبهار، و التي تصور أحيانا الإنسان الجنوبي البسيط  المغلوب على أمره تصويرا فولكلوريا. وهي زاوية  تندرج فيها رواية رشيد نيني : يوميات مهاجر سري . وأعمال مصطفى شعبان في: أمواج الروح  ورواية :"مرايا ". وعلى نفس الرؤية كتب محمد العتروس روايته : "أوراق الرماد".

مغربي مقيم في باريس