علي الوردي: (18) كلمة (لماذا) هي العدو الأوّل لوعّاظ السلاطين

علي الوردي: (18) كلمة (لماذا)

هي العدو الأوّل لوعّاظ السلاطين

المدنيّة مسرح الشيطان، والشكّ شرٌّ ضروري

د. حسين سرمك حسن

في الفصل الأول : (طبيعة المدنية) من كتاب "مهزلة العقل البشري" ، يؤكد الدكتور علي الوردي أولا على أهمية الإختلاف - وليس الاتفاق - في تطور البشرية . ويطرح فرضيته في أن مايسميه بـ (التنازع الاجتماعي) هو مفتاح نماء المجتمعات الإنسانية وتقدمها .

((إن الاتفاق يبعث التماسك في المجتمع، ولكنه يبعث فيه الجمود أيضا. فاتحاد الأفراد يخلق منهم قوة لا يُستهان بها تجاه الجماعات الأخرى ، وهو في عين الوقت يجعلهم عاجزين عن التطور أو التكيّف مع الظروف المستجدة. إن التماسك الاجتماعي والجمود توأمان يولدان معا . ومن النادر أن نجد مجتمعا متماسكا ومتطورا في آن واحد ... إن المجتمع المتماسك يشبه الإنسان الذي يربط إحدى قدميه إلى الأخرى فلا يقدر على السير. والرباط الاجتماعي مؤلّف من التقاليد القديمة ، فإذا ضعفت هذه التقاليد وبدأ التنازع الفكري والاجتماعي، استطاع المجتمع أن يحرّك قدميه ويسير بهما في سبيل التطور الذي لا يقف عند حد . إذا رأيت تنازعا بين جبهتين متضادتين في مجتمع، فاعلم أن هاتين الجبهتين له بمثابة القدمين اللتين يمشي بهما ))(125) .

والوردي يدرك أن في التنازع الاجتماعي مساويء أيضا مثلما له محاسن ، وقد يكلّف المجتمع ثمنا باهظا ، فهو أولا مجازفة نحو المجهول ، وهو ثانيا مثير للقلق وسالب للطمأنينة من النفس البشرية . إن المجتمعات المتطورة تقوم على  الحركة الدائبة للناس والمصحوبة بكثير من القلق . وهذه سمة غير موجودة في المجتمعات الراكدة التي تشعر بثقل الزمن وتسير على أساس مبدأ "العجلة من الشيطان" . وأمام الإنسان الحديث طريقان متعاكسان يستحيل الجمع بينهما : إما طريق الطمأنينة والركود ، أو طريق القلق والتطور .

و .. (( يُخيّل إلى بعض المغفّلين من المفكرين أن المجتمع البشري قادر على أن يكون مطمئنا مؤمنا متمسكا بالتقاليد القديمة من جهة ، وأن يكون متطورا يسير في سبيل الحضارة النامية من الجهة الأخرى . وهذا خيال غريب لا ينبعث إلا في أذهان أصحاب البرج العاجي الذين يغفلون عن حقيقة المجتمع الذي يعيشون فيه ))(126) .

إن مسألة ترابط القلق والألم والعناء بالمدنية يعد بالنسبة للوردي قاعدة أساسية ينبغي أن يضعها أي شعب يبغي التطور والنهوض نصب عينيه. وهو يستعير عبارة أرنولد توينبي :

((إن المدنية مسرح الشيطان ومجاله الذي تخصّص فيه ، وأن المدنية هي نتاج التنازع بين الله والشيطان. فقد خلق الله الشيطان عمدا وسلّطه على الإنسان لكي يسيّره في سبيل المدنية ))

.. ليربطها بموقف نقيض لرجل دين هو الشهرستاني في كتابه (( الملل والنحل )) والذي يرى أن لعنة الله حلت على إبليس بسبب احتكامه على الله بكلمة ( لماذا ) ، وأنّ كل شُبهة وقعت لبني آدم منذ بدء الخليقة حتى يومنا هذا ، نشأت كلها من هذه الكلمة الرعناء " لماذا ؟ " . لكن الوردي يرى أن هذه الكلمة ، الـ " لماذا " هي مفتاح التطور في المجتمع لأنها تعني الشك ، ولا حركة في المجتمع من دون شك في المسلّمات التي يحاول وعاظ السلاطين ترسيخها في أذهان الناس ليوصلوهم إلى ما يسميه الوردي "البلاهة العامة" . فإن الـ "لماذا" هي العدو الأول لوعاظ السلاطين . وهو يرى أنها تثير الجدل الذي يُنهى عنه شرعا . وأن سرّ معاداة وعاظ السلاطين لمنجزات المدنية الحديثة التي جاءت من الغرب هو إحساسهم إحساسا باطنيا بأن هذه الأمور الجديدة - على تفاهة بعضها - كقص الشعر والزي الحديث ستؤدي بالعقل إلى التحرّر تدريجيا ، وبذا فهي ستدفع الفرد ، من حيث يشعر أو لا يشعر ، إلى الشك والتساؤل في كل شيء، وهنا الطامة الكبرى. فـ :

(( الفكر البشري حين يشكّ في أمر واحد من أمور حياته ، لا يستطيع أن يقف في شكّه عند هذا الحد. فالشكّ كالمرض المعدي لا يكاد يبدأ في ناحية حتى يعمّ جميع النواحي . والإنسان إذ يكسر تقليدا واحدا لابد أن يأتيه يوم يكسر فيه جميع التقاليد ، وهو بذلك قد استفاد من جهة ، وتضرّر من جهات أخرى. ومن هنا جاء قول القائل : "من تمنطق فقد تزندق" )) (127) .

والشكّ هو مصدر الشر في المجتمع ، ولكنه شرٌّ ضروري يكمل الخير بالصراع ، وهذه النظرة طرحها أولا المتصوفة ثم أنضجها ابن خلدون في مقدمته . وبذلك يكون المتصوفة وابن خلدون قد سبقا "هيغل" بعدة قرون في نظريته المعروفة التي ترى أن كل شيء يحتوي على نقيضه في صميم تكوينه ، وإنه لا يمكن أن يوجد إلا حيث يوجد نقيضه معه .

ويرى الوردي أن هذا الشك هو من صلب المدنية الحديثة ، وعليه فإن سلبيات هذه المدنية لا يمكن تجنبها، وأننا مجبرون على أن نأخذ سلبياتها وإيجابياتها على حدّ سواء. وهي وجهة نظر فريدة ، حيث يعتقد الكثيرون أننا من الممكن أن نتطور في طريق المدنية ، وتبقى مجتمعاتنا آمنة مطمئنة محافظة على قيمها على حالتها السابقة :

(( يعتقد السُذّج من المفكرين بأن من الممكن تجزئة المدنية . أي أنهم يظنون بأنهم قادرون على تنقية المدنية من شقائها وقلقها مع الاحتفاظ بإبداعها وتجديدها . وهذا رأي لا يستسيغه المنطق الحديث . فالمدنية كلٌّ لا يتجزأ . فإن هي جاءت إلى مجتمع جلبت معها محاسنها ومساوئها معا. إنّ من المستحيل الفصل بين حسنات المدنية وسيّئاتها . والإنسان مضطرّ حين يدخل باب المدنية أن يترك وراءه تلك الطمأنينة النفسية التي كانت تكتنفه في أيام مضت ... نادى بعض مفكرينا حينذاك – يقصد مجيء المدنية إلى العراق خلال الحرب العالمية الأولى - قائلين : اتركوا مساويء المدنية وخذوا محاسنها فقط . ولكن هذا النداء ذهب صرخة في واد . لقد أنتجت لنا المدنية الجديدة إبداعا في الفكر وتجديدا في النظام ، ولكنها أنتجت في عين الوقت ارتباكا في الأعصاب وهلعا في النفوس وتكالبا لا ينتهي عند حد )) (128) .    

في الفصل الثاني : (منطق المتعصبين) ، يشير الوردي بشكل لا لبس فيه إلى أن وعاظ السلاطين عندنا لا يزالون يفكرون بأسلوب القرن العاشر ، كما يتجادل الفارابي وابن طفيل (( غافِلِين عما جاء به العلم الحديث من نظريات جعلت أقوال الفارابي وابن طفيل شبيهة بلغو الأطفال ))(129) .

 فوعاظ السلاطين يمارسون المنطق الأرسطي القديم الذي سيقهره المنطق العلمي الحديث .

ولاحظ النبرة التفاؤلية التي يتحدث بها الوردي عن المسيرة التصاعدية والتقدمية للتاريخ ، وحتمية انتصار المنطق العلمي :

(( كل ما أستطيع قوله في هذا الشأن هو أن المنطق الحديث سوف ينتصر - على أي حال - شئنا أم أبينا . إن منطق العلم الواقعي لا يقف شيء أمامه ، وهو سيغلب المنطق القديم كما غلب الرشاش أصحاب السيف في تنازع البقاء .... إن موكب التاريخ سائر ، دائب في سيره، وهو لا يعرف التفاضل على أساس المقاييس الاعتباطية التي يخيلها الفلاسفة من أصحاب البرج العاجي. ومن لا يساير الزمن داسه السائرون بأقدامهم ، إذ هو يستغيث فلا يسمع استغاثته أحد ))(130) .

فمنطق وعاظ السلاطين القديم يقوم على تمجيد العقل والحق والحقيقة في حين أن كل هذه مفاهيم نسبية . وهذا المنطق يتناسى أن العقل البشري مغلّف بغلاف سميك لا تنفذ إليه الأدلة والبراهين إلا من خلال نطاق محدود جدا . وهذا النطاق الذي تنفذ من خلاله  الأدلة العقلية مؤلّف من تقاليد البيئة التي ينشأ فيها الإنسان في الغالب. وهذا هو ما أسماه الوردي بـ " الإطار الفكري " في كتابه الأول "خوارق اللاشعور". وهذا الإطار انتقائي في التعامل مع الحق والحقيقة. ولتأييد ذلك ينقل الوردي رأيا خطيرا للجاحظ يرى فيه أن آراء الإنسان وعقائده ليست إرادية ، بل هي مفروضة عليه فرضا، وأنها نتيجة حتمية لكيفية تكوين عقله وما يعرض عليه من الآراء . فمن عرض عليه دين لم يستحسنه عقله ، فهو مضطر إلى عدم الاستحسان . وليس في الإمكان أن يستحسن . وهو إذن ليس مسؤولا عن اعتقاده ، إذ لا يكلّف الله نفسا إلا وسعها . ويعلق الوردي على رأي الجاحظ بالقول :

(( نحن لا نريد أن نناقش الجاحظ في رأيه هذا ، فهو رأي خطير جدا . وهو قد يدخلنا في موقف حرج لا ندري كيف نخرج منه . ولكننا نود أن نلفت نظر القاريء إلى هذه المقارنة الرائعة التي جاء بها الجاحظ بين المحسوسات والمعقولات ، فالعقل في رأي الجاحظ كالحس لا يخضع للإرادة إلا ضمن نطاق محدود .. والعلماء اليوم يعتبرون التفكير كالإحساس محدود ، فأنت لا تستطيع أن تعقل شيئا إلا إذا كان ذلك الشيء داخل نطاق المفاهيم والمقاييس الفكرية التي تعودت عليها في محيطك الاجتماعي)) (131) .

وهذا هو فعل ما سماه الوردي بالإطار الفكري الذي من أخطر سماته هو أنه لاشعوري . وهذا هو ما يغفله وعاظ السلاطين الذين يعتقدون أن الحقيقة ذات وجه واحد ثابت يدركها كل عقل بصورة مباشرة عند عرض الأدلة عليه . وهذا هو سرّ حماستهم في الوعظ والخطب .