محبرة الخليقة (23)

تحليل ديوان "المحبرة" للمبدع الكبير "جوزف حرب"

د. حسين سرمك حسن

ملاحظة : حلقات من كتاب للكاتب سوف يصدر عن دار ضفاف (الشارقة/بغداد) قريباً . 

وستحاصر شباك الدهشة عقول رجال الغد – بل حتى اليوم - حين يقرأون هذا النص / الأسطورة على لوح إلكتروني . لن يصدّقوا أن الله قريب منهم إلى هذ الحد ويحيا بينهم ، وأنهم قد امتهنوه إلى حدّ الإنمساخ حين حوّلوه إلى أنبوبة جنسية للتفريغ أو – في أحسن الأحوال - دمية جميلة للعرض . أو أن يُلقى باحتقار في الزوايا المظلمة بدلا من أن يتصدر منصّات المساجد والمعابد ليعبد ويُتبرّك به . وهذا ما حصل فعلياً عندما استلبت الذكورة حقوق الأنوثة المقدّسة ، كان الرجال يعبدون الأنثى ، ولكنهم كانوا يضمرون لها الحسد المتأجج ويتصيّدون فرص الثأر . لم تكن النسوة مصاباتٍ – حسب توصيف سجموند فرويد في إحدى تخريجاته المعصوبة – بـ "حسد القضيب – penis envoy" ويتشوّقن بحرارة للحصول عليه من الأب أو الأخ كقضيب أو صبي . كان الرجال هو الذين أصابهم دور الأنثى الكوني بـ "حسد الخصوبة" إذا جاز لي القول . وكانت الأم هي التي يسّرت للرجال الإنقلاب عليها حينما وفّرت لهم كلّ شيء .. ومنحتهم الإستقرار باكتشاف الزراعة الذي خلّصهم من التجوال صيداً ورعياً ؛ تجوال يحدّد آفاق العقل وتفتّح إمكاناته التآمرية على دور الأنثى إلى استقرار يدفع إلى التأمل الخلّاق والبقاء في البيت أو قريباً منه ، ووجود "حقل" لتنفيس العدوان . وهذا ما حصل فقد تبدّلتِ الأدوار كما يقول الشاعر ، وتسيّد اللاشيء سدّة "كلّ الاشياء" :

(    ما كانَ شيئاً .

                    لا أباً ،

                    لا مالكاً ،

                    لا آمراً ، لا مُخصباً .

        عبدٌ صغيرٌ

             للأبدْ .

                    ما ضاجعَ امرأةً وصارتْ من

        غمامةِ خصبهِ حُبلى ،

                وكان له ولدْ .

                صلّى ، أقامَ الطقسَ ، أنشدَ .

       إنّما كانت إلهتهُ الوحيدةُ ، لم يشاركها

       بعزّتها

                 أحدْ .

                 وتبدّلتْ أدوارُ كلٍّ منهما ،

       من بعدِ ما عرفَ الرجالُ الرمحَ ، والنيرانَ ،

                 واكتُشفَ

                 الجسدْ . – ص 464 و465) . 

لقد وقع الإنقلاب الكبير بإزاحة الرجال للنساء وسلب السلطة منهنّ ، وتحويل "حقّ الأم" إلى "حقّ الأب" جاءت مقدّمات حضارة عنيفة تفرّق بين الناس ولا توحّدهم ، وأداتها العدوان لا الحب في البقاء والسيطرة . كان إسقاط حقّ الأم هزيمة تاريخية عالمية ليس للجنس النسائي كما يقول بعض المختصّين ، بل هزيمة للحضارة بمفهومها النمائي الحيّ الموحّد والمسالم . وبدلاً من الزمان الرخي الذي كانت فيه عشتار تُخلق من طينتها ، تخلق نفسها بنفسها ، لتقود الجنس البشري نحو الفردوس المنعم والمساواة ، جاء الزمن الذي تصبح فيه تابعة بلا حول فتُخلق من ضلع آدم الصغير ، وتوصم بالخطيئة والتسبّب بشقاء الإنسان وعذابات هبوطه وطرده من الفردوس ، وأيّ أمٍّ تعذّب أبناءها الذين ولدتهم بالآلام وصرخات الخلق ؟! ورمزيّاً ، الخطيئة هي التي تضع على الفور نهاية لعصر المرأة الذهبي . والخطيئة المعنيّة ليست خطيئة الجسد كما يشرحها الكهنة وإنّما خطيئة المعرفة ؛ معرفة الجسد . إنّها فترة التاريخ التي "تكتشف" البشرية فيها القضيب (العضو الذكوري) تلك الفترة التي يصبح فيها دور الذكر في عملية الخلق واضحة .

وفي الحقيقة ، لا يوجد خطأ في التفسير الجنسي للذنب في التوراة ، إلا أنه يجب الفهم تماماً أن التمتع الجنسي بذاته ليس هو الجدير بالعقاب ، وإنما معرفة نتائجه : ضياع الطهارة . فبدءاً من هذه الثورة العلمية ، والصدمة الأساسية للضمير البشري ، فإن المرأة الأولى ، التي كانت الملكة أو المساوية للرجل ، ليليث ، سوف تُطرد من الجنة . وسوف تحل محلها حوّاء ، الخادمة الوديعة المستلّة من ضلع ذكوري ، ويحل الإله الأب محل الربّة الأم .. وسوف تتأسس ديانة جديدة هي ديانة الرجل لتحل محل الديانة القديمة ديانة المرأة بعد صراع طويل :

(دينانِ :

          دين امرأةٍ ،

          دينُ رجلْ .

          تصارعا .

          تذابحا .

          وكان رمزُ الأولِ

          الرحِمْ .

          وكان رمزُ الآخرِ

          القضيبْ .

          حتى أتى آدمُ من طينٍ ، ومن

ماءٍ ، وروحٌ فيهما

          خضراءْ

          واستلّ من أضلاعهِ الخالقُ

          ضلعاً اسمهُ

                  حوّاءْ . – 466 و467) .

وحين يشير الشاعر إلى أنّ ديني المرأةِ والرجلِ قد "تصارعا وتذابحا" فإنه يشير فعلاً إلى أن السلطة الأمومية الخلّاقة لم تتم إزاحتها بسهولة وبقرار ذكوري مجحف .. بل كان عملية صراع طويلة ، ليس لأنّ من الصعب أن يُلغي "القضيب" رمز الرجل بفعله الإختراقي المعروف ، وتأثيره الإخصابي غير المعروف ، وخلوّه من هواجس الخلق والولادة الأنوثة الرخيّة حسب ، بل لأن الأمومة الخالقة لها وجه "محارب" أيضاً إذا جاز التعبير . هذا ما عبّر عنه الشاعر في نصّ "الأمازونية" ، وهنّ النساء الإغريقيات المحاربات اللائي أسسن مدناً مستقلة مغلقة بعيدة عن سيطرة الرجال .. واللاتي إذا أردن الإنجاب أتين بلاداً مجاورة فضاجعن رجالها وعدن من حيث أتينَ . حتى إذا وضعن مواليدهن قتلن الذكور في المهد وأبقينَ الإناث ، اللواتي تتم تربيتهن منذ الصغر على فنون الحرب وكره الرجال . وأعتقد أن في هذه الأسطورة الكثير من الإسقاطات الذكورية وفيها إساءة بالغة للأنوثة إذ تجرّدها من أهم مقوّمات الحضارة العشتارية وهي الحب والرحمة والخصب والمساواة . ومن التناقضات التي تحفل بها هذه الأسطورة هي أن الأمازونيات هجمن على مغتصبيهن الليديين للثأر منهم بقتلهم وأسرن بناتهم كي يمارسن العهر .. فياله من ثأر مقدّس للشرف ؟!

ولعلّ قصيدة "الأب" تصوّر خطوة على طريق هذا الإنقلاب المروّع الذي نعاني من مضاعفاته العصابية حتى يومنا هذا . ففي الوقت الذي كانت عملية إخصاب المرأة لغز كوني محيّر أدى إلى تأسيس ديانة الرحم كما يقول الشاعر ، أصبح البحث عن الأبوّة انسعار ذو فحيح . كانت المرأة من الممكن أن تخصّب بأي شيء ، ولم يكن الرجل موضوعاً في حساب العوامل الفاعلة . وكان الماء من أهمّ العوامل تلك . حتى أنّ القدماء كانوا يعتقدون أن استحمام المرأة بماء بئر استحم فيه رجل قبلها سيسبب جملها . وفي كلّ النصوص التي صاغها الشاعر عن الكيفية التي تسبب فيها المكونات الطبيعية حبل المرأة من غبار ومطر ومياه بحيرة وحبّات عنب وغيرها كانت التجربة تولد أحاسيس الإنجاز وممزوجة بمشاعر الدهشة والطمأنينة . أمّا هنا ، فإن الأنثى المخصّبة تستشعر بالخطر الداهم إذا لم تجد أباً محدّداً لجنينها :

(               وإلّا سوفَ تلحقُ يا

                           بناتُ بي الفضيحهْ .

                      ولسوفَ أعتزلُ القبيلةَ ، حيثُ أبني

                يا

                      بناتُ

                      لطفليَ الآتي ضريحهْ . – ص 427) .

لكن أين يتألق الشعر ؟ في أي النصوص يسبّب الشعر "الدغدغة النفسيّة" كما وصفها "الفخر الرازي" في القرن السادس الهجري ، ويستثير الإنفعالات الحسّية والمجردة ؟

إنّها في "قصار القصائد" إذا جاز الوصف . في النصوص التي تشتغل على العمق الملتهب وسط نصوص طغى على بغضها الطابع "الذهني" . في نصّ "حين تمر" أولاً :

(           حينَ

            تمرْ 

            في جسدي ، أعرفُ أنّ هنالكَ

     سرّاً ، لكنْ ،

           أجهلُ ذاك السرْ . – ص 424) .

وفي نصّ "أنت" ثانياً :

(            كلُّ ما في الكون من نارٍ ،

وإعصارٍ ، وفيضٍ مالحٍ ،

              يولدُ فيكْ

              عندما لذأتُ جسمي

              تشتهيكْ . – ص 416) . 

ولاحظ ما الذي يحصل في استجابتك العميقة حين يحوّل الشاعر ما هو ذهني إلى ما هو محسوس يثير الإنفعالات والتساؤلات كما في نصّ "السائل الأول" :

(            أجملُ ما كانَ لديَّ

             الأخيلهْ ،

             لأنني أولُ من أبحرَ في

     مجهولهِ ،

             ورافقتهُ الأسئلهْ . – ص 432) .

عشراتُ الصفحات التي دبجناها في مديح الأنوثة لُخّصت في نصّ من بيتين ، وهذه من مميزات "علم معرفة" الشعر . مثل هذا التكثيف الحسّي الصوري يحققه الشاعر أيضاً ، في نصّ "رائحة" :

(           في زمنِ الربّةِ ، لو شمّتْ

      هذي الأرضُ

            الأيّامْ ،

            ما شمّتْ فيها إلّا رائحةً

            من زيتونٍ وحمامْ . –ص 440) . 

لكنْ أينَ يحقّق الشعر "تقطيع القلب" وهو أعظم اختصاصاته ، وأنبل وظائفه بإطلاق ؟

يتحقّق تقطيع القلب حين يتكسّر قلب الشاعر النبيل – كما هو العهد بجوزف حرب دائماً – وهو يراجع بؤس الإنسان ومهانته وإنذلاله سواءً بما تقرّه الأعراف التي لا ترحم والتي يهمها في اغلب الأحوال تحقيق "القوانين" لا "العدالة" , أو بما تفرضه سلوكيات أخيه الإنسان القاسية ، أو بما ترسمه الأقدار المجحفة ؟

في قصيدة "الغرباء" ، وهو يراجع تفصيلات طقس البغاء المقدّس - وكنت أتمنى أن يُسمّي المختصون هذا الطقس تسمية أخرى غير تسمية "البغاء" ، فهذا المصطلح من اختراعنا نحن المتعالمين المحدثين ، ولم يكن ممارسوا الطقس القدماء المتصالحون مع ذواتهم يشعرون بأي عار منقصة أو حسّ بالدعارة كما فرضتها حضارتنا الحديثة – يصوّر الشاعر حركة النسوة في المعبد ، وكيف يكون اختيار الرجل لأي امرأة برمي قطعة نقود في يدها ، هو المفتاح الوحيد لعودتها إلى منزلها . ومن المؤكّد أنّ الرجل – أي رجل – سوف يختار الحسناوات من النسوة اللائي سوف يعدن إلى بيوتهن بعد أن أدّين فريضتهن بإخلاص . لكن ما هو حال البائسات اللاتي لا يتمتعن بقدر من الجمال يوفّر جذب الرجل .. المشوّهات مثلا . هنا يبدأ تقطيع القلب حيث لا يمكن أن يمرّ الشاعر عابراً على آلام الإنسان المقهور حتى لو كانت القوّة التي قهرته هي الأقدار العمياء :

(                  قد تبقى من لمْ يخترها رجلٌ ،

      تبقى سنةً أو سنتينِ . وقد تُتوفّى في المعبدِ

      لكنْ

          لا عودةَ للمنزلِ .

                      كمْ نبتتْ أعشابُ الحزنِ عليها .

      وسقاها غيمٌ من

                     وجعٍ

                     وبكاءْ ،

                     يا للفقرِ الساكنِ فيها !

                     يا لليلِ الموحشِ !

                            يا

                            للصحراءْ !

                     لا وردةَ فيها . جسدٌ قسمانِ :

        خريفٌ مبتلٌّ

                   بشتاءْ

                          ولَكَمْ كانت تستعطي رجلاً

              كسرةَ نوم  معها ، لتعودَ لمنزلها . ما

              كانَ رجال العيدِ رجالاً حسبُ قساةً ،

              فجميعُ رجال العيدِ

                     من الغرباءْ . – ص 430 و431) .

عشرات الصفحات التي قرأتها عن طقس "البغاء" المقدّس كُثّفت ورُكّزت في هذه الأبيات بصورة تخز سويداء القلب بخنجر الشعر الصغير الماضي المدبب . كيف يكون على النساء أن يقدمن فريضتهن للإلاهة من خلال جسدهن ، وكيف يكون عليهن أن لا يعدنَ إلى منازلهن إلّا بعد أن يقدمن هذه الفريضة ، ودور النقود ، ورفض الرجل .. ووصف حركة النسوة ، وهل الطقس مخجل أو غير مخجل .. كل ذلك لا علاقة له بالشعر .. لأن لا علاقة له بالقلب .. ولا بروح الإنسان المكسورة . وألف إلاهة خصب لا تستطيع أن تبرّر لي أو تنسيني صورة هذه المرأة المنسية والمنبوذة التي تستجدي كسرة نوم من رجل . هذا هو فنّ تقطيع القلب ، وهذا هو الفارق بين شروحات هيرودوتس وكريمر وفرانكفورت إخصائيوا الاسطورة المحايدون الموضوعيون ، وشروحات جوزف حرب الشاعر نصير المسحوقين وضحايا الأقدار في أي مكان وفي اي زمان .

يتكرّر تقطيع القلب هذا ، بصورة اكثر إيغالا ومضاءً في قصيدة "سيّدة النار والرماد" التي يعالج فيها الشاعر الطقس نفسه وهو يجرى بصورة أوسع نطاقاً في معبد مدينة الإسكندريّة . 1400 غرفة ضمّها هذا المعبد وفيها 1400 امرأة مستعدة لممارسة هذا الطقس بروح مخلصة . كان النسوة يأتين من كل مكان في العالم .. حتى من الصين !! وكانت أي امرأة منهن حين تدخل المعبد فإنها لا تخرج إلّا في بداية شيخوختها . كل هذا الوصف الوافي والدقيق من اختصاص المؤرّخين والأسطوريين . يبدأ دور الشاعر مع هذه الإنسانة المحطّمة التي ذوت بفعل  الشيخوخة ، ولفظها المعبد القاسي برغم قداسته ، وحيدة متعبة منبوذة في وحشة ذلك العالم الجائر . يتابع الشاعر خطواتها الكسيرة وقد ولّى شبابها إلى غير رجعة ووضعت على جدول زيارات الموت القريبة :

(                                       ......... وتمضي ،

      لا يرافقها إلّا دموعٌ

                           حملتها مقلتاها ،

                           وأطارتها مع الريحِ

                           يداها ،

                           حيثُ تحيى وحدها . تُنفقُ ممّا

      قد جنتْ ، بعضاً على عزلتها . بعضاً على تلكَ

      المساحيقِ التي تلمحُ فيها

                           طيفَ أيامِ صباها . – ص 443) . 

ولم يخطيْ بعض المحللين حين اعتبروا الشعر ابن الحزن وتلميذ الكآبة ونتاجها . الفرح يسفّه قدرات الشعر ومكانته كقوة كبرى لمقاومة الفناء . وهذه المقاومة يحققها الشعر بالتصوير الذي يجعل الفعل خلقاً فريداً . فذبول شباب هذه المرأة وسطوة الزمن الغادرة القاهرة تتجسد من خلال الدموع التي تسقط في يديّ المرأة لتأتي الريح وتطيرها بلا مبالاة .

إنّ كل ما قلناه عن تصالح الإنسان القديم مع ذاته ومع العالم المحيط به ، وكلّ فضائله التي استعرضناها ، لا تلغي حقيقة أنه كانت هناك قسوة بالغة يُعامل بها الإنسان في ظلال حضارة الأمومة الوارفة كما زعمنا . وقد تكون هذه استثناءات ، ولكن هذه الإستثناءات هي التي تشكّل روح فعل الشاعر .