نثر الأزاهير فوق كتاب قوارير

محمد جهاد إسماعيل

محمد جهاد إسماعيل

كاتب وناقد فلسطيني

الرصاصة , أو الطلقة , هي جسم صغير جداً , بضع مليمترات من المعدن , لو رآها أحد أسلافنا القدماء , لشبع منها هزواً وضحكاً . وما كان ذلك الجد العتيق ليؤمن أو يصدق , أن تلك الطلقة الصغيرة , بإمكانها أن تقتل رجلاً وترديه قبراً . ما كان ليؤمن أو يصدق , أن تلك الطلقة الضئيلة , بإمكانها أن تقيم دولة ولا تقعدها , بإمكانها أن تهدم عروشاً , وتأتي بعروش أخرى بدلاً منها.

 لم أجد شيئاً , لأشبه القصة القصيرة جداً به , أفضل من الطلقة. فالقصة القصيرة جداً, تشبه الطلقة في كل شيء. القصة القصيرة جداً حجمها صغير جداً , وهكذا الطلقة !. القصة القصيرة جداً لها أثر كبير جداً , وهكذا الطلقة !. القصة القصيرة جداً تقتحم العقول , وهكذا الطلقة !. القصة القصيرة جداً تخترق القلوب , وهكذا الطلقة !.

 أعذروني على هذه البداية النارية , فما جئتكم بسطوري وبياني , وما يخطه قلمي وبناني , إلا لأحدثكم عن كتاب (قوارير) , وكاتبته المبدعة شيرين طلعت , أقحوانة الإسكندرية.

 لا أخفيكم أن كتاب (قوارير) , هو أول كتاب قصص قصيرة جداً أقرأه في حياتي. فقد اعتدت من قبل , أن أقرأ القصص القصيرة جداً , بشكل متفرق وعشوائي وانتقائي. أو إن شئتم قولاً أكثر وضوحاً, فقد كنت أطالعها غالباً, من خلال المواقع الثقافية على الشبكة العنكبوتية , ولا أطالعها من الكتب.

 عندما نتحدث عن كتاب (قوارير) , فنحن نتحدث عن كتاب متخصص في فن القصة القصيرة جداً. كتاب لا يحوي بين دفتيه, إلا القصص القصيرة جداً. وبالمناسبة, اسمحوا لي أن أرد الاعتبار لهذا الجنس الأدبي المظلوم والمغبون. اسمحوا لي أن أرد الاعتبار لجنس القصة القصيرة جداً. فبعض النقاد أو القراء والمتذوقين , ربما يحقروا منه ويحطوا من قدره , نظراً لصغره , ومحدودية رسمه على ظهر صفحات الكتب. أما في الواقع, فجنس القصة القصيرة جداً لا يقل عن جنس القصة القصيرة أو الرواية , من حيث القدر والأهمية. وليست مهمة فهم واستيعاب القصة القصيرة جداً , أسهل أو أيسر على القارئ, من مهمة فهم واستيعاب القصة القصيرة أو الرواية. فما القصة القصيرة جداً, إلا قصة قصيرة أو حتى رواية, مختصرة ومركزة في سطرين أو ثلاثة أسطر !.

 بل إن تكثيف وتركيز الكاتب للمعلومات والأحداث في متن القصة القصيرة جداً, ربما يجعل فهمها أعسر من فهم القصة العادية أو الرواية. فالقصة القصيرة جداً تتحول حينئذ إلى ما يشبه اللغز المعقد, المحير والمنكل لعقل القارئ.

دعونا رجاءاً ألا نستهن بجنس القصة القصيرة جداً, فعبارة: (السهل الممتنع), هي أفضل من تعبر عن حال هذا الجنس أو النوع الأدبي. أجل, فالقصص القصيرة جداً تبدو سهلة في ظاهرها, لكنها في باطنها قلعة حصينة منيعة , لذا هابوها واحترموها, ولا تستخفوا بها.

 القصص القصيرة جداً كما رأيت في كتاب (قوارير) , تحتاج إلى ذكاء وفطنة من القارئ. وهي لم توضع كي يمر عليها القارئ مرور الكرام. بل يتعين على القارئ أن يعطيها قدراً وافراً من الاهتمام, فيقف عند كل قصة منها, ويعطيها زمناً أكثر من مجرد زمن القراءة. يعطيها زمناً كافياً كي يتأمل في مكنوناتها, ويغوص في ثناياها, ويستنتج المقاصد والإيحاءات والأهداف منها.

 كتاب (قوارير) يحوي عشرات القصص القصيرة جداً, وجميعها تحتاج إلى الفطنة والذكاء, من أجل فهمها واستيعابها. فشيرين طلعت لم ترسم قصصها, كي يمر عليها القارئ طالب العبارات المزركشة المنمقة, أو طالب المحسنات البديعية, أو طالب المتعة الأدبية فحسب. بل ليمر عليها القارئ صاحب التدبر, والتفكر, والتأمل, والتعقل, والتحليل, والتخييل, والتأويل, والتفكيك, والتفسير.

 بكلمات قليلة معدودة, ترسمها لنا شيرين طلعت في كل قصة من قصصها, هي تعطينا طرف الخيط, هي تعطينا أحجية, لنستنتج ونتخيل ونتأمل, آلاف الكلمات والسطور والصفحات الغير مرئية. فخلف كل قصة من قصص شيرين طلعت, تكمن رواية خفية. شيرين تستفز تفكيرك وعقلك كقارئ, أما أنت فعليك أن تركب وتهيكل أحداث الرواية بنفسك, لتعشها أنت, في خيالك وعالمك وحدك.

هيا لا تتردد, انسج أحداث رواية من كل قصة ترسمها لك شيرين. انسج أحداث الرواية بنفسك, فها هي أمامك الجذور والبذور.

 وجدت القصص التي يكتنز بها كتاب (قوارير), أنها قصص متنوعة الأفكار ومتعددة المضامين. ففي الكثير من القصص نجد شيرين تتطرق إلى القضايا الاجتماعية. في قصة (فصام) تتطرق إلى السياسة. في قصة (مشهور) تتقمص دور الفيلسوفة. في قصة (وجه آخر) تقدم لنا وصلات من الفكاهة والكوميديا. في قصة (قوارير) تأخذنا إلى الحب والرومانسية. من قصة (كبرياء) تفوح رائحة السيكولوجيا. أما في قصة (تعاون), فنجد أنفسنا أمام عالم الإيكولوجيا.

 لا يخلو كتاب (قوارير) من الرسائل والبرقيات. فالكثير من قصص الكتاب هي بمثابة رسائل, أرادت شيرين إيصالها لفئة الشباب والمجتمع وعامة الناس. كما لا يخلو الكتاب, من الدروس والعبر والعظات الأخلاقية. فالقارئ للكتاب يدرك جيداً, أن شيرين في كذا موضع, ارتدت قفاز الطبيب, وأمسكت بيدها المشرط, لتشرح مواطن الداء, وتداوي أسباب الوجع. فكتابها فعلاً كتاب هادف, ما انفك يلامس هموم الإنسان الحائر, أو الإنسان التائه في دهاليز الحياة.

 أستنتج من قراءتي لكتاب (قوارير), أن شيرين طلعت لها أسلوب راقي ورائع, لها أسلوب قوي وجريء وصريح. أستنتج من قراءتي لقصص شيرين طلعت, أن لغتها تمزج بين جمالية الأدب وواقعية الحياة, بين ألم التجارب واستشراف الأمل, بين خطايا المحبين وسمو الحب. أرى أن قلمها المسكين, يستسلم ويخضع تماماً, لفيض مشاعرها وإحساسها المرهف.

****

(نثر الأزاهير فوق كتاب قوارير).

رابط الصورة :

http://www.4shared.com/account/home.jsp#dir=0izaOm4i