قضية الشكل في الشعر الإسلامي المعاصر

الطيب أحمد رحماني

الطيب أحمد رحماني

لم يكن الأدب الإسلامي بدعا من الآداب في تعامله مع الأنواع والأشكال الأدبية المختلفة التي ظهرت حديثا مثل الرواية والقصة القصيرة والشعر الحر...فقد وجدت هذه الأشكال مكانا لها ضمن الأدب الإسلامي وتعامل معها رواده من الأدباء والنقاد بلباقة وحكمة إيمانا منهم بقابلية الأشكال للتطور والتبدل بتقلب العصور والأزمان.

غير أن تفصيلات الأشكال الجديدة غالبا ما كانت مدار نقاش بين الإسلاميين، ومن ذلك قضية الأشكال الشعرية الجديدة، وإذا كان الشكل في الشعر يتخذ أبعادا أكبر من الوزن والقافية (أي ما يسمى الإيقاع الخارجي)، فإن المقالة ستقتصر على رصد جوانب من النقاش الذي دار حول هذا البعد بالذات، من خلال الموازنة بين التيار المؤيد لخيار المحافظة على الشكل العمودي للقصيدة، والتيار الذي مال إلى التجديد وتبنى خيار الإفادة من مختلف الأشكال الشعرية الحديثة، مع رصد نقاط الالتقاء وخطوط التوازي بين الفريقين، ونقد الدوافع والحجج التي يستند إليها كل منهما.

وتجدر الإشارة إلى أن اختلاف رؤى الإسلاميين مقتصر على الشكل الشعري الذي لا يلغي الوزن، وإنما يجدد في إطاره، أي الشكل الذي عرف بشعر التفعلة أو الشعر الحر...أما الأشكال التي تلغي كل الفواصل والحدود العروضية للشعر فإنه يكاد يتحقق الإجماع بشأن إبعادها عن دائرة الشعر كما سنرى.

1- موقف رفض الأشكال الشعرية الجديدة:

الذين تبنوا موقف الرفض المطلق لكل تجديد يمس المقومات الشكلية التي ورثها الشعر العربي والإسلامي عن القصيدة القديمة، هؤلاء قليلون مقارنة مع من مال إلى القبول ببعض التجديد ولو في حدود تلك المقومات، ويبرز منهم اسمان مهمان ضمن الأدب والنقد الإسلاميين المعاصرين هما محمد حسن بريغش، وعدنان النحوي.

أما بريغش فقد عرف عنه تشدده في قبول المعطيات الوافدة من الغرب، والعمل على تفنيد الوضع السائد الذي يجعله صانع الجديد، والدعوة إلى ضرورة التجديد من الداخل، والتجديد الذي لا يشكل غاية في حد ذاته...وتحت هذا الإطار الفكري فإن بريغش يرفض الشكل الشعري الجديد الذي يراه وافدا من الغرب، ويمكن حصر دوافع هذا الرفض في ثلاثة:

 - أن العامل الرئيسي الذي يقف خلف هذا التجديد هو متابعة الحداثة الغربية التي قامت من أساسها على تحطيم الفواصل بين الشعر والنثر، ولذا فقصيدة النثر "تطور طبيعي لهذا الاتجاه، حيث بدأ بالخروج عن البحور العروضية المعروفة ثم شعرا قائما على التفعلة ثم شعرا متحررا من القافية والروي وصولا إلى شعر منثور"[1].

- أن الشكل الجديد تحلل من أهمية التمايز بين الشعر والنثر، وفي هذا خطر شديد على مقومات الأمة، وفي مقدمتها قدسية القرآن الكريم والحديث الشريف، حيث إنه إذا اختفت تلك الفواصل  سيكون من السهل اعتبار كثير من آي القرأن الكريم وكثير من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم شعرا[2].

- أن الشكل الجديد حمل معه مضامين دخيلة وسامة، "أظهرت نوايا عدوانية لكل عقائدنا وقيمنا ولغتنا وتراثنا، وجاء بعقائد ومفاهيم جديدة لا تخفى هويتها الغربية ومشاعرها لكل ما يتصل بالإسلام"[3]

ونلاحظ في موقف بريغش الرافض للأشكال الشعرية الجديدة أنه:

- لا يميز في رفضه لتلك الأشكال بين أنواعها المختلفة، لذا فهو يحشر مصطلحات شعرية متباينة في صعيد واحد: شعر التفعلة، الشعر الحر، النثر الشعري...

- لا يرى بأسا في دراسة الشعر القائم على هذه الأشكال إذا كان جديرا بذلك، فهو يدرس "الأثر الأدبي وأبرز ملامحه وسماته وصوره بغض النظر عن الشكل"[4]

وأما الناقد الشاعر عدنان النحوي، فيتمسك بالشكل القديم في شعره بكل دقائقه وجزئياته، وهو من الشعراء الإسلاميين القلائل الين تميزوا بمثل هذا الموقف، ولم يبدوا أي حماسة لأي نوع من التجديد، وقد عبر النحوي عن موقفه هذا صراحة ضمن كتاباته النقدية، ومن دوافعه في ذلك:

- أن الشكل الجديد لا يخضع لقانون معين، وقانونه الوحيد هو التفلت والاضطراب، فنموذج "يعتمد التفعلة يقوم على عدد غير محدد في كل بيت مع قافية على غير قانون، ونموذج يعتمد التفعلة المضطربة، ولا يلتزم بأي قافية أبدا، ونموذج هجر التفاعيل كلها والقوافي كلها..." [5]

- أن تفلت هذا النوع من الشعر لا يقف عند حد العناصر الشكلية، بل يتعدى إلى التفلت من المعنى، وتفعل الغموض، حتى إن القارئ لا يكاد يعثر على فائدة تذكر فيما يقرأ من شعر... [6]

ونرى أن موقف الناقدين ينطوي على شيء من التعميم والأحكام المطلقة التي تحتاج إلى قدر غير يسير من التروي لدراسة الظاهرة من جوانب شتى مع استحضار المقارنة بين المصلحة والمفسدة، ولذا يجدر تقويم هذا الموقف في ضوء الملاحظات الآتية:

- إن عدم التمييز بين الأشكال الشعرية الجديدة وحشرها جميعا في سلة واحدة مدخل كبير للحكم عليها جميعا بالإبعاد والنفي، ومبدأ التعميم مظنة كبيرة للخطأ في الأحكام، وليس صحيحا أن الأخذ بأي شكل من تلك الأشكال يعرض قدسية القرآن الكريم والحديث الشريف للخطر، والأجدر في هذا أن تتم دراسة كل حالة على انفراد، مع الموازنة بين حجم النقائص والمزايا بما يحقق مصلحة الشعر الإسلامي.

فإذا قارنا مثلا بين شعر التفعلة وما يسمى "قصيدة النثر" فإن الفارق لا يسمح بجعلهما في صعيد واحد، إذ في شعر التفعلة مراعاة لقدر من الوزن الشعرى العربي الأصيل ذي الجذور التراثية ترتد إلى الأوزان التي توصل إليها الخليل بن أحمد الفراهيدي...بينما يعلن ما يسمى "قصيدة النثر" قطيعة مطلقة مع التراث، ويلغي الوزن الخارجي للشعر أصلا.

- أن رفض التجديد والانفتاح على المستجدات الأدبية والفنية دون محاولة للتمييز وتمحيص ما يصلح منها، ستكون له نتائج عكسية على الأدب والشعر الإسلاميين، من أبرزها الجمود والتحجر على خصائص شكلية بعينها دون أن تلزم بهذا التحجر ضرورة شرعية أو واقعية...ووضع كهذا من شأنه أن يغذي التمرد الذي أعلنته مبكرا شريحة من الأدباء والشعراء العرب استهدفت النيل من مقدسات الأمة من مدخل أدبي.

- أما كون الأشكال الجديدة ـ ومنها قصيدة التفعلة ـ تقلل من فاعلية الفواصل بين الشعر والنثر، ومن ثم تجعل الشعر يخالط القرآن الكريم من حيث وجود الوزن أو عدم وجوده، فلابد أن ينتبه فيه إلى أن الوزن ليس المحدد الوحيد لممايزة القرآن الكريم للشعر، ذلك أن كثيرا من آي القرآن الكريم وعباراته يتفق مع جزء من الأوزان الشعرية، غير أن هذا لا يؤثر نظرا لغياب الاطراد أي الانتظام الكامل للأوزان الشعرية المعروفة، ولغياب النية في قول الشعر، وقد تنبه القدماء لهذا الشرط  لما عدوا النية ركنا في تعريف الشعر، فلك أن تقول ما تشاء من الكلام الموزون أو غير الموزون، ولكنه لا يدخل دائرة الشعر إلا بالنية، وقد يظل الكلام الموزون المقفى خارج دائرة الشعر إذا فقدت النية.

- ليس من المعقول أن تُرفض كل حركة تجديدية بدعوى أنها تستند إلى معطيات وافدة، والأولى أن يقبل الأديب المسلم على كل جديد ولو من خارج الذات شريطة أن يعمل في ذلك قاعدة جلب المصلحة ودرء المفسدة، وأن يُخضع الوافد لأسلمة تشذبه وتجعله ملائما لمتطلبات المحيط الإسلامي بالقدر الذي يجعل منه عامل قوة لا فاعل ضعف وهدم...

- إن ارتباط الحركة التجديدية العربية بالتيارات الغربية المناهضة للإسلام وما خلفه هذا الارتباط من نتائج على الشعر ومن أبرزها التعبير عن مضامين دخيلة متفرعة عن الفلسفة الغربية مثل الماركسية واللبرالية والعلمانية...لا يمنع من النظر فيما أبدعه الغرب بعين إسلامية متفحصة، ذلك أن كثيرا من رواد الحركة التجديدية العربية في الشعر كان يحمل نيات مبيتة للتأثر بالفكر الغربي لذا انطبع ذلك في أشعارهم، بينما يحرص الشاعر الإسلامي على تجريد الأشكال من حمولتها الغربية ما أمكن، ويستثمرها في التعبير عن أفكاره الخاصة التي يستمدها من التصور الإسلامي...

2- موقف قبول الأشكال الشعرية الجديدة:

الأدباء والنقاد المؤيدون لانفتاح القصيدة الإسلامية على الأشكال الشعرية الجديدة كثر مقارنة برافضي هذا الانفتاح، ومنهم نقاد وشعراء بارزون في ساحة الأدب الإسلامي.

ومن أبرزهم الناقد عماد الدين خليل الذي دعا الأديب المسلم إلى التحرر مما أسماه التخوف من الأشكال المتجددة، بناء على أن الأشكال محايدة ويمكن أن تصلح لمختلف التصورات[7]. ومن هذا المنطلق يرى خليل أن كافة الأشكال الشعرية مباحة للشاعر المسلم، ما دامت لا تتمرد على القديم و"لا تكسر هندسة الشعرية التي صنعتها عشرات القرون من الجهد والعناء..." [8]

غير أن عماد الدين خليل يبالغ في دعوته إلى الأشكال الشعرية الجديدة ويخالف أدباء ونقاد التيار الإسلامي في موقفهم الرافض لقصيدة النثر، ويستعمل مصطلحات من قبيل: قصيدة النثر، والشعر النثري...وهذا الموقف في الحقيقية ينطوى على تداخل كبير، إذ كيف لا يرى خليل بأسا في القبول بمثل هذه الأشكال والأسماء، في الوقت الذي يدعو إلى المحافظة على ما أسماه "التقاليد العروضية" حدا أدنى للشعر الإسلامي؟

أما الناقد عبد القدوس أبو صالح فيرى أن شعر التفعلة ضرب من التجديد، وثمة عدة دوافع تجعل الشعر الإسلامي مقبلا على مثل هذا التجديد منها:

- أن الشعر العربي القديم قد عرف محاولات متعددة للتجديد في الشكل كما يلاحظ في شعر الموشحات مثلا.

- أن من تقاليد العروض العربي ما يناسب هذا التجديد، مثل قبول بعض التغييرات الجوهرية في الأوزان والبحور، فهناك البحر المجزوء (أي ما سقط منه تفعلتان)، والمشطور (ما سقط منه شطر) والمنهوك (ما سقط منه ثلثان)

ولذا لا بأس في الاقتصار من الوزن على تفعلة واحدة أو تفعلتين كما هو شأن الشعر الحر.

وبخصوص الشعراء الإسلاميين فإن معظمهم مال إلى قبول الأشكال الشعرية الجديدة ما دامت تقوم على قسط من الوزن، ولا تعلن القطيعة مع الموروث الشعري العربي القديم، وعند تصفح ما ينشر من الشعر الإسلامي المعاصر على صفحات المجلات والمواقع الأدبية نلحظ تعايشا بين القصيدتين: العمودية التي تحافظ على وحدة الوزن والقافية والروي، والحرة القائمة على التفعلة أو التفعلتين مع تنوع في القافية والروي.

والشعراء الذين اختاروا المزاوجة بين الشكلين كثر نذكر منهم أسماء معروفة بالمشرق و المغرب مثل: نجيب الكيلاني وجابر قميحة وحكمت صالح ومحمود مفلح وحسن الأمراني...

غير أن المقارنة بين الشكلين من حيث الكم تكشف عن تفاوت يؤشر بأن الشعراء الإسلاميين عموما ما زالوا غير متحمسين كثيرا للشكل الجديد، فمثلا نجد أن مجلة "الأدب الإسلامي" وهي فصلية متخصصة في نشر الأدب الإسلامي والتعريف به ونقده تصدرها رابطة الأدب الإسلامي العالمية...قد نشرت ضمن عشرة أعداد (من العدد 70 إلى العدد 80) خمسا وثمانين عملا شعريا، منها حوالي ستين عملا اعتمد الشكل العمودي، وما تبقى فقط اختار الشكل القائم على التفعلة. وإذا كان نشر الأعمال القائمة على الشكلين جنبا إلى جنب يعطي مؤشرا واضحا على أن الموقف الرسمي للرابطة يتمثل في قبول الشكل الجديد، فإنه كما ذكرنا دليل واضح على أن الشعراء وربما القراء أيضا ما زالوا يميلون إلى الشكل القديم لما له من رمزية تراثية ومميزات شكلية تجعله أقرب من غيره إلى الخصوصية العربية الإسلامية في الشعر.

وهكذا فإننا نجد الشعراء الذين نشرت أعمالهم بالمجلة المذكورة بين فئات ثلاث:

- فئة آثرت المحافظة ورفضت النظم على لأشكال الجديدة، وممن يمثلها عدنان النحوي الذي تطرقنا لموقفه النقدي سابقا، وله قصيدة بعنوان "غربة ودمعة (رثاء عبد الرحمان رأفت الباشا)" [9] جاء في مطلعها:

أين الهزار وأين اللحن والوتـرُ  *     أين الشذا والندى...والأيك والشجرُ

كانت تموج فطوَّاها الردى فنأتْ  *   وعاد منها لنا الأصداء والصورُ

أبا يمان..! وكــم خلفــتَ رابيـةً   *    تلفَّت الشوق فيها والهوى خضِرُ

 وعبد الرحمان العشماوي[10]، وله قصيدة بعنوان "بعد أعوام الرحيل "إلى شاعر الإنسانية عمر بهاء الدين الأميري" مطلعها:

مرت بنا الأعوام يا عمر  *  لا أنت غبت ولا جفا المطر

لكن طول البعد أزهقني    *   وأنا بباب الشـوق أنتظــر

وكذلك الأعوام يجعلهـا     *   مثل الجبال الشوق والسهر

- فئة زاوجت بين الشكلين في شعرها، ومنها حسن الأمراني، ووليد قصاب وحكمت صالح...فلحسن الأمراني قصيدة عمودية بعنوان "فارس بلا جواد"[11] يقول فيها:

صدق الوعْدُ ليس يخلف وعده  *  لقد اختار موكب النور لحدَهْ

ضاق عن وجده الزمان وما فيـ * ـه فألقــى لجنة الخُــلد وجْـدهْ

وله أخرى حرة بعنوان "كتاب الخروج"[12] جاء فيها:

لا تسألوا عنا، فنحن بألف خير

ليس يعْوزنا سوى أن ترفعوا عنا وصايتكم

أياديكم

لنغدو مثلما الأسماك تسبح في محيطات

بغير مدى

لتعبر هذه الأطيار بحرَ الموت والظلماتِ

نحو الفجر.

- فئة نظمت أغلب شعرها إن لم نقل كله على الشكل الجديد، ومن شعرائها محمد على الرباوي وحسين على محمد الذي خصص له العدد 70، وهو يرى أن التجديد في الشكل ليس عامل ضعف في الشعر، فكثير من الشعراء العرب المعاصرون اختار النظم التفعلة حدا أدنى لا يمكن أن تتجاوزه الذائقة العربية، وهم مع ذلك يقدمون الرائع من الشعر[13]. وفي العدد قصائد كثيرة على الشكل الجديد لحسين علي محمد منها واحدة في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم بعنوان قاهر الخوف (إلى مثال الكمالات الإنسانية محمد صلى الله عليه وسلم):

المطر على نافذتي،

أنتظركْ

تلك تقاسيم الزمن الأجوفِ

أُبصِر سيفك مسلولا، لا تلقيهِ

وتمضي ليلك في وصل مع ربك

تبحث عن لحظة نورٍ

عن جرعة عشقٍ

تمسك بأعنَّة خيل الفجرِ

وتحلم بالنورِ

3- موقف الأدب الإسلامي من "قصيدة النثر":

رغم قبول قسم من النقاد والأدباء للتجديد في القصيدة الإسلامية فإنهم يشترطون لذلك شروطا أبرزها عدم المساس بجوهر مفهوم الشعر المتمثل في الخصائص الأساسية التي تجعله مميزا عن غيره من الأنواع الأدبية، ومن أبرزها خاصية الوزن، ولذا فإن موقفهم مما يسمى "قصيدة النثر" يكاد يتجه نحو الإجماع على الرفض.

ومن الذين خالفوا هذا الإجماع وأروا بإمكان وجود هذا النوع باسمه ضمن دائرة الشعر الإسلامي عماد الدين خليل حيث يقول: "وانطلاقا من هذه الرؤية  كتبت في مقدمة (جداول الحب واليقين) دعوة ضمنية لاعتماد كافة الصيغ التي يكتب من خلالها (الشعر) على اختلافها، حتى ذلك المسمى (بالنثر الشعري)...والحقيقة أنه ليس هناك ـ رغم المناقشات الكثيرة التي دارت حول الموضوع ـ غير نوعين من الأداء الشعري هما (الشعر العروضي) و(النثر الشعري) الذي يمكن تسميته مجازا بالشعر النثري...

فأما القسم الأول ـ وهو النثر الشعري ـ فيقوم شكله أو بناؤه الفني على الموسيقى الداخلية التي لا تنبعث من سلم موسيقي (التفعلة) أو صدى موحد للقوافي كما هو الحال في الشعر العروضي، وإنما على الإيحاءات المشحونة، وتداعي المعاني والخواطر والأفكار..." [14]

والحقيقة إجماع النقاد والشعراء الإسلاميين من هذه القضية موفق، ذلك أن مصطلحات "قصيدة النثر" و"الشعر النثري" و"النثر الشعري" في حد ذاتها تنطوي على تناقض صارخ يجعل منها مصطلحات هجينة غير متجانسة إذ كيف يتم التأليف بين النثر والشعر في مسمى واحد؟ وكيف يحتفظ كل منهما بخصائصه المفهومية  في ظل التباين الواضح بين نوعين من الكتابة (الشعر والنثر)؟...

إن التمادي والإمعان في مثل هذه المحاولات قد يؤدي على المدى المتوسط والبعيد إلى نتائج غير مرغوب فيها على الثقافة العربية الإسلامية ويمس بهويتها، مع العلم أن الشعر ركن أساس تنهض عليه، وإذا ما اندثرت الفواصل بين النثر والشعر فإن الشك سيخالج ضعاف النفوس على أن القرآن الكريم لا يختلف عن الشعر، وبذلك يجارون دعوى الجاهليين بأن الرسول صلى الله عليه وسلم شاعر، والله تعالى يقول "وما علمناه الشعر وما ينبغي له"[15] فهي إذن دعوى قديمة تلبس زيا جديدا.

ولا شك أن أغلب من يتبنون الترويج لما يسمى "قصيدة النثر" لا يتوقفون عند حد التقليل من الفواصل بين الشعر والنثر الحديثين، وإنما يسعون إلى تطبيع النشء على مظاهر الشذوذ الشعري على كافة المستويات الشكلية والمضمونية ، حتى يأتي اليوم ـ وقد بدأت بوادر ذلك اليوم ـ الذي لا يجد فيه الشعر العربي القديم راغبا، فإذ ما توارى ذلك التراث الشعري الزاخر تحت طائلة النسيان، تكون قد اختفت حلقة مهمة من حلقات التراث الذي يتبنى المستغربون القطيعة معه.

إن كثيرا مما يكتب اليوم باسم الشعر ليس شعرا، فكيف به إذا استغنى عن الوزن، وتشبث بالغموض، وتلبسه الابتذال، إنه وقت ذاك ينبئ بنعي قريب للكلمة العربية وتشييع لبنات اللغة العربية...

وبعد كل ما قيل فإن الأدب الإسلامي لا يرفض أن يبدع الأدباء أشكالا أدبية جديدة، وإنما يرفض أن تطلق على تلك الأشكال تسميات تدرجها ضمن الشعر دون أن تكون لها الخصائص الجوهرية للشعر، فلو بحث المتحمسون لقصيد النثر عن اسم آخر لا يصنفها ضمن الشعر  لكانوا قد أبعدوا بذلك كثيرا من الشبه التي تطال علاقة الشعر بالنثر، فليس من العيب أن يوجد نثر يحاكي الشعر ولكن العيب أن يسمى ذلك النثر شعرا  زورا وبهتانا وأن يقحم في دائرة الشعر إقحاما.

               

[1] - في القصة الإسلامية المعاصرة، محمد حسن بريغش، ص 158.

[2] - حوار: الأدب اتالإسلامي ليس نظرية بل هو قديم مستمر، الأدب الإسلامي، ع 42، 1425هـ/2004م، ص 158.  

[3] - في القصة الإسلامية المعاصرة، ص 158.  

[4] - الأدب الإسلامي ليس نظرية بل هو قديم مستمر، الأدب الإسلامي، ص 45.  

[5] - الأدب الإسلامي إنسانيته وعالميته، ص 218.  

[6] - المصدر نفسه، ص 235.  

[7] - مدخل إلى نظرية الأدب الإسلامي، عماد الدين خليل، ص 131.  

[8] - محاولات جديدة في النقد الإسلامي، عماد الدين خليل، ص 173.  

-  الأدب الإسلامي، ع74، 1433هـ/2012م، ص 124.[9]

- الأدب الإسلامي، ع71،1432هـ/2011م، ص 30. [10]

-  الأدب الإسلامي، ع71، 1432هـ/2012م، ص 42.[11]

- معجم البابطين للإبداع الشعري. [12] 

-  الأدب الإسلامي، ع70، 1432هـ/2011م، ص 37.[13]

-  مدخل إلى نظرية الأدب الإسلامي، عماد الدين خليل، ص 131ـ132.[14]

[15] - يس، الآية