العبور

*

مسرحيات قصيرة للدكتور عماد الدين خليل

محمد الحسناوي رحمه الله

بعد وفاة الكاتب المسرحي الأول علي أحمد باكير (1) لم يظهر في العربية من يسد مسدّه، وإن كانت الأعمال المسرحية الإسلامية الحديثة تشكل حجماً لا يستهان به من حيث الكم والنوع، فالدكتور عماد الدين خليل واختصاصه الأول هو التاريخ – نشر خمسة كتب مسرحية (2) ثلاث منها مسرحيات طويلة، والبقية مسرحيات قصيرة من ذوات الفصل الواحد وقد صرح مؤخراً بأنه غير راض عن مستوى مسرحيتين طويلتين، ولو أتيح له إعادة كتابتهما لفعل، ولربما قلبهما فنياً رأساً على عقب(3).

كتابه (العبور) يضم خمس مسرحيات قصيرة، الأولى منهما تحمل عنوان الكتاب، وهي بحق صاحبة الصدارة في المجموعة في تقديم المؤلف للمجموعة (إضاءات) عرض قيم لمضمونات هذه المسرحيات ولبعض جوانبها الفنية، أهمها انفراد المسرحية الأولى بتناول (القيم الإيجابية) للالتزام في الأدب الإسلامي، تبشيراً أو بناء، على حين يكون تدمير القيم والمواقف والممارسات والتصورات السلبية وإعلان الحرب عليها التزام المسرحيات الأخرى، فالأدب الإسلامي بوسعه أن يشيد البناء الإسلامي أو يهدم الجاهلية، وإذا كان التسلسل يقتضي البدء بالهدم فإن تخصص أربع مسرحيات من خمس لهذا الغرض أمر يلفت النظر.

الخلاف بين المسرحية الأولى وبقية المسرحيات لا يقف عند هذا المستوى بل ينعكس في مظاهر متعددة، لعل أبرزها طريقة التناول الفنية، فمسرحية (العبور) أقرب إلى التصنيف في المسرح الشعري من حيث عرض الشخصيات أو الفكرة الرئيسة، أما المسرحيات الأخرى فأقرب إلى المسرح الواقعي، ذلك لأن موضوع الأولى ذو طابع (رسالي) يجمع بين ثلاثة أزمنة (الماضي والحاضر والمستقبل) لعبور الإسلام أو المسلمين جغرافياً ورسالياً من المركز إلى العالم: (لأننا نشهد في ختام المسرحية، جعفر بن أبي طالب، الصحابي الجليل، والمقدم عبد العالم حلمي الضابط المصري، وهما يتقدمان في سيناء، هنالك حيث يلتقي الماضي بالحاضر ويهرعان إلى (مستقبل) لن يتحقق، أو يكون أبداً بدون ما حوار فعال بين الآونات الثلاث بكل ما تتضمنه من قيم وأهداف كان هذا (الدين) قد صنعها وهو يملك القدرة على أن يصنعها شرط أن تتحقق نية (العبور) (ص8 إضاءات).

وكان من نتائج هذا العبور الزماني والمكاني ضرب لوحدتين من قواعد المسرح التقليدي الكلاسيكي (الإتباعي) هما وحدتا الزمان والمكان، والأخذ بملامح رئيسية مشابهة للشخصيات لا سيما (الأبطال) والاتكاء، على توظيف مكثف للتاريخ والتراث نصاً ومفهومات، وتطويع اللغة أو الحوار للتألق الأسلوبي والسمو الروحي والعاطفي.

(جعفر: وسمعت رسول الله يردد "والله لا أدري بم أسر، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر".

لقد كانت تلك أسعد لحظة في حياتي، وقلت في نفسي: متى أجازيك يا رسول الله متى؟ لقد منحتني الفرح الذي لا يزول بعد سنين طويلة من التغرب، والحزن والانقطاع... فمتى أجازيك؟

المقدم: (يتأثر) ولقد جازيته بعد سنة واحدة، وهرعت إلى التخوم لكي تعبروا وإخوانك بالدعوة حدود جزيرة العرب إلى الشمال، هذه المرة، فتناوشك وإياهم سيوف أعداء الله. أتدري أيها الصحابي الجليل، لقد انطبعت صورتك المنفردة في أذهان المسلمين عبر أربعة عشر قرناً، وستظل وأنت تحمل الراية بيمناك، تتقدم بها، فتقطعها سيوف الروم، فتحملها بيسراك فتقطع هي الأخرى، فتتشبث بما بقي من ساعديك، حتى تشوط في رماح القوم، لك الله يا أيها الصحابي الطيار إلى الجنة، لك الله (بيكي). ص30 – 31.

لذلك لم يكن ثمة صراع بين الشخصيات بل أخوة ومفاداة، فكان الصراع مع العدو الخارجي، العدو الأكبر غير الظاهر على المسرح.

هذه القيم التعبيرية في الشكل كانت استجابة للقيم الشعورية في المضمون، وتجلت وحدة الشكل والمضمون انسجاماً ونورانية، وهذه قيمة أصيلة في الأدب الإسلامي.

المسرحيات الأربع الأخرى اجتماعية واقعية يدور الصراع بين شخصياتها لا سيما الشخصيتين الرئيسيتين، تقع كل منهما في مكان واحد (مقهى – متنزه - إدارة حكومية – عيادة طبيب) وفي زمن لا يستغرق ساعات قليلة فضلاً عن أربع وعشرين ساعة، فتتحقق مواصفات المسرحية الفقيرة لقلة عدد الشخصيات من جهة وبالالتزام بوحدتي الزمان والمكان فضلاً عن وحدة الموضوع من جهة ثانية، وكانت الخاتمة في أكثرها مأساوية، وهذا تجل آخر لوحدة الشكل والمضمون، من علامات التوفيق والجودة بدء المسرحية بشخصية الصحابي الجليل جعفر بن أبي طالب واختتامها به على الرغم من مرور الأحداث بأبطال المسلمين عبر التاريخ أمثال (ابن أبي سرح) و(طارق بن زياد) و(مسلمة بن عبد الملك) و(أسد بن الفرات) و(محمد الفاتح) وفي ذلك تماسك فني في المسرحية وتأكيد لارتباط السلسلة الإسلامية المباركة بالحلقة الأولى المركزية (صدر الإسلام) ذلك العصر الذهبي، مرة أخرى يتعانق الشكل والمضمون عناقاً مصيرياً.

يضاف إلى ذلك -والمجال للإضافات واسع– استعداد هذه المسرحية الكبير للتعامل مع تقنيات الإخراج والديكور المسرحيين المتطورين للإيحاء بتعبير الأزمنة والأمكنة من جهة، ولا مكانية الجمع والتداخل بينها من جهة ثانية، هنا تظهر قدرة اللغة العربية الفصحى والعقيدة الإسلامية بل عبقريتها على تسهيل هذا الجمع والتداخل رغم اتساع المدى الزمني والمكاني بين الأشخاص والوقائع.

كيف استطاع المؤلف أن يسيطر على ازدحام الشخصيات في مسرحية قصيرة ذات فصل واحد، فهناك ما لا يقل عن سبع شخصيات رئيسية ومجموعات المساعدين والجند! الحل بسيط هو الشبه العميق بين أدوار هذه الشخصيات. والشبه مقصود، لا يحدث لنا بل يأتي توكيداً لمراد المؤلف، وتوكيداً لفكرة المسرحية، فكلهم قادة (العبور) الإسلامي عبر التاريخ، فلا حاجة للتباين ولا للصراع بينهم، بل صراعهم جميعاً مع عدوهم، وهذا هو المطلوب فنياً وماضياً وحاضراً ومستقبلاً.

إن توظيف التراث والتاريخ في هذه المسرحية وافر لا تكاد عبارة أو سطر يخلو من هذا التوظيف من حديث شريف أو آية قرآنية أو خطبة أو واقعة أو شخصية، حتى الحديث الشريف يأتي على شكل دعاء أو حوار أو نجوى أو هتاف أو مفهوم – وكل مسوغ ليس مسوغاً فنياً وحسب، بل هو مطلوب فنياً وينهض بدور الإثراء والحشد الفني والفكري والعاطفي على حد سواء، وهذا الجانب وحده يستحق بحثاً مستقلاً. فمن الطبيعي أن يتحرك صحابي مثل جعفر بن أبي طالب في مثال هذا الجو، ومن الطبيعي أيضاً أن الأبطال الذين ساروا على الدرب نفسه وللهدف نفسه أن يكون جوهم وبيئتهم كذلك. وهذا وحده سبب كاف لاعتصام الأدب الإسلامي باللغة العربية الفصحة (4) وإذا علمنا قدرة اللغة العربية الفائقة على الاستمرار والتوالد والاستيعاب أدركنا جانباً من جوانب الحكمة الربانية في اختيار العربية لغة الوحي، أو في هداية العرب إلى مثل هذه اللغة المتميزة.

المسرحيات الأربع أخذت منحى (الهدم الجمالي المؤثر)، يقول المؤلف: "وطبيعي أن تكون البدائل غير المعلنة مستمدة بالضرورة من عالم الإيمان الوضيء الرحيب، طبيعي أن يتشتت المرء بعد قراءة أو مشاهدة أية مسرحية تتخذ هذا المسار بعالم مطمئن آمن متفائل سعيد لا تحاصره المخاوف ولا تسوده الأهواء والظنون، عالم لا يمارس القتل فيه بالنزوة أو الخطأ، ولا يسحق فيه الإنسان، ويساق إلى عيادات الأمراض النفسية، لأنه يجد جملته العصبية مطبوخة كل يوم – بين مطرقة الظلم وسندان الابتزاز، إضاءات ص 5 – 6.

في مسرحية "التحدي" يتمنى البطل أن يحيا بلا خوف أو قلق أو وسوسة، ومسرحية "الاضطهاد" تعرض نموذجاً من مئات تعج بهم الشوارع والمقاهي... ممن سحقهم (عصر) لم يعد يأبه للإيمان وللقيم التي يحرسها ويحميها.

ومسرحية (الظن) تحمل مغزاها الواضح الذي حذرنا منه كتاب الله تعالى، أما مسرحية "التمثيل" فتعرض لمشكلة القتل للنفس الإنسانية المكرمة، قتلاً بالنزوة أو الخطأ تحت وطأة الخمرة أم الكبائر.

مما يلفت النظر في هذه المسرحيات الاجتماعية المأساوية المتركزة كل منها على موضوع مستقل، أنها لم تحل من نقد فرعي أو جانبي لمشكلات أخرى سياسية أو اجتماعية بشكل يندرج مع الموضوع الأساس أو لا يتعارض معه، ففي مسرحية "التحدي" غمز بالسياسة الاستبدادية، وبالتجسس على نوايا الناس وحرياتهم، وفيها أيضاً نقد لأزمة الزواج التي وضعت العراقيل أمام الشباب والنساء على حد سواء، وباختصار نقد للعصر كله: "إن العصر يسحقنا يا عبد الرحمن، يفركنا بيديه القاسيتين ككائنات لا حول لها ولا قوة، إننا ضائعون ومطاردون عشرون عاماً والكبت الملعون يسلخ جلدي (ص46).

إن ذم (العصر) لا يرد في مسرحية "التحدي" وحدها، بل نجده في المسرحيات الأربع، ففي مسرحية "التمثيل" يقول منذر: "يا لهذه الأعصاب الهشة، أهكذا تتحطم بسرعة؟ متى ستصبحون رجالاً؟" (ص58) وفي مسرحية "الظن" يقول السكرتير: "لا تظلم الرجل، فإنما هو يعتمد مقياس العصر الذي نعيش فيه، نحن جميعاً نركض وراء مصالحنا، (ص86) أما في مسرحية "الاضطهاد" فأزمة العصر هي الاضطهاد موضوع المسرحية: يقول الصحفي تامر العلاف للطبيب هاني: "إن معاناة الإنسان ليست فقط بسبب هذه العقدة أو تلك، وإنما أيضاً بسبب الظروف الخارجية التي تحيط به، تضغط عليه.." (ص118)، ويضيف "إنك تقول عقدة الاضطهاد، وأنا أقول عصر الاضطهاد..." (ص120).

و(عصر الاضطهاد) عبارة ترد على لسان الصحفي، وهي لسان حال المسرحيات الأربع، كما هي لسان حال المؤلف نفسه، وحال معظم الأدباء والمفكرين الإسلاميين حتى ذهب بعضهم إلى القول بـ "جاهلية القرن العشرين". وهكذا كان (التحدي) و(التمثيل) و(الظن) و(الاضطهاد) ألحاناً توقع في سيمفونية واحدة.

تتقابل وتتكامل مسرحية "العبور" البناءة مع المسرحيات الهادمة الأربع، المسرحيات الثلاث الأولى منها تعنى بعلاج النفس الواحدة (نفس الفرد) في التحدث والتمثيل أو الظن، أما الرابعة (الاضطهاد) فتعنى بعلاج البيئة كلها: (النفس المفردة والظروف الخارجية المحيطة بها) وهكذا تكتمل وتتكامل رؤيا المؤلف للنهوض من كبوتنا أو للعبور، محور للبناء ونشر دعوة الإسلام، ومحور لهدم المعوقات على صعيد الفرد والمجتمع والعصر أو الإنسانية جمعاء.

مثل هذه الموضوعات النفسية تقتضي تركيزاً على تحليل نفسيات الشخصيات وإبراز الصراع بينها، فيتقاتل الشجاع مع الجبان، ولاعب الشطرنج مع منافسه، والمستقيم مع الظنون والمريض مع الطبيب وللخروج من مشكلة الفرد إلى المجتمع جيء بالصحفي ليقابل الطبيب ويبرز له دور الظروف والعوامل الخارجية للاضطراب النفسي أو ظهور العقد، وهذا هو سبب اختلاف هذه المسرحيات الأربع في البناء والعرض مع المسرحية الأولى كما ذكرنا، وهو سبب يستجيب فنياً لوحدة الشكل والمضمون مرة أخرى.

خلافاً للغة الحوار في مسرحية (العبور) الشعري وانسجاماً مع المضمونات الاجتماعية الواقعية في المسرحيات الأربع جاء الحوار تغلب عليه المباشرة والاعتماد على الصيغ والأساليب الدارجة: ألفاظاً وعبارات وأمثالاً وكنايات وبعض الصور والاستعارات المعبرة، كل ذلك بلغة عربية فصحة مأنوسة مألوفة قلما علت عن مستوى الشائع، والشخصيات تقبل ذلك لأن معظمها إن لم نقل كلها – من أوساط مثقفة، (طلاب -مدرسين – طبيب- صحفي...).

من التعبيرات الدارجة (أقام الدنيا وأقعدها- لقد شبع رسوماً- رخو أكثر من اللازم) (ص60-61) من الأمثال: "فليس من جرب كمن لم يجرب... كلمة وغطاءها... بين الأحباب تسقط الآداب" (ص78 – 79 – 84).

من الصور المعبرة الهادفة لتجسيد المعاني أو المراد بما يلائم المسرح: (لم نأت كي تلتصق كالعناكب بجدران مقبرة آشورية... إطفاء هذه الفتنة... كيف أًضرب عصفورين بحجر واحد.. أريد أن ألتهم الدنيا.. أرذل العمر.. أما قوة الذاكرة فقد أًصبحت من الحيوانات المنقرضة... تتملصون كالأفاعي الملساء...) بعضها من مستحدثات العامية وبعضها أصله من القرآن الكريم أو الحديث الشريف أو الشعر العربي، وقلما نعثر على آثار أجنبية مثل "حتى أنت يا بروتس" (ص57 و67 و90 و91 و99 و103 و108).

لغرض التجسيد والتوضيح المسرحيين يلجأ المؤلف إلى حيلة مسرحية ملائمة ألا وهي إدخال مسرحية صغيرة "تمثيلية" ضمن المسرحية الأصل، كما حصل في المشهد التمثيلي المرتجل الذي قام به كل من "منذر" و"حمدون" في مسرحية التمثيل (ص69 – 72).

الطابع العام للمسرحيات الأربع مأساوي لا سيما الخاتمات، حيث ينتهي بعضها بوفاة أو قتل، ومع ذلك لم تخل المسرحيات من مواقف ضحك، بل إن نهاية مسرحية (التحدي) يختلط فيها الأسى والفرح بآن واحد، فمدير الإدارة خصم مزعوم لرئيس المهندسين يقدم خصمه على نفسه للترقية إلى منصب معاون المدير العام للشركة، فيبطل ظنون خصمه السيئة، إن اجتماع اللونين في الحياة ليس انسجاماً معها فحسب، بل هو أيضاً انسجام مع التصور الإسلامي، فإن مع العسر يسراً، إن مع العسر يسراً (الشرح 5-6) وهكذا تتكامل أيضاً مسرحية "العبور" مع المسرحيات الأربع.

بقي لنا أن نتساءل: هل يدل رضى المؤلف عن مسرحياته القصيرة لا الطويلة... هل يدل على شيء، وبمعنى آخر هل يدل على قدراته الفنية هو أم على شيوع المسرحية القصيرة حديثاً مثل شيوع القصة القصيرة، أم تلبية لحاجات القراء والتمثيل المعاصرين؟ نترك الجواب لمناسبة أخرى.

                

* المشكاة العدد 42 / 1424 - 2003