تخطيط وقراءة أولية في شعر منير مزيد

فصل من إنجيل الشعر

- التناص في شعر منير مزيد -

منير مزيد / رومانيا

[email protected]

محمود الأزهري

 الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر منير مزيد تقع في 675 صفحة ومقسمة إلي عدد من الألواح واللوح هنا معادل للديوان العنوان العام للمجموعة : من حديقة الشعر اللازوري وعنوان فرعي : ألواح كنعانية : اللوح الأول أو الديوان الأول 1- فصل من إنجيل الشعر : إلى ص75

 هذا الديوان عبارة عن قصائد قصيرة لا تحمل أي منها عنوانا خاصا بها بما يعكس أنها كلها منضوية تحت لواء العنوان العام للديوان وهو فصل من إنجيل الشعر وربما يكون الديوان قصيدة طويلة مقسمة إلي مقاطع قصيرة ...

التناص في الديوان :

تبدأ عملية التناص في الديوان من هذا المقطع أو من هذه القصيدة القصيرة

لا يمل انتظارَ حليبِ السماء...

 فالآيات القرآنية والأحاديث النبوية يرد فيها كثيرا النص على أن " الساعة آتية " بحيث تحمل تأكيدا على قيام الساعة وإنذارا لظلم الأرض وعدم عدالة البشر ولكن الشاعر متسلحا بالأمل يعلن أن الشمس آتية لتكون الشمس هي الأمل القريب وهي النور الذي يظهر الحقائق ويعيد الحقوق لأصحابها وهي أمل قريب من حلم البشر فهي تطلع كل يوم بعد احتجاب قليل في ساعات الليل أما قيام الساعة فقد تكون بعيدة عن مخيلة البشر وخاصة غير الموقنين بها رغم أن انتهاء الحياة على الأرض قابل للحدوث في أي لحظة ... وتعلن القصيدة في قالب تصويري شعري جذاب ومكثف أنه لا بد من التسلح بالصبر فعلينا أن ننتظر قليلا فالعشب النابت في الأرض لاييأس من نزول المطر " العشب الرضيع لا يمل انتظار حليب السماء ..."

 النص الثاني الذي يحمل " تناصا " هو "

 فهذه القصيدة القصيرة تحمل تناصا مع سيرة ورسالة السيد المسيح عليه السلام فلقد أعلن المسيح أنه جاء لكي يحرر الإنسان ولكن يخلِّص بيت الرب من التدين الشكلي والرياء ولكي يحرره من المشعوذين والدجالين هذه هي رسالة المسيح نشر العقيدة الصحيحة وإرساء قيم وأخلاق عالية ولكن الشاعر ليس نبيا لذا فإن الشاعر يعلن في قصيدته أن رسالته مختصة بتحرير الشعر من غرقه وموته في إطار الشكل وحبسه في القافية وخنقه على يد الأمراء ومدحهم أو على يد الشعراء الدجالين الذين تخلو كتاباتهم من روح الشعر ويصنعون كتابات جافة جامدة خالية من الروح وبعيدة عن جوهر الإبداع وهذه هي رسالة كل شاعر حقيقي مبدع وخلاق .. والشاعر منير مزيد لم يعلن رسالته تلك في إطار من الحكم التقريري المباشر بل أعلنه في قالب تصويري شفاف ما جئت إلا لأحرر عصافير الشعر – وهي قصائده أو شعراؤه الجدد والطالعون للمستقبل – من أقفاص المشعوذين والدجالين – المحافظين على أسوأ ما في تاريخ الشعر القديم الماض المتهالك .

القصيدة الثالثة التي يتجلي فيها التناص والاشتباك مع نصوص التراث قول منير مزيد : م

وإذ أَوْحَى لي الشعر بالنبوءة

يتراءى لي ملكوت الله

أنا نفحة من روح الله

لن تفنى أو تذوق طعم الموت

تصعد إلى السماء

عائدة إلى ربها

تستظل تحت العرش

و تبقى في ملكوته الأبدي

راضية مرضية...

 ففي هذه القصيدة القصيرة المفعة بالحيوية المتسربلة بثوب السرد التلقائي المتدفق في انسيابية محببة للقارئ العربي المحب لجمال الكلمة والمتذوق لشحنات الشعر داخل الكلمة يتم استخدام مفرادت : الوحي – النبوءة – ملكوت الله – روح الله – الغناء – الذوق – الصعود إلي السماء وهى مفردات مرتبطة ارتباطا وثيقأ بالوعى الدينى فى ذهن القارئ العربي كما أنها مفردات تستدعى حضورالقرآن والإنجيل والوحى من السماء والأنبياء والملائكة ، والصعود الى السماء يذكرنا بصعود المسيح وقيامته من بين الأموات ورفعه من على الأرض مرتقيا إلى السماء ويذكرنا برحلة الإسراء والمعراج التى حدثت مع النبى صلى الله عليه وسلم كما أن مفردات الفناء والذوق لاتكتفي بالإحاله إلى الوعى الدينى بشكل عام بل هى تحيل وتستدعى المعرفة الصوفية بشكل خاص فالفناء والذوق مصطلحان خاصان بالمتصوفة وأصحاب المعارف والسلوك الصوفى ولكن المغايرة هنا أن الوحى من الناحية الدينية يكون من عند الله عز و جل ولكن الوحى هنا من عند الشعر ومن قبل الشعر والشعر بحسب نبوءة الشاعر يمنع صاحبه الخلود والبقاء بل والسمو الارتفاع والصعود إلي ملكوت الله عز وجل ومجده الكبير في الأعالي ..

 لأن الشعر هو معرفة وسمو ونبل والسمو والنبل والمعرفة هي أمور تسعي الأديان لتحقيقها لدي أفراد الشعوب إذن فالشعر يؤدي هنا وظيفة تسعي إليها الأديان دون أن يكون الشعر بديلا عنها أو رافضا لها ومعترضا عليها .

 والقصيدة تؤكد هذا المعنى الجليل وهو تحقق السعادة للشاعر بسبب أداءه لرسالته الجمالية للناس " أنا نفحة من روح الله ...لن تفنى أوتذوق طعم الموت / تصعد إلى السماء عائدة إلي ربها / تستظل تحت العرش أو تبقي في ملكوته الأبدي / راضية مرضية ..." فهذه القصيدة – أو هذا المقطع – على قصرها مشحونة بكم من المفردات التي تحيل بشكل مباشر إلى التراث الديني ( الرجوع إلى الله – الاستظلال بالعرش " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلاظله " الملكوت – الأبدية والخلود – راضية مرضية وهي صفة للنفس المطمئنة التي جعل الله مستقرها الجنة " يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلي ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي " سورة الفجر الآيات 27إلي 30 .

 وتكشف القصيدة عن إحساس الشاعر العميق بوجوده وبصيرته الداخلية وتطلعه للخلود وهو تطلع وطموح أي إنسان عالي الهمة سامي الطبع له روح شفافة وحس جمالي بذاته وبالكائنات المخلوقة معه وحوله ويستمر الشاعر في اشتباكه مع التراث الديني واستلهامه والتناص معه فهو يقول :

دم و دخان...

 فبداية القصيدة لها قافية مشابهة لفواصل سورة القلم من القرآن الكريم وبدايتها " ن والقلم وما يسطرون * ما أنت بنعمة ربك بمجنون " فالله عز وجل في هذه السورة الكريمة أقسم بنون – وهو أحد الحروف الهجائية التي تتركب منها الكلمات التي تتكون منها المعارف والعلوم – وأقسم – أيضا – بالقلم وهو الأداة التي يتم بها تدوين وكتابة العلوم والمعارف التي تنير حياة الإنسان وتضئ قلبه وتهبه الخلود والبقاء بعد الموت ..

 والشاعر منير مزيد في هذه القصيدة القصيرة – أو هذا المقطع – أقسم – أيضا بالكلمة وبكل ما يتم تسطيره وكتابته وتدوينه فهنا تشابه ومشاركة في القسم بين النص الديني والنص الأدبي إلا أن النص الديني جاء القسم فيه لتأكيد صدق الرسول ولتأكيد صحة الرسالة والقسم في النص الشعر جاء لتأكيد كذب جماعة من الناس لم يتم تعيينهم بالاسم بل تمت الإشارة إليهم بضمير الغائب " هم " وتمت الاشارة إليهم بصفتهم فهم مولودن من سم لأفاعى أولا و ثانيا هم جماعة لهم أساطير وخرافات والأسطورة مرتبطة في ذهن المتلقي العربي بالقصة والحكاية الكبيرة الضخمة التي لا تجد سندا من الواقع ولا دليلا من التاريخ ولا برهانا من العقل فهي مرادفة للكذب والاختلاق حتى وإن أنكر بعض علماء الأسطورة ارتباط الأسطورة بالكذب المطلق إلا أنها هكذا يتصورها العقل الجمعي العربي في الغالب وهذه الجماعة الموصوفة بالكذب أساطيرهم كما تخبر قصيدة منير مزيد هي دم ودخان والدم والدخان صفتان إضافيتان لهذه الجماعة الشريرة التي يمكن أن تنظر لهم على أساس أنها رمز للشر المطلق أو لمطلق الشر والتى يمكن أن ينظر لها المتلقى العربي – أيضا – بشكل بعيد عن التجريد والإطلاق فيجعلها مرتبطة بجماعة من البشر اغتصبت حقوق وأراضي جماعة أخرى من البشر بناء على أساطير وهمية لا نصيب لها من الصحة و لذا فقد ارتبط تاريخ هذه الجماعة المغتصبة المحتلة بأسطورة الاضطهاد الواقع عليها ثم ممارستها العلنية للاضطهاد والقتل والمذابح وطرد شعب من أرضه بمساندة دول كبري قوية تفهم القضية بشكل خاطئ أو تتعمد الخطأ في الفهم لتحقيق مصالح اقتصادية وسياسية في أرض الشعوب الفقيرة والمناطق المجاورة لها وينجح الشاعر منير مزيد في إعطاء قصيدته بعدا إنسانيا مجردا ولا يقع في فخ إصدار أحكام تقريرية مباشرة يمكن أن تفقده تعاطف القارئ المحب للشعر فجعل الشاعر منير مزيد قصيدته تدور في فلك المعاني المطلقة الخير والشر وفي شكل وإطار تجريدي بعيدا عن التسطيح والتقوقع والانكماش في أسر قضايا إقليمية ضيقة قابلة للحل بين عشية وضحاها ...وتتنوع أساليب وطرق استلهام التراث الديني والتناص معه ففي هذه القصيدة يتم التناص مع إحدي سور القرآن الكريم..

 وفى القصيدة التالية استلهام الإنجيل والتناص مع أقوال السيد المسيح عليه السلام :

حقا... إني أرتل آيات النور

فجملة " الحق الحق أقول لكم " هى تيمة ولازمة للسيد المسيح يقولها قبل أى موعظة ويؤكدها قبل أى إندار .. وفى هذه القصيدة أو المقطع يعطى الشاعر رؤية جديدة لمستقبل جديد فقد أحرقت الشمس الأنوارالقديمة ونحن جميعا بحاجة شديدة لنورجديد وحياة جديدة ومعرفة جديدة تلائم تطورات العلم الجديدة والشاعر – و لأنه بشر – يخشى أن يعامل معاملة الأنبياء – بما أنه حامل رسالة ومعرفة جديدة وصاحب دعوة لمستقبل جديد – فهونبى يخشى على نفسه من الصلب والقتل والنفى والاضطهاد يقول الشاعر :

 والشاعر لا يطلب الرأفة لجسده بل يطلب فقط الرفق بروحه فمن حقه أن تكون سالمة ومشعة دائما ولماذا يصلب الشاعر تكفيرا لخطايا غيره وهو حامل مشعل النور وقنديل المحبة ..ومع ذلك فالشاعر بشجاعة يقول " ليكن ما يكون " فهو لا يهاب النتائج ما دام دمه نور عقول البشر ومداد أرواح الجميع " إذا كان دمى زيت قناديلكم " فالشاعر لا يخاف على جسده القتل أو الصلب فقط هو يريد إكمال رسالته و نشر دعوته للنور والمحبة والتسامح : " افسحو ا لى طريقا أشعل فيها شمعتى أو دعوتى أقتل نفسي وأريحكم من قلقى ... " فإذا لم يتمكن الشاعر من أداء رسالتة الروحيه فالموت أولى بها وهو أول من يقوم بقتل نفسه قبل أن يقتله الآخرون ، فالشاعر العالى الهمة المتصف بالسمو والنبل والقوة كما يقول منير مزيد : " عدت لا أطيق الظلمة .. تكسو روحي ... " والظلمة ليست هي الليل الحسي بل هي أيضا الجهل وانطماس المعرفة وغياب الحقيقة وكسوف الحق وخسوف الحرية ... ومع ذلك فسرعان ما يتذكر الشاعر أنه بشر وأنه لا يحمل رؤيا إلهية أو قوة خارقة فيقول : " وما يفزعني أنني أجهل كل الجهل ... ما ينتظرني "

وهي حقيقة ملازمة لكل البشر فمن صفات البشر عدم الاطلاع على ما يجري في المستقبل فهو غيب لا يعلمه إلا الله وما شاء من الأنبياء والملائكة والقديسين أما الشعراء فهم يقرأون الواقع ويحسون بالحاضر ثم يعطون نبوأتهم البشرية عن المستقبل الغامض للحياة على وجه الأرض ... واعترافا من الشاعر بأهمية دور الجماعة في إرساء حياة مضيئة على الأرض يتوجه بندائه لكل البشر مستلهما أيضا الجو العام لطريقة الخطاب في الإنجيل وأسلوب الموعظة كما يرد على لسان السيد المسيح عليه السلام :

فهيئوا أمر متوجه للجماعة وهو أمر بتمهيد وتغيير وإعداد السبل والطرق وليس سبيلا واحدا أو طريقا واحدا حتي يعبر النور فيها وهذا النور ليس قادما من خارج الإنسان بل هو نور مشتعل من أعماق الإنسان وهذه رؤية جديدة وفلسفة خاصة تتجه إلي التأكيد على أن خلاص الإنسان ينبع من داخله وهي فلسفة شديدة القرب من المدرسة الإشراقية لدي المتصوفين الإسلاميين وليست بعيدة عن منهج القديسين الذي يجعلون من الخلوة في الأديرة منهجا وسلوكا حتي يتم انفجار المعرفة وتدفق النور من داخل الأنسان فترتقي روحه ويكون الإنسان صافيا على هيئة الملائكة مستعدا القبول النور ونشر المعرفة وإعطاء الأمن والسلام والمحبة لكل البشر ص22

والشاعر منير مزيد منفتح على تراث معرفي إنساني ضخم ينهل منه ويتجاوب معه فهو يقول "

فليوقد نارها....

 وهو هنا يذكرنا بكتاب " الطواسين " للحلاج وهو صوفي كبير قتل شهيدا للكلمة والمعرفة " العين سراج الجسد " إلا أن الحلاج في النص يتحدث عن الكون الصغير وهو الجسد البشري ومنير مزيد يتحدث عن الجسد الكبير وهو الكون معتبرا الحياة هي السراج لهذا الكون وأن الحب هو نور هذا السراج ... ولا يترك منير مزيد نفسه وروحه في عالم المطلق وفي كون مجرد بل هو ينزل رويدا رويدا ملامسا أرض الواقع ومناقشا قضاياه الخاصة المحددة على الأرض وهي مشكلة العرب الكبري قضية فلسطين وتهجير أهلها قسرا وكرها وعدوانا خارج بيوتهم وأرضهم يقول : منير مزيد

على الرغم من كل هذا النـزيف...

فهذا النص القصير يكشف واقعا مأساويا فالظلام الدامس شديد الكثافة هو دلالة واحدة لتعقد القضية وعدم وجود حل لها أو شعاع ضوء يمكن من خلاله أن نري حلا للقضية لذا فمن الطبيعي أن يكون الفلسطيني الإنسان شهيدا / حاملا صليبي على كتفي – إلا أن الفلسطيني الشاعر صاحب الرسالة لا يكتفي بتقديم نفسه للشهادة واستعداده للصلب – كما هو موجود في عدد من الأناجيل المقدسة – بل هو يحمل معه نوره وشعلته وقيثارته أداة الغناء و وسيلة الاستمرار و دليل حقه مفتاح بيته في القدس وتاريخه الماضي المستمر في المستقبل " وجه أمي الحزين " طبعا صفة " الحزين " لم تضف شيئا قويا للنص فالحزين صفة زائدة وكان من الأجدى أن يترك وجه الأم مطلقا يعطي التعبير عن نفسه على يد القارئ ليكون وجها قويا وصلبا أو متفائلا ومستبشرا أو حزينا ومكتبئا أما هذه الصفة فقد فرضت معني محددا من قبل الشاعر يقطع على القارئ فرصته لإنتاج دلالة النص أو حتي توسيع دلالة النص وفي نهاية النص القصير أو المقطع : يؤكد الشاعر أنه مستمر في أداء رسالته كشاعر وليس كنبي رغم النزيف والظلام " أغني .. على الرغم من كل هذا النزيف ... " في النص التالي يرجع الشاعر إلى التناص مع الإنجيل فيذكر صيغة التهديد التي كان يقولها السيد المسيح عليه السلام

الويل الويل لكم أيها الأغنياء

لقد نلتم عزاءكم

أثمروا ثمرا يليق بالتوبة

أطعموا فقراءكم

بدلا من أن تحولوهم إلى لصوص...!

و هذا النص يجعل من الشعر قائما بأداء هدف اجتماعي محرضا ضد النظم الرأسمالية وتسلطها والجور الواقع على الشعوب الفقيرة كما يحوي تحذيرا مفاده أن غياب العدالة الاجتماعية في توزيع الثروات يؤدي إلى مفاسد ويحول عددا من البشر إلى لصوص أو قراصنة أو خلايا إرهابية مزعجة أو أمراض سرطانية مجهولة مخيفة لا علاج لها ، طبعا من ناحية المعني لا خلاف في صحة الرسالة ولكن الخلاف قائم في صحة أن يكون الشعر الحديث قائما بدور الواعظ أو المصلح الاجتماعي خاصة بعد غياب أو تغييب النظريات الاجتماعية للفن وتسيد نظريات العبث أو التي تعلي من شأن جماليات البناء الفني على حساب الرؤية المعنوية والقالب الفكري .. وفي ظل قيام الشاعر بحمل عبء أداء رسالة وتلاوة إنجيل شعري فمن غير المناسب أن يترك معني إنسانيا أو يتجاهله أو يتغافل عن مأزق بشري ويغض الطرف عنه لذا كان حسنا أن يشير منير مزيد إلى قضية وإشكالية الفقير والغني حتي يكتمل إنجيله الشعري شكلا ومضمونا .. وحين تشتد هموم الحياة ومآس الواقع يغطيها الشاعر بستائر القلق وينام في بسانين الشعر وحدائق السعادة حالما عند سدرة المنتهي وسدرة المنتهي درجة عالية من درجات القرب ومكانة رفيعة فوق السموات وشجرة عظيمة مستمدة من رحلة الإسراء والمعراج مع النبي محمد صلي الله علية وسلم..

يقول الشاعر منير مزيد

و أراني أحلم

أَحْلمُ عند سدرة المنتهى...

 وحين يصل الشاعر إلى سدرة المنتهي حالما يري بقلبه الحقائق عارية ويمكنه أن يبصر الغيب وما قدره الغيب له ... طبعا هذه رؤية حالمة للشاعر فالغيب ستر مجهول لا يمكن الاطلاع عليه ولكنها رغبة إنسانية دفينة ومطلب ملح أن تكون لدى الإنسان القدرة على اكتشاف المجهول وتخطي الخفي ومعرفة الغيب ورؤية قدر الإنسان فيما يأتي من أيامه وعمره ...

...كاشفا لي قدري

وبعد هذه القصيدة التي يوحي للشاعر فيها عبر الحلم ويكشف له الغيب من خلال المنام .. تأتي قصيدة تجعل الشاعر معلنا في اليقظة بعض ما رآة في المنام و محدثا به أباه :

يا أبت

إني رأيت في منامي

أرعى النجوم

وسمعت صوتا في السماء يقول :

تعال...

تعال أعلمك طهو الآيات

إني منـزلك إلى الأرض

شاعرا

قال يا بني:

لا تقصص رؤياك على أحد

فيكيدوا لك كيدا

يرجموك رجما مثل الزناة

و يتهموك بالتخريف و الجنون...

والشاعر هنا يستدعي قصة النبي يوسف مع أبيه النبي يعقوب عليهما السلام وحكاية الرؤية وهنا تطابق وتشابه كبير في رؤيا الشاعر مع قصة يوسف إلا أن الأب هنا أمره بعدم حكاية الحلم لأي أحد بخلاف يعقوب فإنه أمره بعدم قص الحلم على إخوته ويوسف الذي رأى أحد عشر كوكبا والشمس والقمر والشاعر رأى ملاكا يدعوه للصعود للسماء لتلقي رسالة الشعر .. ولكأن الشاعر عُمِّد في السماء شاعرا من خلال الحلم على يد الملائكة فتلبسته روح الشاعر الملهم والموحي إليه فاستعار قاموس المسيح فصدح قائلا وأنشد مرددا :

وتبدو هذه القصيدة – ظاهريا على الأقل – شطحة من شطحات المتصوفة الهائمين والغارقين في بحار المعرفة أو نزوة من نزوات الشعراء التائهين في صحراء اللذة لذا احتاج الشاعر إلى أن

يقدم لمحبيه مبررا فنيا وسببا عقليا لكي يعطي قوة ومصداقية لرسالته الشعرية فهو – أي الشاعر

أنا نفحة من روح الله

في رحم نجمة عذراء

و إذا تجلى لها ملاك الرب

قائلاً:

انهضي

خذي الصبي

وألقيه إلى الأرض...

تهللي

لا تحزني

لا تجزعي

إنـا رادوه إليك...

و جاعلوه شاعرا

ليبدأ ناموس الشعر الإلهي...!

وفي هذه القصيدة يتم استدعاء عدد من القصص الدينية القديمة فهنا تناص مع قصة المسيح ومريم العذراء والنجمة التي رآها المجوس وقت ميلاد المسيح وقصة موسى وأمه وخوفها من فرعون والقائها لموسى في البحر ... الشاعر هنا دمج كل هذه القصص في قصيدة قصيرة في حالة من حالات التناص المثيرة للجدل والداعية إلى النقاش لأن تاريخ البشرية كله يمكن أن يتحول على يد الشاعر إلى تاريخ واحد حتى لو تعددت مفرداته وتباينت فروعه وتفصيلاته ...

 يبدو الشاعر مهتما بآلية خروج القصيدة من قلبه وروحه ، ومحاولة شرح كيفية حدوث الإلهام والوحي الشعري داخل الشاعر

إذن فالشعر إلهام خارج عن حالة الانصهار مع الألم وتوحد مع الوجع وهو مسألة روحية في الأساس ناتجة عن حلول روح بروح واتحاد الأرواح في الخفاء ينتج لنا القصائد المكونة من حروف وكلمات يمكننا لمسها ورؤيتها وقراءتها وسماعها ...

 ويرجع الشاعر منير مزيد في انجيله سريعا إلى أسطورة أو قصة بداية الخلق وأولية الوجود البشري على الأرض فيقول : " ملعونة أنت ... الشجرة .. المرأة .. الأفعي .. واحد ما جئنا إلا لنتعذب المأساة المأساة يسعدنا أننا نغذيه ... ما جدوي أن نحيا في حياة تتجه نحو الموت ملعونة أنت " من هي المخاطبة باللعنه هل هي المرأة أم هي الحياة الكئيبة التي نعيشها ؟ إنها يذكر ثلاث مفردات كلها مؤنث : الشجرة – المرأة – والأفعي وكلها كان صاحب دور ما في إخراج آدم من الجنة ... الشجرة التي أثمرت تفاحة المعرفة التي أكلها أدم بإغواء من حواء والأفعي التي قبلت روح إبليس الشيطان لتكمتل عملية الإغواء والتضليل وعصيان الأمر الإلهى وبالتالي الخروج من الجنة ... ويؤكد الشاعر منير عذاب الإنسان على وجه الأرض ويعلن ازدياد المأساة على وجه الأرض لأن هذه الحياة تتجه إلي طريق واحد مسدود يفضي إلي الموت والموت فقط .

 وأيغالا من الشاعر منير مزيد في رؤية فلسفية مجردة للكون فإنه لا يري الموت نهاية طريق الحياة بل هو يراه أثناء الحياة نفسها إذن فهو يري الموت قبل وجود الموت فعلا فهو يري نفسه تابوتا ويري الكون كله قبرا إذن فالإنسان ميت في أثناء حياته والجسد هو تابوت الروح والكون هو قبر الجسد ...

والشاعر منير مزيد في إنجيله الشعري لا يتخلي عن الأخلاق والفضيلة في ديوانه فهو ليس شاعرا فوضويا أو كاتبا عبثيا بل القيمة والبحث عنها هدف يسعي إليه في كل ديوانه الشعري فما زال للخير والشر معني أحدهما مطلوب والثاني نحلم بالبعد عنه :

الويل الويل

 وإذا كان إبليس هو القبطان والقائد فمن الطبيعي أن تغرق المراكب في بحر الخطايا إذن فهنا إشارة إلي تسيد محور الشر في الكون وإذا كان النص يستدعي صورة إبليس من الكتب الدينية فإنه يتناص – أيضا – مع أحد نصوص النفري – هذا المتصوف الغامض – صاحب كتاب المواقف والمخاطبات فهو يقول في أحد نصوصه "المراكب تغرق والألواح تنجو "

والشاعر منير يرنو ببصره في انجيله نحو الخلود ولا يقف عند الموت ويتمني متقمصا روح المسيح أن يشيد العالم معابد للشعر ومعابد للحب ليكون الحب هو المذهب العالمي الجديد الذي يؤلف بين العناصر المتنافرة " يؤاخي بين الماء والنار .."

ولا يكتفي الشاعر منير مزيد بالتناص مع الكتب الدينية القديمة ولا مع نصوص المتصوفة المسلمين ولا مع قصائد الشعراء العرب بل هو يتناص مع الشعراء الغربيين – أيضا- بما يعكس انفتاحه المعرفي الكبير فهو يتحاور ويستدعي نصا شعريا لبودلير " أرتل أشعارا تليق بالآلهة الحالمين / أسمع بودلير يقول : لم يعد العالم مملا وصغيرا ... " كما أنه لا يتناص مع أقوال الماضي بل يتناص مع الأفعال والأحداث والوقائع – أيضا – فهو يستدعي البطل طارق بن زياد وواقعة إحراقه السفن وهو متجه إلي أوربا " قبلت التحدي / أحرقت السفن / وفي بحرها ألقيت نفسي ... " ولكن هل سفن الشاعر هي نفسها سفن القائد الحربي ؟ وهل بحر الشاعر هو نفسه البحر الأبيض المتوسط ؟ الشعر يتحرك في المطلق والعام والمجرد ، ويعيش بين الرموز والدلالات المتعددة على عكس الواقع الحياتي المحدد والواضح حتىفي قسوته وألمه ووحشيته . ويستمر الشاعر منير مزيد في حالات التناص والاشتباك والتحاور مع النصوص والكتب والقصائد والتاريخ والأساطير فهو يستحضر أسطورة طائر الفيينق الذي كلما أحترق بعث قويا من جديد

دعيني أحترق

أحترق في نشوة نار الشعر

من رماد الجنون..