ثلاث قاصات من اليمن

د. علي الصكر

 لا نزال نحتفي بظهور المرأة – الكاتبة في وطننا العربي مثل ما كانت القبيلة العربية في الجاهلية تحتفي بظهور شاعرها وتنحر الذبائح . هذا الاحتفاء مبعثه ( الندرة ) وسط مشهد ثقافي لازال ( ذكوريا ) بكل وضوح . ويجري عادة – في هذه المناسبة – التنويه بالجرأة والشجاعة كون المرأة المبدعة تجتاز عدة حواجز معا وبنفس الوقت لكي تسمع صوتها . مبعث احتفاءنا هذه المرة ظهور ثلاث مجموعات قصصية بنفس الوقت لقاصات يمنيات من جيل الشباب .

لا يكفي القول ( يمنيات ) كتعريف بالكاتبات موضوع هذا المقال حيث يتوجب الإشارة إلى كونهن جميعا من مدينة واحدة هي ذمار ( بلد شاعر اليمن الراحل عبد الله البردوني - 90كم جنوب العاصمة صنعاء ) المعروفة بكونها منطقة قبلية من الطراز الريفي الشائع في وطننا العربي والمعروف بنظرته المتحفظة بشدة حيال ظهور المرأة وعملها بله اختلاطها بالرجال والكتابة والنشر .

المجموعات القصصية هي : لا ينظرون للأعلى لحفصة ناصر مجلي و دوائر الماء لسلمى الخيواني ويحكى أن سيكون لأسماء المصري . وقد صدرت جميعا في 2010 عن مكتبة البردوني العامة ونادي القصة وكل منها هو الإصدار الأول لكاتبته .

 سنتساءل في البدء: لماذا يتوجب قراءة المجموعات الثلاث معا واعتبارها ( صفقة واحدة ) ؟ ما الذي يجمع بينها ليستوجب قراءتها معا ؟ هل هو مجرد كونهن ( كاتبات ) من مدينة واحدة ؟ وهل يشكل ذلك نوعا من الاصطفاف الثقافي ؟ وهل يشكلن تيارا أو تجمعا معينا ؟

 من الوهلة الأولى يبدو أن الكاتبات الثلاث يمتلكن سمات الانتماء إلى الجيل أو (الجماعة ) فهن في أعمار متقاربة حصلن على الشهادة الجامعية معا ( تخرجن جميعا من جامعة ذمار في السنوات القليلة الماضية ) ويعشن في نفس المدينة بظروف متشابهة الى حد كبير. و يحاولن بدأب وحماس – مع أخريات بالتأكيد في نادي القصة في محافظة ذمار – رسم ملامح إبداعية خاصة تميزهن عن المبدعات السابقات لهن في العمر والتجربة . ولكن كونهن منشدات في نفس الجوقة لا يعني أن أصواتهن تتطابق تماما فثمة خصوصية وتفرد سنحاول إثباتها بعد الفراغ من السمات المشتركة .

 في التقنية والبناء السردي سنلاحظ – أولا - نزوعا واضحا إلى الأنماط الحديثة . تقف الكاتبات جميعا – بشيء من تحفظ الخجول - على مسافة واحدة من التجريب . استعمال الراوي العليم هو الأكثر شيوعا ويليه الشخص الأول ( المتكلم ) . وسنلاحظ ثانيا – إلى جانب سلامة اللغة و سلاستها - ابتعاد الكاتبات جميعا عن الإسهاب وميلهن إلى العبارة الشعرية المكثفة وسنتساءل – مرة أخرى - هل هو من قبيل الصدفة أم أن هناك محددات طباعيه فنية ( أو مالية ) أوجبت أن تتساوى المجموعات الثلاث ( تقريبا ) ليس في الحجم ( القطع الصغير ) فحسب بل وفي عدد الصفحات كالتالي :

مجموعة أسماء 105 صفحة – 31 قصة

مجموعة سلمى 113 صفحة – 21 قصة

مجموعة حفصة : 125 صفحة – 17 قصة

 ***********************************************

تبدأ المجموعات الثلاث بقصص تمتد على مدى عدة صفحات وتنتهي جميعا بمجموعة قصص قصيرة جدا عنونتها أسماء ثرثرة مختصرة وأسمتها سلمى دوائر صغيرة جدا وأسمتها حفصة نسائيات . تغلب عليها جميعا المفردة الشعرية الموجزة مع تغليب (الومضة ) فيما يشبه نصوص قصيدة النثر الحديثة وبهذا يتراجع السردي فيها بل يغيب لصالح الشعري كما في الأمثلة التالية :

أسماء : الوردة الذكية

 " كلما رأت أحداهن تقطف بسهولة , تلقى جانبا أو تسحب بعد استفراغ عبيرها .... أنبتت أشواكا أطول واستعدت ... لكي تبقى "

سلمى : اعوجاج

" لو لم أكن ذلك الضلع الأعوج لمارست الانحناء والانثناء حتى تعوج أضلاعي و تنبعج أنسجتي "

حفصة : عائلة

" مساءات حزينة تكسوها الوحدة .... لا ينقصهم المال ..ولا المناسبات....

 ولا ينقصهم الزوار ... ما ينقصهم كلمة تحللت منذ مدة طويلة : حاء مضمومة يتلوها باء "

 لكن قصة سلمى انكسار تمتلك مقومات القصة القصيرة جدا وتتميز عن غيرها من النصوص بأن العبارة – رغم ايجازها - تدل على حدث وحبكة شديدة التركيز والعمق في الوقت ذاته . صحيح أن سلمى – كالأخريات – تقتنص لقطة واحدة لكن عدستها تعمل في ( زوم ) يقترب كثيرا وعميقا ليلج في أغوار سايكولوجية الشخصية :

 " انسل ببطء من جوارها , ارتسم على جدران الغرفة المظلمة شبحه عار تماما , انثنى ليلتقط أشياءه المبعثرة على الأرض , ليهم بالرحيل لكن شبحه ظل واقفا لساعات وساعات , حتى باغته ضوء النهار , وهو لا يزال مرتديا حلة العرس , ووجهه غارق في دموع العجز . "

 *************************************************************

 لقد حسم منذ أمد بعيد الجدل الدائر حول مصطلح الأدب النسوي وأصبحنا نصنف الكثير مما يكتبه الأدباء ( الذكور ) ضمن مفرزات النسوية الحديثة بمقدار اقترابه من طرح قضية المرأة وهمها الاجتماعي و وعيها بالذات . هنا – أيضا – لا بد من العودة إلى موضوعة ( الجيل ) أو التجمع فالفتيات الثلاث يعشن في وسط اجتماعي تسوده القبلية – كما نوهنا في المقدمة - التي تفرض من الحواجز على حضور المرأة أكثر من الأردية التي تلف جسمها بالكامل . يتجلى حضور المجتمع كسلطة متحكمة بوضوح أولا في قصة حرية من مجموعة حفصة : فتيات المدرسة الثانوية يذهبن في رحلة مدرسية بعيدا عن ( التابو ) يتدافعن نحو الباص ( تدافع الفراشات الصغيرة نحو الضوء ) لكن صعود المشرفة العابسة ( يكتم أنفاس الصغيرات ) . تضعنا القصة دون تكلف في أجواء الرحلة المدرسية في مشارف ذمار الجبلية الساحرة : البنات – الفراشات ( يسرقن لحظات الضحك والتصفيق ) وسلطة المشرفة تتضاءل شيئا فشيئا . عند الماء تلقي الفتيات الصغيرات الأحمال والحقائب وكل المقيدات الأخرى ليتراشقن بالماء بكل عفوية في مشهد يحيلنا الى طفل وليم بليك اليتيم ( كناس المداخن ) الذي يرمي حقيبته التي تحمل عدة التنظيف ويحلم باللعب في السهل الثلجي المترامي .لكن لحظة المرح هي حلم فقط سرعان ما ينتهي ليعود فيحمل حقيبته وينطلق للعمل المضني . فتيات حفصة يوثقن اللحظات بصور تذكارية ( تحكي أول لحظات سعادة الوصول لما أردنه ), يرتشفن السعادة من مياه حرية الجدول ( التي لا يملكها أحد ) . لكن رجلا يأتي من أسفل الوادي صارخا ينهي حلم الفتيات القصير بالحرية فتقتنص المشرفة الفرصة الذهبية وتعود لممارسة السلطة القهرية . الرمز القمعي المتمثل في الرجل واضح هو أيضا كبقية الرموز التي تكاد تطفو على سطح هذه الحكاية الرومانسية الشيقة .

 من مجموعة أسماء المصري يبدو لي أن القصة المعنونة صاحب الدرهم هي التي تحاول الاقتراب من الهم النسوي وتمظهراته الاجتماعية المتكررة على أرض الواقع . ترصد أسماء ظاهرة بغيضة تشكو منها بنات جنسها كثيرا وتدعى ( الزواج السياحي ) . أسماء تذكر أبطالها بالاسم ( زياد وذكرى ) لتضفي على قصتها مرجعية واقعية مثلما تصور لنا الحارة الشعبية ببيوتها المزدحمة المتهالكة و تلجأ – بذكاء - إلى العامية لتعزيز رسم الشخصية المحلية : ( يا جماعة الخير ... ذكرى عتضيع مني .... ذيه جاهي بين أرجلكم ...اتصرفوا .. اعملوا أي حاجة ) . ذكرى , ضحية الأب الجشع تزوج لثري من الخليج متزوج من ثلاث قبلها ويريد الرابعة ( بيضا ومزيونة ) بمساعدة أحد سماسرة الزواج . يتوسط عاقل الحارة وأعيانها وساطة تبوء بالفشل الذريع لأن ( كازانوفا الحارة ) جيوبه خاوية متدلية الى الخارج أما الثري ( أبو ناصر ) فجيوبه – مثل كرشه – منتفخة بالنقود .

 لكننا سنجد في مجموعة سلمى الخيواني أكثر من قصة تدور حول محور الهم النسوي . فلسفة مدمنة مثلا تجعل القارئ يبتسم ابتسامة عريضة – بل يضحك - عدة مرات بتأثير من المعالجة الكوميدية الهادفة : في لحظة كيف و( انشراح ) تحدث الوالدة ابنتها وهي تمضغ أوراق القات الخضراء في جلسة العصر ( سارحة الفكر مخدرة الجسد) أن المرأة ( تعرضت قبل ملايين السنوات لومضة من الجحيم تمددت على أثرها وانبسطت ,وأصبحت صبورة ولم تشتك هم الحياة ) قبل أن تنهي الفيلسوفة الجلسة لتصلي المغرب تفصح عن السبب الكامن وراء عدم شكوى المرأة : ( ذلك لأنها أدمنت أقراص القناعة ) .

 في قصة تاريخ الجنز المعاصر نرى وصفا لسوق الربوع الشعبي في ذمار و الحارات المحيطة به لكن الحدث الافتراضي يعني الكثير عند سلمى . يعلن خطيب المسجد عن ( زمن العجائب والفواحش ) و يحذر من مخاطر ( الجنز ) الأزرق فتهرع الحارة بأكملها تطارد الفتاة الصغيرة سعدية التي تضبط ( متلبسة ) بالجنز ولا يعرف مصيرها بعد ذلك .

 تحت المسام تتحدث عن علاقة تعلق مرضية بين طالبة و مدرستها تلفت الأنظار و تثير الأقاويل . اضربني بعنف تذهب أبعد من ذلك في معالجة سايكولوجية لفتاة تتلذذ بالألم فيما يشبه المازوشية . يمكن الإشارة إلى قصص أخرى من سلمى : مثل سلام و قمصان النوم كمزيد من الأدلة على الزعم بان سلوى تسبق زميلتيها ببضع خطوات وأن تجربتها في كتابة القصة تبدو أكثر نضجا و جرأة و أنها تمسك جيدا بمفاتيح سردها .

 *************************************************

الروائي اليمني محمد الغربي عمران يقف خلف الكثير من الكتابة القصصية في محافظته ( ذمار ) راعيا ومشجعا . في تقديمه لمجموعة أسماء المصري يأمل عمران " أن تواصل أسماء كتابتها الإبداعية متجاوزة تلك العوائق التي عادة ما تتكاثر أمام بنات جنسها ... وأكثرها عوائق اجتماعية ما يجعلنا نشهد ميلاد أديبات واعدات ثم تختفي تلك النجوم " .

ليس الغربي عمران وحده , نحن أيضا نأمل أن تواصل أسماء وحفصة وسلمى و زميلاتهن وأن لا يكن مثل ( شعراء الواحدة ) وما أكثرهم بل ( ما أكثرهن ) في مشهدنا الثقافي .