جمالية المفارقة في نص "عائدون" للشاعر احمد مطر

جمالية المفارقة في نص "عائدون"

للشاعر احمد مطر

أحمد مطر


د. رمضان عمر

[email protected]

رئيس رابطة أدباء بيت المقدس / فلسطين

تظل البنية الهيكلية الحديثة للشعر واحدة من الثورات العنيفة التي هزت جسد القصيدة، لكن هذا الاهتزاز لا يعني بالضرورة انهيارا كليا لمنظومة القيم التي حكمت النص الشعري العربي وفق معيارية تناقلها جيل عن جيل، وقنن لها ناقد اثر ناقد.

 نقول هذا ونحن ننحاز للبنية الفنية الجديدة وتقنياتها المستحدثة، دون أن نذعن لدعوات التغريب والهدم، بل نؤكد على أصالة الشعر العربي ونضارتها، وكل جديد فيه يتصل بسبب مع قديمه المتوارث، غير أن طبيعة الشعر تسمح لهذا النوع من التطور ما دامت الثوابت الدلالية تحفظ للأمة هويتها .، فالنص يتعلق بموضوع فلسطيني خالص " حق العودة "، ومشروع عربي قومي  " ضرورة تحرير فلسطين " وإعادة الحقوق، وإنهاء الاحتلال، فهو من هذه الناحية يحمل قيما معرفية تصل إلى حد اعتبارها وثائق سياسية ذات بعد ثقافي .

 إلا أن طرق الموضوع فنيا" شعريا" يجعل النص خاضعا للمفهوم الجمالي، أعني أن الغاية من كتابته لم تعد معرفية صرفة، بل ثمة غايات جمالية جعلت الكاتب يختار هذا النسق التعبيري دون غيره، ثم إن اعتماد المفارقة كمشكل أساس لبناء النص يضفي على هذه الجمالية أبعادا جديدة تؤخذ بعين الاعتبار عند تناوله .

ولعل أول صدمة تواجهنا- بالمفهوم البنيوي الحديث- " لجمالية المفارقة" تكمن في عنوان النص" حنين العودة "؛ فمن خلال هذا العنوان يتمطى الزمن، وتتباعد الذكريات ليتحول مشروع العودة إلى " حنين " يشبه الحلم الوردي الضائع المثقل بآهات الوجع وأعباء الكارثة، ويخفي حتمية الرجوع المرهونة بإستراتيجية فاعلة، تتكئ على العمل لا على الانفعال.

 ويبدو أن الشاعر وقف على حقيقة المشهد السياسي المتشكل عاطفيا في أمان ينطق باسمها الحنين، ولا ترقى إلى مستوى الحتمية، لكن هذا التوصيف العاطفي- الذي يحمله العنوان- لا يشكل نقدا لاذعا بقدر ما يكشف عن مفارقة حزينة لواقع مؤلم.

أما جسد القصيدة، فإنه يتكئ على دفقة شعورية واحدة، تقدم النص باعتباره "مفارقة موقف " تتجلى من خلالها كافة المفارقات المرجوة ذات العلاقة بالمشهدين: السياسي الواقعي، والتاريخي الممتد، وإذا كانت القضية كذلك، فلا حاجة لكثير من التفصيل؛ فلم تعد الغاية تسجيلية لما دار ويدور، بل تحول النص إلى كشف شعوري مكثف لما آل إليه المشهد بعد التشريد والتهجير.أو قل بعد  انحراف  بوصلة الخطاب السياسي  من خطاب  صادق  وفاعل  إلى خطاب  انفعالي  كاذب ورديء.

ينفتح النص على عبارة مثقلة بهمين: هم تاريخي يتمثل في كلمة "هرم "، وهم كوني يتمثل في كلمة "الناس" المستغرقة للجنس البشري، هذا "الهرم" يقابل بمفارقة تصويرية تشكل معادلا موضوعيا لهرم الناس، يصل إليها الشاعر دون أن يمر في أي من محطات التاريخية؛ فالهرم يأتي مباشرة بعد الرضاعة، ليسقط الزمن الممثل للحياة التي ينبغي أن يعيشها الناس"الفلسطينيون" في أرض سلبت و شعب شرد، ولعل عبارة الناس بعموميتها تخفي ما كان يجب أن يكون من تعريف وتوصيف باعتبارهم شعبا له أرض وهوية:

هذا التحول السريع والانتقال المفاجئ من أخمص الرضاعة إلى ناصية "الهرم" نقل المشهد إلى مفارقة تصويرية أخرى، وذلك حين ربط الشاعر  هذا المشهد بالغناء الواعد "عائدون".

إن كلمة "عائدون" المنكرة المتصلة بواو الجماعة، تلك الواو التي تعود على الناس "الناس" التي تخفي في ثناياها حزما من الدلالات المتشعبة؛ فالناس هم الشعب، وهم المهجرون الذين سلبوا هويتهم وأرضهم. لكن هذه العبارة المختصرة لن تستطيع أن تجفف المنابع الدلالية لما يمكن أن تحمله هذه العبارة المكثفة من إشعاعات رمزية، فمن هو المغني؟ وما علاقته بالعودة؟ ولماذا هرم السامعون بعد أن سمعوه يغني؟ وما القيم الرمزية الدلالية المبنية على إستراتيجية هذه المفارقة بين سماع الغناء والهرم؟ وماذا ستضفي هذه التركيبة الخاصة ذات البعد الشعري العنيف على المشهد السياسي من أبعاد؟ وهل هذه المفارقة التصويرية التي انفتح عليها النص في أول سطرين شعريين تمثل استجابة سريعة لمتطلبات العنوان" حنين العودة "، وهل هذا النزف التشاؤمي السريع -من خلال الانتقال المفجع لمرحلة "الهرم" دون الولوج لمرحلة الشباب- يكشف عن رؤية شعرية يحتملها العنوان باعتبار أن الحنين حلم وردي بلاستيكي لا مادي واقعي متفاعل؟ وهل شخصية أحمد مطر الموغلة في تشاؤم قد لعبت دورا بارزا في تقديم هذه الرؤية  حول موضوع العودة أم أن منطق الشعر لا يحفل كثيرا بالوعود السياسية الجافة المعتمدة على تحديد زمني وقرارات تنتظر التنفيذ؟

عندما قال المُغنّي : عائـدون .

إن الانتقال إلى الموضوع السياسي المباشر - في رأي الشاعر- هو الانتقال من الدفقة الشعورية إلى الواقع السياسي الهزيل الذي شكل هذه المفارقة العجيبة

يا فلسطينُ ومازالَ المُغنّي يتغنّى

وملايينُ اللحـونْ

في فضـاءِ الجُـرحِ تفنى

واليتامـى .. مِن يتامى يولـدونْ .

إن النداء الصارخ الذي يرثي فلسطين ويكشف عن واقعها الأليم، هو الذي حدد ماهية هذه المفارقة، وكشف عن أول دفق شعوري يجلل واقع الهزيمة في نفق السياسة المظلم .

وإذا كانت المفارقة قد تجلت في أول صرخة حزينة كشفت  عن وهم الغناء المهزوز، تحت فظاعة هذا الجرح النازف؛ فان المفارقة الثانية ستكشف عن حقيقة الواقع ذلك السياسي المتعري تحت أكذوبة النضال الذي يتشدق  به الحكام  والمسئولون عن هموم هذه الأمة. فكلمة المناضلون- هنا- تشكل بؤرة التشكيل الجمالي للمشهد الشعري،فهي الإطار الآخر المشكل لجماليات المفارقة بعد كلمة المغني، ويبدو لي أن كلمة "المغني" لا تبتعد كثيرا في دلالتها الرمزية عن كلمة " المناضلون"؛ فالنضال  في حقيقته لا يعدو أن يكون هزاً للقناني، وهزا للبطون  

يا فلسطينُ وأربابُ النضالِ المدمنـونْ

سـاءَهمْ ما يشهـدونْ

فَمَضـوا يستنكِرونْ

ويخوضـونَ النّضالاتِ

على هَـزِّ القناني

.......................................

وعلى هَـزِّ البطـونْ !

 المغني يصرخ: "عائدون"، والمناضلون يرددون: "عائدون"، ولكن المفارقة وحدها من سيكشف عن زيف هذا الخداع المضلل؛ فالوقع يكشف أن حلم العودة لم يتحقق، لكن العودة الحقيقية المتكررة- دائما- هي عودة الجرح النازف:

ولقـدْ عادَ الأسـى للمـرّةِ الألفِ

فلا عُـدنا ..

ولا هُـم يحزنـونْ !

وهنا ينغلق النص انغلاقا مروع بعد أن كشف عن حقيقة المفارقة بين ما هو قائم على الأرض، وما يردده المتآمرون .

 لا أستطيع بعد أن قدمت هذه القراءة الجمالية لمشهد شعري قصير أن اغفل إشعاعاته المضمونية التي تجعله نصا معرفيا أو وثيقة سياسة .فالنص-هنا- مكثف  ورمزي يحمل أبعادا عديدة، تجعله نصا موجها غائيا، ويمكن تقديمه باعتباره رؤية أو استشراف  تحليلي لواقع لم يتشكل  تشكلا سليما.

 فمشروع العودة لا يمكن أن يبقى- ضمن الفهم الجمعي للشعب- مجرد شعار يتغنى به المجتمع الدولي؛ إذ لا قيمة لكافة القرارات الضامنة لحق العودة  دون أن تترجم هذه النداءات" الغناء" إلى واقع عملي ملموس، هذا من نحو أما من الناحية الثانية فان النضال الشكلي المتمثل برفع شعارات براقة غير عابرة للواقع السياسي ليست إلا شكلا من أشكال الحلم السلمي الذي يفضى إلى حتمية اليأس، وفقدان الحق؛فلا العودة تحققت ولا ما يحزنون.

ومن هنا؛ فان ترجمة الدفقة الشعرية إلى واقع سياسي فاعل تقتضي أن تتم ترجمة الأحلام إلى رؤىن أو تحويل الشعارات إلى استراتيجياتن بل لا بد من نسف دال المفارقة؛  فعندما تنتفي المفارقة ويعود المفهوم الدلالي للمغني مفهوما معجميا حقيقيا نكون قد وصلنا إلى الغايات التي لا يهرم معها الرضيع، بل ينبت الأمل وتعود الروح الشبابية لتجري في ذاكرة العودة، ويصبح المناضل هو المناضل الحق الذي يغير الواقع، فيتحقق حلم العودة.

 إن تجليات المفارقة الجمالية لم تكشف عن تقنية مفرغة  في رؤية شعرية فنية فقط،  بل كشفت- من خلال التكثيف الدلالي- عن صرخة واعية في ذاكرة الأمة لتعيد المنهج النضالي، ناسفة ما تم تجريبه من زيف شعاراتي مهيض ومنكسر لتعود الروح المرجوة تسري في الجسد الظمآن،  فيتحقق النصر، وتتم العودة.