ديوان مرافئ الروح للشاعر حسن النيفي

د. عبد السلام الراغب

د. عبد السلام الراغب

 تعددت اتجاهات الشعر العربي الحديث ، وتنوعت قضاياه ، ومناهج درساته ، حتى غدا بعضه غريباً عن وجدان الأمة ، وأدبها وحضارتها ، وبعضه الآخر ظلّ متواصلاً مع جذوره الأدبية والتاريخية والحضارية .

 وهذا الديوان " مرافئ الروح " للشاعر حسن النيفي ، من الشعر الأصيل الذي يمثل امتداداً للشعر العربي العريق الذي يجمع بين المتعة الفنية والفائدة ، والأصالة والمعاصرة ، وبين الفكر والشعور ، إذ جعل الشاعر فنه الشعري جزءاً من فكره ، وفكره جزءاً من شعره ، فكان هذا النسيج الشعري في إيقاعه المتجانس ، ولحنه المتناغم بين الفكر والشعور إضافةً جديدة إلى قيثارة الشعر العربي الحديث ، بإيقاعه المتميز الذي يجمع بين العروبة والإسلام ، فالشاعر ـ على امتداد قصائده ـ يذكي بهما ، ويحضّ عليهما ، وينهى عن الفصل بينهما ، وجعل غاية شعره ما يخلّفه من أثر في النفس إزاء فعل معين رغبة في إحيائهما والتمسك بهما أو النهي عن الإعراض عنهما مما يفضي إلى الهزيمة والتخلّف .. ومن الخطأ أن نظن أنّ الشعر يخلو من الفكر ، ونعده شعوراً خالصاً كالموسيقا ، أو أنه يخلو من أية وظيفة اجتماعية أوأخلاقية ؛ لأن الشعر في طبيعته ومادته ، يختلف عن فن الموسيقا والفنون الأخرى ، وإن التقى معها في بعض عناصره ومكوناته .

 والشاعر حسن النيفي من النماذج الشعرية المتميزة برؤيتها وموقفها ، وتجربتها الإنسانية ، فقد استطاع أن يجعل شعره مجلى لفكره ، وفكره مجلى لشعره ، في ثنائية متلازمة هي العروبة والإسلام .

 لقد دفع ثمناً باهظاً من شبابه وحياته بسبب رؤيته وموقفه ، فدخل السجن وخاض تجربة شعورية جديدة ، تغنى فيها بموقفه وعروبته ودينه ، مستخفاً بخصومه وقيوده ، وقد أثر ذلك في تشكيل شعره ، فترك أثراً في تعابيره وصوره الفنية وبنية قصيدته وموسيقاه الشعرية التي جاوزت حدودها المألوفة في الوزن والقافية إلى موسيقى داخلية نفسية صبغت صوره الفنية بموجبات شعوره ، كما لونت تعبيره الشعري بحركة نفسه الأبية الممتلئة بعزّ أمته ، تحفزه رغبة شديدة إلى إسماع صوته المبحوح وسط غيوم الأحزان و " رماد السنين " فهو بحق أنموذج حيّ لامتزاج الفكر بالشعور مع إيقاع موسيقي بالغ التأثير ، يعبر عن روح شعرية تجلّت فيها صور عصره بما فيها من صراعات وحروب وهزائم وطغيان .

 وتنداح الصور الدينية في ديوانه بانسياب ويسر من غير تكلف ، وكأن الدين بقوته الروحية والفكرية قد غذى عقله وقلبه ووجدانه فغدا جزءاً من تجربته الشعرية ، فوسّع من تصوره للحياة ، وعمّق إحساسه بها ، ولم يكن هذا التأثير الديني ثانوياً ، بل كان جوهرياً في تشكيله الشعري ، وقد برز هذا واضحاً في كثرة (التناص) مع القرآن الكريم والتاريخ الإسلامي ، وقد ظهر ذلك منذ القصيدة الأولى " قسم لذي حجر " .

 وهذا يدل على ثقافة الشاعر واطلاعه على التيارات الحديثة في الشعر . يقول في قصيدة " عاشق الشمس " مخاطباً الشاعر يوسف عبيد في حفل تأبينه :

 آنست ناراً أم لمحت هلالا      يا مُبصراً خلف الجمال جمالا

 والتناص هنا مع قوله تعالى على لسان موسى عليه السلام : {إني آنست ناراً لعلي ءاتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى} . (سورة طه : 10) ، وكأن الشاعر يشير من خلال هذا التناص إلى رغبة في الخلاص .

 ويلوذ الشاعر بالربوبية الراعية والمتصرفة بشؤون الحياة والكون والإنسان ، فيبث ربه سبحانه نجواه وشكواه ، مستأنساً بحماه ونوره ، بعد أن فقد الأنيس والضياء في مجتمعه وواقعه ، وهذه الصور الدينية بعناصرها التكوينية والإيحائية والغائية ، صور طليقة غير محدودة ، ممتدة في الزمان والمكان ، تعتمد على ثقافة المبدع والمتلقي في ارتياد آفاقها وآمادها ، فتقوّي مخيلة المتلقي ، وتدعوه إلى التحرر من الظواهر والأعراض والاقتراب من الحقيقة الباقية ، فتغمره بنشوة روحية تنسيه آلام الجسد ومعاناته ولو إلى حين . وبذلك يكون (المعنى الديني) من أدوات الكشف عن نوع من الحقائق التي لا تدرك بالحس ولا بالعقل .

 والملاحظ في صوره النفسية أنه يعتمد على حواسه في نقل عواطفه وتجاربه ، وعلى خياله في إثرائها والتأثير بها ، وهي في حقيقتها انطباعات مسترجعة يبني عليها عمله الشعري ، ثم يتم إحياؤها لدى المتلقي لتثير فيه الإحساس الأصيل نفسه . ويغلب على هذه الصور (الصورة البصرية) الملائمة لثقافته العربية وتكوينه النفسي والذهني وهي تقوم على إبراز اللونين (الظلام والنور) للإيحاء بظلمة الواقع العربي المعاصر ومجد الأمة العربية الآفل .

 كما تكثر الصور التقليدية التي استند في تشكيلها إلى ثقافته الشعرية العربية وبيئته ، فنقع في ديوانه على صور تقليدية مثل " الليل ـ النجم ـ الشمس ـ القمر ـ الهلال ـ السحاب ـ الغيوم ـ الرياح ـ الفلوات ـ الصحارى ـ الأحجار ـ العشب ـ الرمال ـ الخيول ـ الأوحال ـ السهول ـ الوشم ـ السيوف ـ الأمواج ـ الوعول ـ القبور ـ القطيع ـ الأغصان ـ النخيل ـ النسر ـ البيارق ـ النار ـ الجمر ـ الرماد ـ الطيور ـ الشطآن ـ الزهور ـ الربيع .. " .

 وإذا انتقلنا إلى الموسيقا الشعرية في ديوانه بنوعيها الخارجي والداخلي ، فإننا نحس بأنها اصطبغت بأصباغ نفسه ، وألوان تجربته الشعورية أيضاً ، وظل فيها أميناً لثقافته العربية وأوزان الشعر العربي التقليدي ، سوى بعض القصائد التي جرى فيها مجرى الشعر العربي الحديث في اعتماده نظام التفعيلة الواحدة الموزعة على أسطر القصيدة حسب دفقات شعوره كماً ونوعاً ، بخلاف الشعر التقليدي القائم على تساوي التفعيلات في شطري البيت الواحد من القصيدة . وكما أنه أُشرب روح القديم في صوره الفنية ، فإنه في موسيقاه الشعرية أيضاً يعزف على أوزان الشعر التي كثرت في الشعر القديم ، فراح يكرر هذه الأوزان المشهورة مرتبة على النحو الآتي : " الكامل إحدى عشرة قصيدة ، الخفيف خمس قصائد ، البسيط قصيدتان ، وقصيدة واحدة لكل من الرمل والوافر والمتقارب والهزج " ؛ فالبحر الكامل يحتل المكانة الأولى في ديوانه " مرافئ الروح " وهو يمتاز بصلاحيته لكل أغراض الشعر ، ولاسيما الشعر القصصي ، لاعتماده على تفعيلة واحدة مكررة ، تعطي الشاعر مرونة وطلاقة في التعبير عن نفسه وعن تجربته ، وكأنه في تفضيله له عن قصد أو غير قصد ، يروي حياته وخبر معاناته ومحنته .

 وتعد (وحدة القصيدة) من الظواهر الفنية البارزة لدى الشاعر حسن النيفي ، إذ استطاع أن يقيم العلاقة بين المضمون والشكل من غير انفصال أو خلل ، وأن يوحد البناء الفني من المشاعر والأفكار والأخيلة والتعابير والتجارب في وحدة فنية متماسكة لقصيدته .

 وقد اعتمد في إحكام قصيدته وتماسكها على بناء (التضاد) غالباً ، وغاب عنها البناء السردي والبناء الدرامي النامي ، لأن طبيعة شعره تعتمد على (الغنائية) التي أُشربت روح الشعر القديم وبناء التضاد ينسجم مع رؤيته وتجربته ، إذ هناك في ذهنه (المثال الغائب) و (الواقع الملموس) وقد تجلى هذا في ثنائية صوره الفنية القائمة في أصولها على التضاد بين الظلام والنور ، وكذلك هنا أيضاً في رؤية أشمل لبناء قصيدته ، وهذه الثنائية بين (الواقع والمثال) في شعره ،تتجاوب مع تجربته وثقافته ، فهو ممسك بأجزاء القصيدة في لحمة عضوية تعطينا وحدة الأثر والانطباع في نهايتها ، وقد تجلى ذلك في قصائد الديوان (عاشق الشمس ـ ضياع ـ قالت لك الدنيا ـ سيد الألم الدفين ـ لك ما تشاء ـ من رماد الذاكرة ـ ذكراك ـ نشيد الصحارى) .

 كما يلاحظ في مطالع قصائده أنه يعتمد على صيغة أسلوبية مكررة ، لأن نقطة البداية في القصيدة هي المرحلة الأصعب بالنسبة إلى الشاعر ، وتعد هذه البداية الأسلوبية بمثابة الإشارة الموحية للمبدع والمتلقي على حد سواء .

 فالشاعر حسن النيفي يمثل الروح الأصيلة في الشعر العربي المعاصر ، وقد بدا في ديوانه " مرافئ الروح " قد أشرب روح الشعر العربي القديم في تعبيره وصوره وموسيقاه ، معبراً عن ثقافة عربية ، وقدرة شعرية ملموسة على تطويع أوزان الشعر القديمة للمضامين الجديدة . وشعره يعبر عن مذاق خاص ، ورؤية ، وموقف ، مع عمق التجربة ، وصدق التعبير ، فهو جدير بالقراءة والدراسة ليأخذ مكانه اللائق بين الشعراء العرب المعاصرين .

 وهذا "التقديم" لديوانه لا يعد دراسة نقدية لشعره بالمعنى النقدي الشامل ، وإنما هي قراءة لتسجيل أبرز الظواهر والمعالم والسمات .

 وأدعو بقية الشعراء المعاصرين إلى توظيف أشعارهم في نهضة الأمة العربية الإسلامية وإحياء مجدها السالف في العزة والكرامة والحرية والتقدم . فنحن بأمس الحاجة إلى هذا الشعر الهادف والشاعر الملتزم .. والله ولي التوفيق .

من تقديم الديوان للدكتور عبدالسلام الراغب