القصة وحقيقة الجنس اللعين

( ليزلي سيلكو )

يوسف يوسف

في حديثه عن كيفية كتابة تاريخ شعبه الهندي الأحمر (1) ، يقول" مايك هولي إيغل " في رسالة كتبها إلى منير العكش رئيس تحرير مجلة " جسور " الأمريكية : تاريخنا مكتوب بالحبر الأبيض. إن أوّل ما يفعله المنتصر هو محو تاريخ المهزوم . ويا الله ما أغزر دموعهم فوق دماء ضحاياهم ، وما أسهل أن يسرقوا وجودهم من ضمير الأرض. هذه واحدة من الابادات الكثيرة التي واجهناها وسيواجهها الفلسطينيون . إن جلادنا المقدس واحد (2)

 إنه مقطع هام ، وفيه من الاشارات ما يكفي لمعرفة ما حدث للهنود الحمر بالضبط. وفي الرسالة يتحدث " إيغل " عن مخيلة النفي والحضور، وعن أولئك المستعمرين الذين كانوا يحلمون بقارة تخلو من الهنود ، يقيمون فوقها أو فوق أشلاء شعبها بتعبير أصح ، الدولة التي يطمعون ببنائها ، تماما مثلما كان الاسرائيليون الأوائل ، يحلمون بفلسطين تخلو من الكنعانيين الذين حملت اسمهم منذ فجر التاريخ فصارت أرض كنعان . وهكذا فإن إشارة إيغل إلى التاريخ المكتوب بالحبر الأبيض ، وإلى سرقة الوجود من ضمير الأرض، إنما تحفزّنا لدراسة كيفية نفي التاريخ الهندي ، وإحلال تاريخ آخر في مكانه ، هو تاريخ الرجل الأبيض الذي جاء استجابة لأوامر اللاهوت ، ولمقولة "القدر المتجلي" التي يتحول القاتل فيها إلى كائن مقدس. ولكن لأن هدف هذه الدراسة له شأن آخر ، سوى الحديث عن احتفالية القتل التي حولت صاحب الأرض إلى غريب ، والغريب إلى صاحب أرض ، فإنه مما يفي بالغرض القول بأن الهنود الحمر أمضوا قرونا عديدة في معصرة غضب الرب ، الذي اختار شعبه البيوريتاني ، وفضله على سواه من الشعوب ، تماما مثلما حدث مع الكنعانيين ، أصحاب الأرض الأصليين . وهكذا وبحسب ما يبين منير العكش " عندما كان الهنود الأبرياء ضحايا مسالمين ، وضعفاء مقهورين ، مسلوبين منهوبين مهانين تقتات كلاب المستعمرين من لحم أطفالهم ، كان الأدب الاستعماري يصوّرهم وحوشا يهددون حضارة العالم ، وكائنات على شكل السعالي والغيلان الشيطانية ، تفترس الأطفال ، وتغتصب الأبكار، وتسمم حياة المستعمرين الأبرياء (3). وإذ تأتي الاشارة إلى الأدب قبل غيره من المكونات ، فذلك لأنه الميدان الرحب الذي يمكنه استيعاب مختلف ألوان المخاتلة والتخفي والأقنعة . ولأنه المساحة الواسعة التي يمكن تلفيق الأساطير فيها ومختلف أشكال الخرافات حول النفي والحضور. فاما النفي فإنه الذي يرتبط بالهندي وبإنكار وجوده، وأما الحضور فإنه الذي يرتبط بالبيوريتاني وإثبات وجوده وحده فوق الأرض التي أصبحت لاحقا تعرف ب (الولايات المتحدة الأمريكية). وهنا على وجه التحديد نتذكر قولا للمفكر إدوارد سعيد نقتطف منه ما يلي ( إن القوة المدمرة التي تنتج السيطرة والهيمنة لا مناص لها من أن تؤمن بتفوقها ، وبأنها ذات رسالة إلهية ، أو تحضيرية أو هادية علوية من نمط آخر . القوي المسيطر ليس من طبيعته أوطبيعة الأشياء أن يعتبر الضعيف ندّا له ، أو أن يعامله بإجلال ، أو يؤمن بأنه ينتمي إلى الحيز ذاته من الوجود والانسانية والموهبة والأحقية الذي ينتمي هو إليه(4) .

 لسنا في هذه الدراسة بصدد البحث في الصراع بين المستعمرين والسكان الأصليين لقارة أمريكا الشمالية من الهنود الحمر. وحتى فإننا لا نودّ الخوض في الصراع بين منظومتين : إحداهما لها الكلمة الفصل ، والثانية لا نكاد نسمع صوتها . ذلك لأن مثل هذا الاهتمام إن وجد ، فإنه يحتاج إلى جهد كبير ، وإلى قراءة استقصائية مقارنة ، تضع النقاط فوق الحروف ، وتتحدث بإسهاب حول كل ما يرتبط بالصراع وبضمنه صراع السرديات والمرويات كذلك .

 إن الأمم وبحسب ما يذهب إليه مفكرون كثيرون ، سرديات ومرويات. وخلال مسيرتها الطويلة التي تمتد إلى عدة قرون ، حاولت سرديات البيوريتانز نفي وجود مسرود هندي . هذا ما قصده " إيغل " في حديثه عن تاريخ المهزوم وتاريخ المنتصر ، وهو ما نقصده هنا حتى وإن كنا لا نريد التوقف أمامه. بيد أنه مما يغني في توضيح الصورة والكشف عن أبعادها وملامحها، الاشارة إلى ما يقوله هربرت غانس في كتابه " الحرب على الفقراء " حول حرب البيوريتانز ضدّ الهنود الحمر ( إنها حرب تشنيع وتجريح وسحق لهؤلاء الضحايا ، لجأت إلى التشكيك في طبيعتهم وأخلاقهم وقيمهم وإنسانيتهم ، لتشيع اليأس من وجودهم ومن مستقبلهم . بهذا تصبح مساعدتهم هدرا ، ويصير إنقاذهم عبئا ، لأنهم وهذا بيت القصيد في هذا المنطق العلمي ، منحطون طبيعيا وأخلاقيا ومسؤولون وحدهم عن كل ما أصابهم "(5).

 وباختصار فإن سرديات المستعمرين ومروياتهم الشفاهية ، قدمت الهنود الحمر باعتبارهم أنانيين لا يحبون الآخرين . وهم غدّارون ومتوحشون ، لا همّ لهم في الحياة غير قتل البيض ، الذين جاءوا بحسب الزعم لتحضيرهم والارتقاء بهم . ومن هنا تعددت التسميات التي ألصقت بالهنود الحمر ، فهم " الكنعانيون" و" المتوحشون الطيبون" و"الإباش" . وأما تسمية " الجنس اللعين" فقد وردت في الأمر العسكري الذي كتبه القائد الانجليزي العام اللورد " جفري إمهرست " إلى مرؤوسه الكولونيل " هنري بوكيه" في عام 1736 يطلب منه أن يجري مفاوضات سلام مع الهنود ، ويقدم لهم بطانيات مسمومة بجراثيم الجدري لاستئصال هذا الجنس اللعين )(6).

 إن " الجنس اللعين " هذا ، هو نفسه الذي قدّم أفضل النتاجات البلاغية المبكرة كما يقول " جون . ه. مور"(7) . تلك النتاجات التي ما تزال شاخصة حتى اليوم ، في الشعر والقصة والرواية والمسرود الشفاهي ، وفي مئات الخطب التي ظهرت في القرن السادس عشر . ولعل القراءة المتأنية الصادقة تكتشف صحة ما نذهب إليه ، عندما نعدّ حتى هذه الخطب التي كان يلقيها الزعماء الهنود " قطعا أدبية" تكشف عن عبقرية فذة ، وعن طاقة نثرية كبيرة وعلى منوال ما نراه في المقاطع التالية :

 (1) يقول زعيم الكومانجي الذي يدعى "عشرة دببة" في خطابه أمام مجلس البيض في عام 1867 ( إن قلبي يمتلئ بالغبطة عندما أراكم هنا ، مثلما يمتلئ الجدول بالماء . إنني سعيد مثل الحصان الذي رأى فجأة عشبا جديدا في بداية السنة . إنكم تنوون إسكاننا بالإكراه في منطقة خاصة ، حيث بنيتم هناك البيوت والكنائس ، لكني لا أحتاج إلى ذلك . لقد ولدت في أرض تهبّ عليها الريح بحرّية ، ولا يوجد أي شيء يمكن أن يحجب عنها صوء الشمس . لقد ولدت هناك حيث لم تكن حواجز أو جدران ، وحيث يتنفس الجميع بحرّية. وهناك ، وليس بين جدران أربعة ، أريد أن أموت . الانسان الأبيض استولى على تلك الأراضي التي كنا نحبها جدا، سوف نتسكع نحن في تلك السهوب إلى أن نموت ).

 (2) يقول الزعيم (سياتل) في رسالة إلى رئيس الولايات المتحدة الأمريكية عامى1855 ردا على طلبه شراء أرض القبيلة ( كيف يمكن للمرء أن يشتري السماء أو يبيعها ؟ وكذلك دفء هذه الأرض؟ إن هذه الفكرة مثيرة جدا بالنسبة لنا ، إذ أن نقاوة الهواء أو لمعان المياه ، هما ليسا ملكنا، فكيف يمكنكم شراءها منا ؟ إن كل قطعة من هذه الأرض هي في غاية القدسية لشعبي . كذلك كل أشجار الغابة العالية ، والضفاف الرملية في وسط الغابات الكثيفة المظلمة ، وكل ضوء ينساب داخلها ، وكل حشرة تطن في أرجائها. يحبّ الهندي صوت الرياح الرقيق عندما يهبّ على مياه البحيرة ، ورائحة الهواء عندما تغسله أمطار الظهيرة ، أو عندما يكتسب رائحة شجرة العفص . عندما سيختفي آخر رجل أحمر من الأرض، وعندما ستكون الذكريات كظل سحابة تسير فوق البراري، عند ذاك ستتمسك حافات الغابات بأرواح شعبي الذي أحبّ هذه البلاد كحبّ الوليد لدقات قلب أمه).

 ربما استطاع المستعمرون سرقة وجودهم من " ضمير الأرض" ، وقد يكونون كتبوا تاريخا جديدا لقارة المجاهل بحبرهم الأبيض ، ولكن حافات الغابات كما أعلن سياتل ستبقى تتشبث بأرواح الهنود الحمر ، أولئك الذين جاءت من نسلهم القاصة ( ليزلي سيلكو ) التي سوف تناضل بكل جماع الكلمة من أجل أن تدفع اللعنة عن جنسها وتردها لتصفع بها وجه من أطلقها عليها . وهي بذلك تكون قد شقت طريقا جديدا لحرب السرديات ، سوف تسترجع مع غيرها من أدباء الهنود الحمر من خلاله تاريخ القارة التي احتضنت أجساد ما يزيد على المائة وعشرين مليونا من بني جنسها الذين قضوا في أكبر مجازر التاريخ تحت طائلة اعتبارهم " الجنس اللعين" الذي يستحق الموت .

 ولدت (ليزلي سيلكو) في الخامس من آذار عام 1948 في (البوكريك – نيو مكسيكو) . وقد نشأت وترعرعت في ( لاكونا بيبلو) من سلالة هجينة (8) . ولمدينة (لاكونا) الفضل في تحقيق ما وصلت إليه من مركز أدبي مرموق. وليزلي سيلكو لا تتحدد في إبداعها بمشاكل ذات صفات ذاتية خاصة بها، وهي في روايتها " مراسم الاحتفال" وفي كتابها " الرواة" تتناول موضوعة الدين ، والبدايات الخارقة للطبيعة . وبدون أي ارتباك أو حيرة بتاتا، تتأمل سيلكو في تصرفات الساحرات والمخلوقات الخارقة للطبيعة والطيور والوحوش(9). وباختصار فإنها تنفث حياة جديدة في التراث الملحمي لشعبها ، مثلما سنلاحظ في قصتيها اللتين نتناولهما في هذه الدراسة .

 (*) هيما ويبي- الكاهن المقاتل (10)

 هذه القصة من الواقعية . وفيها مستويان : ظاهري وباطني . فأما الظاهري فإنه الذي يمكن أن يستشفه المتلقي بعد القراءة الاولى، في حين أن المستوى الآخر الباطني ، يختفي وراء ما تسمى أقنعة السرد . وهذا المستوى لا يمكن فهمه والكشف عن حقيقته ، إلا إذا كان هذا المتلقي صاحب معرفة عميقة ودقيقة بطبيعة الهنود الحمر ، وبفلسفتهم في الحياة . إذ بدون هذه المعرفة مثلا ، فإن مسألة المكان التي هي من أهم خصائص القصة الهندية ، ستبقى غائبة ، ولا يمكن الاهتداء إلى ثيماتها التي تعدّ أحد أهم المداخل إلى النص الأدبي . ومما نظنه فإن ما سبقت الاشارة إليه يمهد الطريق لمزيد من الفهم . بل ويمكننا أن نضيف فنقول بأن المقاربة بين المتن السردي في هذه القصة والمقطعين السابقين من خطبتي الزعيمين الهنديين ، سوف تمنح القراءة المرجوة قدرة فائقة على الاستكشاف ، ومعرفة المستوى الباطني والكشف عن الخفايا التي وراء الأقنعة. بتعبير آخر ، فما دامت البنية الظاهرية للنص قد خلت من أية إلحاقية سياسية ضاغطة ، كون ليزلي سيلكو كاتبة هندية تعرّض شعبها للابادة ، فكيف استطاعت أن تبرز لنا كمتلقين خصوصية هذا الشعب ، دون أن يخرج النصّ من أدبيته وأبعاده الجمالية ؟

 ما نعتقده أن أية مقاربة بين النصّ والابداع ، لا يمكن أن تكون على صواب، إلا إذا أخذنا بنظر الاعتبار كل ما سبق ذكره. وما اصطلح على تسميته بالهندي الأحمر ، الذي هو صاحب الأرض الأصلي ، واجه بالاضافة إلى المجازر الجماعية عدوا شرسا مدججا بالسلاح ، تمثلت غايته الأساسية في احتلال الأرض وسرقتها من أصحابها الشرعيين . وأمام حرب كان هذا هو بعدها الأساسي ، لم يكن أمام الهندي غير التشبث بالأرض والدفاع عنها. وهو التشبث الذي من بين أهم خصائصه، أن الهندي فيه لم يكن يمارس ردّ الفعل الآلي، وإنما التعبير عن جوهره الموروث في النظرة للأرض ، ليس كجغرافيا تتحدد بمساحة معينة من الدونمات ، وإنما حتى ككائن يتفاعل معه . بمعنى آخر فإن الموروث الهندي الذي انعكست تأثيراته في القصة ، أقصى المكان عن بعده الهندسي ، وجعله أساسا عضويا في رؤية الشخصية الهندية التي تتعامل سيلكومعها وتكتب عنها ، وهذه إشارة على قدر كبير من الأهمية ، تحول الأرض إلى مرجعية يمكن الحديث عنها عند البحث في مرجعيات السرد الهندي الأحمر.

 تشير البنية الظاهرية للقصة إلى أن ( سيلكو) تصور العلاقة بين هيماويبي الفتى الصغير وعمه الرجل العجوز ( حقا إن الشيخ لم يعلمه الكثير ، ففي المقام الأول كان يربطهما البقاء). وللوهلة الاولى فإننا إذا ما استسلمنا لما يمكن أن تثيره هذه الصياغة فينا من التوقعات ، فإن العلاقة بين الاثنين ستبدو لنا كما لو أنها لا طائل من ورائها ، وأن غايتها لا تتمثل في ما هو أبعد من قضاء الوقت معا ، بدون القيام بفعل حقيقي يثري الصراع ، وعلاقة الشخصيات ببعضها ، وإن كان هذا لا يعني أن سيلكو قد أقامت معمار قصتها من أجل متن فكري ضعيف يخلو من المعنى الانساني ، وهو معنى عظيم كما سيلاحظ القارئ .

 وما دمنا قد قررنا عدم الاستسلام للمستوى الظاهر من القصة ، فماذا عن المستوى الآخر الباطني ؟ فمثلا فقد قلنا بأن الصياغة السابقة توهمنا بعدم أهمية العلاقة بين الشخصيتين ، ولكن إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار بأن حديث عدم الأهمية هذا قد جاء أساسا على ألسنة الصغار أصدقاء (هيماويبي) عندما كان يجيبهم على أسئلتهم حول علاقته بعمه ، ورحلاتهما المتكررة إلى البراري والغابات ، فإنه يمكننا القول بأن حكما كمثل هذا – عدم الأهمية لن يطيب لنا ، خصوصا وأن بنية القصة في مقطع لاحق تبرر مثل هذا الاستنتاج ( أوه.. قال هيماويبي لنفسه : كل هذا الوقت أتعلم ولا أعرف أنني أتعلم ). أي أن سيلكو تنفي أن تكون العلاقة غير ذات أهمية ، وهي بالتالي تحكي لنا عما تعلمه هيماويبي من عمه العجوز ، الذي هو كاهن أيضا . ومن المهم التنبيه هنا ، إلى أن الكهانة عند الهنود الحمر ، لها طابعها الذي نكتشف فيه عمق علاقة الهندي بالبيئة التي يحيا فيها . وهنا فإن البعد الميثولوجي في القصة ، يطرح الخصوصية الهندية ، التي سوف تظهر من خلال الارتباط بالأرض في شقيه الروحي والمادي. فأما الارتباط الروحي فإنه الذي يتجلى من خلال العديد من الصياغات التي من بينها ( واكتشف هيماويبي أنه بعد هذه السنين كلها التي قضاها ، بدأ يدأ يتعلم الصلوات للأشجار والنباتات والحيوانات) و( تجهم الرجل العجوز وأشار إلى نعلي هيماويبي وقال اخلعهما واتركهما هنا حتى نعود). في حين يتجلى الارتباط المادي من خلال ( وحينما كان هيماويبي يسأل العجوز عن الطعام ، كان هذا يلوح بيده نحو السماء والأرض حوله ويقول : إنني إنسان يا هيماويبي وآكل أي شيء) و( كان الرجل العجوز لا يستحسن الأحذية ويقول عنها أنها رديئة. وفي الشتاء كان ينتعل خفافا من جلد الغزال ، أما في الأشهر المعتدلة ، فكان يلبس تلك النعال المنسوجة من نبات الصبّار).

 إن الصلوات للأشجار والنباتات والحيوانات ، لا يمكن إلا أن تقودنا إلى المستوى الباطني للقصة، حيث الهندي يتوحد في الأرض ويعلن عن تعلقه بها . وهو ما نستنتجه من صياغات أخرى منها ( وهكذا تعلم هيماويبي العثور على الأماكن التي ينام فيها الظبي في أدغال البلوط الصغيرة التي تنسق فيها أوراق يابسة في أعشاش . هكذا هو المكان الذي كان ينام فيه هو وعمه ) و( تحت هذه الأصقاع كانت هناك نتوءات من طبقات رملية . فأما في الرمال تحت الحجر المتدلي ) و( كان الرجل العجوز في الأسفل راكعا على حافة البحيرة. وهو يلمس صخرة كبيرة رمادية ويغني بعذوبة ) . إن مثل هذه الصياغات لا يمكن إلا أن تقودنا إلى المستوى الباطني للقصة ، حيث الهندي يتوحد في الأرض ولا يتردد في الاعلان عن تعلقه بها . وهنا فإن ( سيلكو) تكشف عن قابلية فنية كبيرة ، تتجلى في تقديم صياغات متفجرة ، يمكن أن يتلمس القارئ من خلالها طريقه إلى عالم الهنود ذي الميثولوجيا الخصبة ، التي ترى في الأرض حاضنة لكل المخلوقات . وإذا كان طلب العم العجوز من هيماويبي بخلع نعليه يعني الرغبة في تعليمه كيفية ملامسة الأرض ، وإلغاء وجود أي حاجز يمكن أن يفصله عنها ، فإن النوم في الرمل لا يعني غير التوحد بين الاثنين : الهندي والأرض، وجعل العلاقة أكثر حميمية وعمقا. بل إن ( سيلكو) في صياغات أخرى ، تدعونا للتأمل في نظرة الهندي للحياة ، وفي الفلسفة التي يؤمن بها كمخلوق يفهم معنى وجوده ، من خلال الإيمان بعلاقته التفاعلية مع ما حوله من الكائنات ، في وقت تشترك فيه جميعها في صياعة النسق الوجودي الذي يمكنها من البقاء على قيد الحياة .

 إن ما يتعلمه هيماويبي يوصله إلى ضرورة بناء علاقة مثلى مع الأرض . وهنا نلاحظ أن ( سيلكو ) وعلى غرار ما رأيناه في المقطعين ، تقدم مقاربة إبداعية إلى علاقتها بالمكان ، وهي مقاربة تنطوي على فلسفة عميقة ، تشع لمعانا من كل ما هو واقعي وسيكولوجي ورموزي. وهذا يعني أنها لم تكن أسيرة النقلية الفوتوغرافية التي تقتل الأثر الأدبي . وبالتالي فإن أي خطوة يتقدمها هيماويبي بصحبة عمه العجوز ،إنما تعني رغبته في الحصول على المزيد من الحكمة والمعرفة ( ولم يكن على هيماويبي الاكتراث بجلب الأغطية ، بعد أن تعلم النوم على الأرض مثلما فعل عمه ) و( ظلا يسيران اليوم كله بعزم ويقفان من حين إلى آخر. عندما كان الرجل العجوز يجد زهرة أو عشبا فإنه كان يريهما لهيماويبي . وبدا لهيماويبي أنه تعلم أسماء كل الأشياء . هذا ما قاله لعمه) و(كان باستطاعة هيماويبي رؤية الفجر هناك . الفجر الذي ولد بعد مضي وقت طويل في هذا العالم ، وليس من رحلتهما القصيرة ).

 وليزلي سيلكو إلى جانب كل ما سبق، لا تقوم بدور مساح الأراضي الذي ينحصر دوره في تحديد أبعاد المكان ، والكشف عن طبقاته . كما أن مهمتها لا تتمثل في صياغة المكان، والعكس هو الصحيح ، إذ أن المكان الذي تصوره هو الذي يقوم بصياغتها والتاثير فيها وفي شخصيات القصة التي تكتبها كذلك . ومن هذا يمكننا القول بوجود علاقة تفاعلية بين الانسان الهندي وبيئته ، توضحها بنية لغوية تأتي محملة بروح الشعر وسحره أولا( أيها الدب / الساكن في هذه الجبال / النائم عند البحيرة / أيها الدب / إني قادم إليك/ أيها الدب). وهي ثانيا تستعير من الطبيعة رومانسيتها وجمال تكوينها ( إلا ان الرجل العجوز كان يغني ويطعم ريح الجبال دقيق الذرة) ، ثم إنها ثالثا تسعى إلى أنسنة الموجودات ، والمقاربة بينها وبين هيماويبي وعمه ، للدرجة التي توحدهما مع ما حولهما من الكائنات ( وانفجرت عينا الرجل ، ثم نظر إليّ شزرا ، وبحدّة وضيق . ثم عوى عواء طويلا ورأسه مرفوع نحو سماء الشتاء. وتردد صدى العواء من منحدرات الجبال التي حولنا . وذهب بعيدا حتى اعتقدت أني سمعت عواء آخر يرد عليه ). بتعبير آخر فإننا أمام بنية تعبيرية تسعى الكاتبة فيها وعبر كل مفردة من مفرداتها ، إلى الكشف عن جماليات المكان الهندي ( كان الماء صافيا بلوريا . وكان بإمكان هيماويبي رؤية ألوان قزح الذهبية للسمك النهري ) و( في الجبال العالية ، كانت جذور السوسن البري وبصلات الخزامى تنمو في وسط نبات السرخس المتشابك والعشب الأخضر بجانب جداول الجبال ) .

 وبنيات الوصف في القصة ليست مما تؤثر فيها سلبا أو تضعفها. وقد تحول المكان من حيث هو موجود إلى شخصية تحيل إلى " الأمومة" و " الأنوثة " و" الآخر " الذي يتقاسم مع بطلي ( سيلكو) الحياة في هذا الكوكب . إننا أمام نصّ شهي ومفعم بالثروة، التي يقوم عليها نشيد حياة الهندي الأحمر ، ذلك الذي يقول عنه البيوريتانز أنه من " جنس لعين " . فهل يكون هذا الجنس كذلك إذا كان من بين أهم أبجديات حياته التوحد في الأرض التي تظل ذاكرته تتوحد فيها .

 (*) ماعز العم توني (11)

 هنا أيضا تحاول ( ليزلي سيلكو) إعادة كتابة التاريخ الذي أشار إليه ( مايك هولي إيغل ). إنها تعيد رسم صورة الأرض التي أراد البيوريتانز رسم صورة أخرى لها ، لتحل مكان الصورة الأصلية . وهي في هذا المعنى ترفض منطق النفي الذي بقي الرجل الأبيض يتشبث به في تعامله مع الهندي . وإذا كان مما يقال عن القصة القصيرة أنها فن الومضة الخاطفة ، فإن قيمة هذه الومضة في قصة ( ماعز العم توني) متأتية من تعدد انعكاساتها ، وهذا مما يحقق للقصة التجلي والسمو.

 تقول ربيعة جلطي : من عوامل ضعف القصة اللغة الصحفية ، والاسلوب التقريري والجمل الجاهزة القادمة من حقول السياسة أو علم الاجتماع والدين. هذه اسمها بنية أسلوبية إقناعية إبلاغية ، وعلى عكسها فإن للأدب بنية أسلوبية إبداعية تخريفية تخييلية إيهامية (12).ولما كانت القصة التي بين أيدينا لا تحمل أيا من عوامل الضعف المشار إليها ، فإنها تكون قد حققت غايتها في الوصول إلى القارئ والتأثير به، وإقناعه بعظمة الهنود الحمر ، الذين شوّه السرد المعادي لهم صورتهم إلى أبعد الحدود .

 لماذا أحببت الهنود الحمر، سؤال لطالما رددته مع نفسي ، ولكنني لم أواجه عناء كبيرا في الإجابة عليه. صحيح أن لعشرات الأفلام الأمريكية التي شاهدتها أثر بالغ في ولادة هذا الحب ، ليس لأنها تدعو لذلك ، وإنما حرصا مني على إنصاف الضحية ، إلا أن القاصة ( ليزلي سيلكو) منحتني طاقة أخرى فتضاعف هذا الحب وتجذر. أحببتهم بالنظر إلى بعد قريتهم العالمي ، أو بمعنى آخر لأن القرية حيث تعيش الشخصيات في القصة تحيلني إلى الطفولة ببراءتها وشقاوتها( ابتعدنا عن النهر وكل واحد منا يحمل عددا من السهام الصفر الرطبة وأقواس الصفصاف المنزوعة اللحاء حديثا . أخذنا نطلق السهام على الشجيرات والصخور الكبيرة ، وشجرة العرعر القريبة من حظيرة الأغنام ) . إن مثل هذه الصياغة وسواها من الصياغات المثيرة للنفس، تعني أن القصة تبقى في حالة اشتباك مع القارئ ، وأن المحاورة بينهما سوف تتواصل حتى بعد الانتهاء من عملية القراءة. وكل هذا يرتبط بما يسميه هانز روبرت يوس (أفق الانتظار ) وكيفية توسيعه في حالة الخوض في جوانب نظرية التلقي.

 القليل من القصص تقدر على توسيع أفق انتظار القارئ ، ولكن قصة (ماعز العم توني ) تفعل هذا الانجاز ، لأنها من جانب آخر تحفر في الذاكرة الانسانية ، خصوصا إذا كان صاحبها ممن يحملون أصولا قروية، وإن لم يكن من هؤلاء الذين يحملون هذه الأصول ، فإن ما في القصة من طاقة كبيرة على التخيل ، سوف تترك أثرها فيه فيتخيل القرية الهندية وعالمها البديع . ومن هنا أتت الاشارة إلى عالمية قرية الهنود الحمر، التي لم يستطع طغيان السرد المعادي تحطيمها . ونظن أيضا أنها تحفر في ذاكرة المكان ، والدليل إلى ذلك عدد كبير من مفرداتها التي تعتبر مرجعيات هامة يمكن الاستدلال بواسطتها إلى الحياة الهندية وطبيعتها ، ومن هذه المفردات على سبيل المثال وليس الحصر: سهام، أقواس، خيول، ماعز، صفصاف ، أنهار، بحيرات .. إلخ. والحفر في ذاكرة المكان لا يعني فقط استحضار مثل هذه المفردات وإنما يظهر أيضا من خلال جنوح سيلكو إلى الاهتمام بالجزئيات التي إذا ما تمت عملية جمعها مع بعضها ، تشكل منها الجسد الهندي ومنظومته الخاصة ، وهذا أمر يتحقق بتدرج عملية الجمع وتواصلها ، وهي العملية التي تقوم أساسا على الخطاب المحدد ، متنا ومعمارا قصصيا وعلى هذا النحو التقريبي ( مرّ علينا وقت طويل ونحن نبحث عن النوع الملائم من الخيوط) + ( وحالما فرغنا من عمل الأقواس استأنفنا الجلوس على ضفة النهر الرملية وبدأنا بنزع اللحاء من أغصان الصفصاف لنصنع منها السهام)+ ( عمدنا في النهاية إلى عمل شق في نهاية كل قوس لتثبيت الوتر فيه ، وبدأنا ممارسة الرماية معتقدين أن هذه الطريقة ستساعدنا على تعلم كيفية إطلاق السهام المتعرجة باستقامة) +

 ( مررنا بالتل المعشوشب الذي ترعى فيه معز عمي توني ، وكانت بعض هذه المعز مستلقية تطحن طعامها بأمان ولم يبد عليها أنها انتبهت لوجودنا ).

 ربما يرى البعض في مثل هذا التوصيف الواقعي الحرفي عبئا على بنية القصة والاسترسال غير الممل الذي يجب أن تتحلى به ، إلا أن إغراءات المكان وما فيه من الطاقة السحرية التي يمكن توظيفها بعناية أكثر مدعاة للتأمل . بل يمكننا القول بأن الالحاح الواقعي على هذا النحو ، يحمل في طياته رغبة عميقة في تصوير المنظومة الاجتماعية الهندية التي حاول السرد الاستعماري نفي وجودها تارة ، وسحقها في تارة أخرى وبحسب ما أشرنا إليه سابقا، وهي المنظومة التي لا نتبين ملامحها بوضوح إلا إذا كان المكان قادرا على بلورتها بعفوية . ونحسب أن (سيلكو) هنا ، تريد أن تقدم للصغار من أبناء شعبها ما يفيدهم ، خصوصا وأنها تحكي في جانب من القصة عن سلاح الهنود الأهم في حياتهم وفي دفاعهم عن وجودهم ( وهذا النوع من الخيوط لا يصلح للاستخدام وترا للأقواس لكونه سميكا ورقيقا ) و( بدأنا بنزع اللحاء من أغصان الصفصاف لنصنع منه السهام) و( ينبغي أن تصوّبوا سهامكم إلى الصخور والأشجار فقط ، فقد يصاب أحد بأذى ، ومن يدري فقد يصاب أحد منكم بالذات ) و( إن الحيوانات لا تزعجك إن لم تزعجها أنت أولا ).

 ولكن ما الذي نعنيه بالاشارة إلى فن الومضة الخاطفة وتعدد انعكاساتها في القصة ؟ إن ما سبق هو بعض هذه الانعكاسات ، فما هي طبيعة الانعكاسات الأخرى؟ لأول وهلة قد يظن القارئ أنه أمام حكاية مجموعة من الأطفال الصغار ، الذين يتجلى شاغلهم الأساسي في معرفة كيفية صناعة السهام والأقواس ، وفي التدرب على الرماية . هذا أمر هام وأساسي لا شك فيه ، ولكن ما هو مهم أيضا ، أن ( سيلكو) التي تتشبث بروحها الهندية بقوة كبيرة ، لا تريد من هؤلاء الصغار أن يترعرعوا بعيدا عن مناخهم الخاص ، الذي تجاهد بكل جماع قوتها من أجل المحافظة عليه وتأكيد وجوده ( كان الجميع مكلفين بأعمال روتينية). فالمناخ الهندي هو أحد المكونات التي تحرص سيلكو على إبرازها ، وفيه تتجلى الصورة الحقيقية لبني جنسها الذين نعتهم المستعمرون بالمتوحشين تارة أخرى.فكيف يكون متوحشا مثل هذا الجنس الذي من ملامحه الرحمة والتكاتف الأسري وبحسب ما تحيل إليه الصياغات التالية ( كانت أختي تساعد في الأعمال المنزلية ، وكان عليّ أن أجلب الوقود وأحمل الماء من الحنفية إلى البيت ) و( كنت أساعد أبي في العناية بالخيل والخنازير ، أما عمي توني فكان يقوم بإطعام المعز وحلبها ).

 إنّ ( سيلكو) تضع فتيان الهنود أمام قدرهم ، من خلال رصد حياة بطلها الذي لا تخبرنا عن اسمه وتتركه بلا تحديد ( كان عمري آنذاك سبع سنوات ، وكنت أعرف أن الجميع وبضمنهم عمي توني ، يتوقعون مني أن أقوم بأعمال كثيرة ) و( بحثت حولي بسرعة عن عصا أو مقشة أو حتى عن صخرة كبيرة ، ولكنني لم أجد شيئا من هذا القبيل ) و( كان صراخ أمي يستعجلني . وكان عمي يراقبني من بعيد ) و( خطوت باتجاه المدخل المنخفض وفجأة هجم عليّ التيس وطرحني أرضا بركلة من ساقيه ) و( سال الدم حول عيني. أحسست بالوحل في فمي وعلى أنفي وشعرت بألم في رأسي).

 إن حكاية التيس وهي إحدى ثيمات القصة ، تكشف عن مستوى آخر من مستويات السرد سوى التي سبق ذكرها. والقارئ لا بدّ أن يتساءل : لماذا عمدت سيلكو إلى أنسنة التيس ؟ وما الذي كانت تقصده من قولها (اعتاد عمي توني أن يتحدث إلى التيس في الصباح)؟ إننا عندما نتذكر أن العم توني قد اشترى التيس من رجل أبيض من ( كويمادو) لا بدّ أن نبحث عن أية دلالة ، تمكننا من فهم الأسباب التي جعلت العم توني يشتريه من هذا الرجل وليس من غيره ، أو إذا شئنا الدقة أكثر ، هل ثمة علاقة للرجل الأبيض بما حدث ، أم أنها الصدفة التي دفعت العم توني إلى (كويمادو) لشراء التيس منه فيه ؟ ولأن القصدية في النص الأدبي أمر لا بدّ منه ، فإن هروب التيس وعودته إلى( كويمادو) ، يقدم حلا لهذا اللغز ، ومثل ذلك ، فإنه يقدم بداية جادة لما انتهت إليه قصة ( سيلكو) التي من خلال حكاية التيس ، قالت لنا الكثير عن هذا " الجنس الطيب النبيل" الذي يرفض البيض معايشته والاعتراف به.

               

الهوامش :

 (1) نستخدم المصطلح هنا على هذا النحو لأنه السائد في الاستخدام بين الناس ، وفي اعتقادنا فإن كولومبوس الذي أبحر من أجل الوصول إلى جزر الهند من جهتها الشرقية، ظن أنه قد وصل إليها بالفعل ، ولم يكن يعرف أنه إنما يكتشف عالما آخر ، هو عالم من كان يعتقد أنهم الهنود ، فأطلق التسمية عليهم ولم يكن في ذلك على صواب.

 (2) منير العكش / الجلاد المقدس (دراسة طويلة ) / مجلة جسور / ع : 7-8 -1996 (ميرلاند – أمريكا)

 (3) العكش/ نفسه

 (4) أنظر- كمال أبوديب / إدوارد سعيد في الثقافة والهيمنة/ مجلة نزوى/ ع: 9/1997( عمان)

 (5) أنظر-العكش / نفسه

 (6) منير العكش / أمريكا والابادات الجماعية/ رياض الريّس للكتب والنشر / بيروت (2002) / ص47

 (7) أنظر- جون ه مور / أدب الأمريكيين الأصليين – مشكلة الأصالة/ ترجمة د. ضياء نافع / مجلة الثقافة الأجنبية / ع: 6/1986

 (8) المقصود بالسلالة الهجينة تلك التي تنتج عن تزاوج الهنود مع البيض

 (9) أنظر- مور، نفسه

 (10) ليزلي سيلكو / هيماويبي – الكاهن المقاتل/ ترجمة جوليانا داود يوسف / مجلة الثقافة الأجنبية/ العدد نفسه

 (11) ليزلي سيلكو/ ماعز العم توني / ترجمة : عادل كامل رزوق / مجلة الثقافة الأجنبية/ نفسه

 بديعة جلطي / في فلسفة المكان الروائي / مجلة نزوى/ ع:23/2000 ( عمان )