الحداثة ومحرقة أوثان الفكر

الحداثة ومحرقة أوثان الفكر

يوسف يوسف

ثمة قبل أي حديث حول الحداثة بمعناها الذي تكون فيه أبعد من أن تكون مجرد موضة عابرة أو تحديث راهني محدود ، ما تعرف بين المصطلحات بالازاحة : التي هي في اختصار شديد ، عملية تقليب وتحويل ، يتم خلالها تحريك الثوابت الراسخة والماهيات المتجذرة ، التي تكون قد تحولت كما يقول محمد شوقي الزين تحت وطأة التصنيم والتقديس إلى أنسجة لغوية مخرومة وأنساق فكروية بالية .

 وعملية الازاحة كما يوضح ماهيتها الكاتب الزين في كتابه ( إزاحات فكرية – مقاربات في الحداثة والمثقف)(*) تمليها تاريخية اللحظة التي يمر بها الانسان، ووجوده الراهن إبانها ، الذي يبقى في أمسّ الحاجة لمثل هذه التثويرات الفكرية بحيث يتم امتحان الذات أمام ذاتها وتاريخها وأغيارها ، بقدر ما تجدد الحاضر الحيّ بكل ملاحظاته وملابساته .

 ومن بين أخطر الثوابت الراسخة ، والماهيات المتجذرة ، تلك التي يتم فيها تحويل صورة الأب الذي هو في مقام الراعي أيضا ، إلى أيقونة للتقديس والتبجيل يحملها الوعي في أوعيته ، فتنتج عنها ما يمكن أن نسميها باللحظة الأبوية التي تعتبر الوجه الآخر لتلك اللحظة الموازية التي تسمى باللحظة التلقينية ، وهي التي ترسمها المخيلة في الذهن كجملة عقود وعقائد ويتفنن الجسد في تقديسها كجملة طقوس ومراسيم ، من شأنها التأثير سلبا على الانسان، بزرع بداهة الاذعان فيه من جهة ، واستبعاد العقل أو الوعي من جهة أخرى ، بحكم العلاقة بالآباء . ولسوف يكون من الخطأ الكبير الاعتقاد بأن اللحظة التلقينية هذه يمكن حصرها بثنائية الأب – الابن في بعدها الاجتماعي ، فهي تملأ صفحاتنا طقوسا وإذعانا في الثقافة والاعلام وفي السياسة والتعليم وسواها . وهي تؤكد ضرورة المحافظة على الأيقونة المقدسة ، وفيها حتى لا يغيب عن الأذهان هيمنة واستبداد واستعباد وسطو في الكثير من جوانب الحياة، ومن هنا جاء حديث المؤلف حول ضرورة الازاحة كعملية تغيير ، غايتها تحريك التأسيسات التي قامت في حياتنا على أساس اللحظة الأبوية – البطريركية – التلقينية ، على اعتبار أن هذه التأسيسات التاريخية والسياسية

المتوالية ، تركبت فوق بعضها كورم سرطاني ، ولم تعد تستدعي الآنا تأسيسات أخرى تقوم فوقها وتحجب هشاشتها ، وإنما إلى عملية يكون في المقدور خلالها تعرية الطبقات والشعارات .

 ويتساءل المؤلف : كيف يتسنى للحداثة أن تتشكل وتترسخ بعقلية لا تزال تؤمن بسحرية التلقين وبداهة اليقين ، وما تزال في الوقت عينه سجينة الأبوية والوصاية ؟ إنه سؤال جوهري وهام ، وحين الاجابة عليه بدقة ، نتبين بأن الحداثة أوسع من أن تكون موضة عابرة ، أو تحديثا راهنا كما سبقت الاشارة ،دون أن يغيب عن أذهاننا أنها سوى ذلك عصب الحدث في فرادته وراهنيته . وهنا نقول : إن الحداثة تبدأ بالحدث وتنتهي به ، ولا يمكن تشكيلها وترسيخها سوى بمنطق يحسن استثمار الحدث وإعادة ابتكاره وبعث القوة والحركة فيه وبما يعبّر عن إمكاناته في تقويم السياسة أو إثراء الثقافة أو بناء المعرفة أو حتى ترويض السلطة . وفي بحثه عن مثل هذه الحداثة في الواقع العربي يقول الزين : إننا لا نحسن إنتاج الحدث الفريد الذي يبتكر الفكرة وينسج القوة . بل وعلى عكس ذلك ،فإن ما نحسنه إنما يتمثل بصناعة الواقعة في تدمير الذات بتمزيقها ونفيها أو تكبيلها بأسئلة الهوية التي هي في درجة قصوى من البؤس والهشاشة ، لأنها أسئلة تعيد تلقين البداهات وترسيخ المسلمات .

 والحداثة التي هي عصر في الأنوار ، أو زمن في التقدم والحرية والتنوير والديمقراطية كما يراها الكثيرون ، تحولت في الكثير من نماذجها ، وعبر تقنيات التنميط أو القولبة أو التصنيم إلى مجرد هياكل تتجسد في أنظمة الحكم سياسيا وأيديولوجيا ، وفي أنماط القيم والأعراف اجتماعيا وثقافيا . إن بعضا من أسباب ما حدث ، إنما لتراجع عملية التأويل – تأويل الواقع التي يجب أن تسبق في الزمان ، وفي الاستراتيجية إرادة التغيير ، على اعتبار أنه لا يمكن تغيير الواقع ، أو تحويل مادة ، أو تبديل واقعة دون فهمها وسبر أغوارها أو تفكيكها وتمحيصها . وهذا التأويل كما يفهمه المؤلف ، هو إمكان في المعنى أو رؤية في العالم . وهو ليس فقط نمط في المعرفة كما أرادت له المدارس أو المذاهب التي تناولته بالدرس والتحليل ، وإنما أيضا نمط في الوجود ، باعتباره تجربة إنسانية أوواقعة أنطولوجية أو إمكان دلالي . أي إنه ليس كمثل التفسير الذي هوتنسيق بنيوي . ومن هنا جاءت أهميته في عملية فضح البداهات ،

واختراق العتمات ومجاوزة العتبات ، التي عفا عليها الزمن ولم يعد لوجودها مبرر. ومن هذا وسواه مما يرتبط بها ، ويبين خصائصها ، فإن لها بالتالي علاقتها الوطيدة بالتاريخ بوصفها مرحلة حاسمة أو قطيعة تاريخية مع النظم السابقة ، والنماذج الكلاسيكية ، تماما وبمثل قوة علاقتها الوثيقة بالمعرفية العلمية ، في اندفاعها الحماسي والواعي نحو التحديث والتصنيع وقراءة الطبيعة والحياة قراءة علمية ووضعية تنم عن نزوع صارم نحو الموضوعية والتجربة العلمية .

 وهنا لربما يتساءل القارئ : وما معنى الربط بين الحداثة والحدث من حيث هو واقعة في الزمان ؟ إنه سؤال هام وجوهري هو الآخر ، لكن الاجابة عليه ينبغي أن لا تتجاوز النظر إلى ماهية الحدث ، هذا الذي تتحدد الحداثة من خلاله. والحدث له ذاكرته ، وله كذلك إرثه التاريخي وذخيرته الرمزية . وإذا ما أخذنا بمقولة برغن مابرماس التي يعتبر الحداثة فيها مشروعا غير مكتمل ، أمكننا فهم الحداثة وما بعدها كلتيهما معا . فما بعد الحداثة ليست نفيا للحداثة ولا اختزالا أو إلغاء لأنماطها في العقلنة والعلمنة أو لأنظمتها في التأسيس والتاصيل . إن ما بعد الحداثة تأويل أكثر منه تأسيس . إنهما إمكان من المعنى وإضفاء للدلالة يعنى بتقلبات الحدث . التأويل بهذا هو ما بعد الحدث ، أو ما وراء الحدث بالمعنى الذي تنتفي فيه الوقائع ، لنتحدث عن تأويلات لا متناهية ومفتوحة . وهذا هو نفسه ما يذهب إليه نيتشة هو الآخر في قوله : ليس ثمة وقائع وإنما فقط تأويلات .

 في الامكان مواصلة الكلام حول الحداثة ، ولقد ذهب المؤلف إلى أقرب التخوم إليها . فغاص فيها وأسهب تحليلا وشرحا ، لكن ماذا عن علاقة المثقف بهذا الحدث الفلسفي ؟ ماذا عن دوره في هذه الحياة دائمة التغيير ؟ لقد تحدث عن أربعة أشكال من هؤلاء المثقفين . فأما المثقف النقدي ، الذي يعتبر محمد أركون نموذجه الأهم ، فإنه الذي ينفصل عن كل أشكال الانتماء المذهبي وأسيجة الدوغمائية ، وسجون الأيديولوجيا كما يسميها . وسوى هذا الشكل – الطراز ، هناك المثقف الحقيقي الذي يعد إدوارد سعيد نموذجه الأهم ، فإنه الذي يقوم بعملية المجاوزة ، لمختلف أشكال العقم الفكري . وهناك المثقف الوسيط ،

وهو الذي يعد بديلا للمثقف النخبوي ، فيعمل على تغيير علاقته بذاته ، وبمهمته، فيكون وسيطا وليس وصيا . وأما الشكل الرابع ، فإنه شكل المثقف المتناهي ، الذي يعي تناهيه وارتباطه بلغته المفهومية . وهذا الشكل الأخير من المثقف ، لا يتوقف صاحبه عن السفر والترحال عبر جغرافيات المعنى وفضاءات الرمز وأقاليم الكتابة ، على سبيل القراءة والزحزحة أو الخلق والتوليد أو الابداع والابتكار ، لذا فالمؤلف يعتبره نموذجه الضرورة ، الذي يحاول في كتابه الذي بين أيدينا التنظير له .

 والمؤلف محمد شوقي الزين الباحث عن الحداثة وعلاقة المثقف بها ، يرى بأن الخطاب العربي المعاصر لا يزال يجترّ سؤالاته ، ويعيد نسخ أوهامه . تلك التي ما يزال يعتقد معها بأن المجتمعات العربية تحتاج إلى نخبة ثقافية تحقق تقدمها وتحررها . صحيح أن المثقف وكما يراه فاعل اجتماعي ، وهو لهذا لا يقلل من قيمته في الحياة بتاتا ، إلا أن هذا الفاعل الاجتماعي كذات وكجسد أيضا ، يبقى رهين الاكراهات والاسقاطات ويبقى سجين القوى وهيمنتها على الرغم منه ، وهي الاشكالية التي يناقشها ويحاول البحث عن حلول لها .

 في الحدث عن المثقف المتناهي ، إشارة ضمنية إلى ما يسميها ثقافة التناهي التي يعتبرها حفرا في طبقات الحرف . والتناهي قبل أي قول ، اشتغال على الذات قبل الانشغال بالأغيار ، وهو الذي يمكّن المثقف من اداء دوره الفاعل في قطاعه الثقافي أو الفكري ، ورسم الحدود والأقاليم التي سوف يتميز بها عن غيره ، ويتواصل بموجبها مع سواه .

 أخيرا يميز محمد شوقي الزين بين ما يسميها محنة السؤال وتلك التي تعتبر مهنة للمساءلة . وهو في الوقت الذي ينفي فيه وجود مجال للحديث عن مثقف تتحدد ملامحه بإجادة الكتابة والقراءة ، فإنه يشترط لذلك الحديث أن يكون هذا المثقف حاذقا بالشأن الفكري ، وضالعا بالانتاج المفهومي ، وصناعة الواقعة النظرية . بمعنى .. فإنه يرى من خصائص المثقف المتناهي ، الارتحال عبر جغرافيات المعنى والرمز والقيمة التي يسكنها الوعي الجمعي ، ويتعامل معها بوصفها حقولا للدرس والقراءة أو ميادين للمراس والفحص .

(*) إزاحات فكرية – مقاربات في

الحداثة والمثقف

تأليف / محمد شوقي الزين

الناشر / منشورات الاختلاف

الطبعة الاولى 2008 الجزائر