علم الكتابة أم «خصي العلم»

«إلخ»: Grammatology—

د. ميجان الرويلي

للكتابة، عند دريدا، مكر قَلَّ من يدركه أو يعيه، وفي العالم العربي يتحول الأمر إلى معضلة متفاقمة. فالكثير، ممن يُوصَفون بأنهم خيرة النخبة، يدّعي العلم مع أنه غير مطالب بمثل ما يدّعيه من معرفة. بل إن بعض هذه النخبة يصر على ادعائه. وكأن كثيرَ ما يعلمه ويجيده يقوم ويقعد على ضرورة معرفته بقليل ما يجهله. ويظن هذا البعض أن مجرد ظهور اسمه كاتبًا أو قائلًا لهذه الدعوى يحيلها علمًا بسرعة البصر وفاعلية «السحر». أُصرُّ على سرعة البصر وعلى فاعلية السحر. فكلاهما على صلة وطيدة بالعلم وبالكتابة التي يدّعي معرفتها كثيرون. والسحر على صلة «جذرية» بالنحو وبالمعرفة السرية التي يعتنى بها المجتمع السري على متداد تاريخ المجتمعات السرية. حتى «الكتابة» بوصفها «ملحقًا إضافةً»، عند روسو، لها عصا السحر [magic wand/ Ce mouvement de baguette].

لا شك أن حال النخبة هذه، على علاقة تواصل تبادلية وثيقة بـ«سُلطة الاسم العلم» وبما تشحن به هذا الاسمَ من قوة! وتسمد هذه السلطة مشروعيتها من «المؤسسة» التي أرست هذه السلطة وغذّتها باستمرار وصانتها بسياج يحفظ انعزالها وتميزها وطهارتها وقوتها (للمرء أن يستبدل القوة بالفحولة إن شاء، وهي مفردة خصبة في خطاب الكتابة عند دريدا [fecundity]). كل ذلك يقوم على مبدإ تاريخي مألوف ومرصود مسبقًا، هو مبدأ الاستبعاد والاستقطاب، مبدأ الرفض والقبول، أو مبدأ الفحولة والعقم. هذا المبدأ يتجلى في أكثر صوره حِدّة في المقولة الحديثة «إما معي أو مع الإرهاب»، وهو مبدأ يصون المؤسسة التي بدورها تمد مجتمعها النخبوي بالقوة والسطوة والتطهر ليصبح كل ما يقوله أعضاؤها «حقائقَ» قارة لها من «القدسية» ما يحرّم ويجرّم مخالفتها! وتحت هيمنة السلطة وثقل وطأتها ننسى أن سلطة «الاسم العلم» مستمدة من مؤسسة «ثقافية غير طبيعية» قامت على العرف والتواطؤ، وأن حقائقها لا تختلف عن «حقائق» غيرها والتي ربما تكون «أحق» من حقائق المؤسسة.

ليس غريبًا إذن أن تبقى «الشرطة» دائمًا وباستمرار، كما يقول دريدا، قريبة في «الأجنحة» لتصون أعراف التواطؤ وتحمي «مواد اتفاق ثقافي» غير طبيعي. وهي تفعل ذلك لأسباب جوهرية. فهذه الأعراف في تكوينها ذاته، أي في طبيعة طبيعتها «قابلة للانتهاك» مسبقًا ودائمًا (دريدا، «Limited Inc… a b c»، ص: 105). وليس غريبًا أن يأتي تشخيص دريدا هذا في كتاب يمكن ترجمة عنوانه بـ«مؤسسة أبجد هوّز ذات المسؤولية المحدودة»!

هذه الحالة لها نماذجها المتعددة، ونمثّل لها هنا بإنموذج مثالي في الترجمة، وتحديدًا ترجمة عنوان كتاب جاك دريدا:

De la grammatologie، (Of Grammatology)، «في علم الكتابة»، «في النحوية».

فقد كثر الحديث عنه في العالم العربي وتكاثرت الكتابة حول أخطاء ترجمته وعن أيها الأصدق وأيها أصوبها! بل أصبح الخطاب حول ترجمة هذا العنوان خطابًا «كتابيًا» له كل الحق في المقاربة بوصفه جنسًا خطابيًا قائمًا بذاته (فبعضه روائي، وبعضه مسرحي، و آخر قد يندرج تحت صنف الأدب الساخر، وغيره تاريخي، بل حتى قد يتحول إلى ملحمة هجاء، «إلخ»). والمهم هنا ليس أيّ الترجمات هي الترجمة «الطبيعية»، بما في ذلك الأصل الفرنسي، ولا أيّها أصدق أو «أصحها بدنيًا» في مستوى أعلى أو أدنى! وإنما المهم حِدّة الخطاب الذي صاحب «صيانة» الترجمة وصدقها، بل حدّة التصحيح في كشفه «الضلال» الذي صَاحَبَه في مقولات التصحيح نفسها. لا ينبغي مخالفة ما تقوله المؤسسة أو ما تُشرّعه نخبتُها. هذا قانون أو عرف طبيعي تمده الطبيعة المؤسساتية بالقانونية الطبيعية وكذا تفعل طبيعية القانون بطبيعته أو طبعه.

وبما أن العرف الطبيعي قابل للكسر والاعتداء والانتهاك مسبقًا ودائمًا، ماذا لو كسرنا بعض الأعراف وخلطناها قليلًا أو كثيرا، وخرقنا عرفَ المؤسسة بشيء من التأخير والتقديم ودون وضع علامات إعراب تكون إشارات أو علامات «طريق» تسير على هديها القراءة؟  ولنفعل هذا كيما «يريح عمرو زيد» قليلًا من معاركهم النحوية، فنقول: «ضربت نجوى فدوى»، ونقوله ليس فقط لأن الثقافة (العرف والتواطؤ) لا تقلّ عنفًا عن الطبيعة، وليس فقط لأن الجنس «اللطيف» لا «يضرب بعضهن بعضهن» (كسر آخر لعرف نحوي يقتضي خروج الشرطة من أجنحتها لصيانة عرف «طبيعي» أو «شكل» طبيعة «عرفية»)، وإنما لأن النحاة (الشرطة) سيحتجون بأن مثل هذا اعتداء على طبيعة أو اعتداء على «عرف قانوني عرفيّ»، له قوة الطبيعة وسلطتها.

كيف يستطع امرؤ أن يخالف «طبيعة» أو «عرفًا» لو لم تكن الطبيعة نفسُها تقبل المخالفة، لو لم تكن انطوت مسبقًا على قابلية «كسر» طبيعتها أو أباحت مخالفتها؟ لو لم يكن الخطأ أو الانحراف، بل الخطيئة الأولى جزءً أصيلًا تجيزه «الطبيعةُ» نفسُها حتى لو كانت العواقب وخيمة؟ (جدير بالتنبيه أن القانون يجد دائما مخرجًا «قانونيًا» لكل ما ظننا أننا كسرناه؛ بل سيجد مخرجا قانونيًا أو أكثر من مخرج، حتى لو كانت «البراغيث»).

لنعد إلى الترجمة، إلى طبيعة أصل وصورتها المنحرفة لنرى ما يقتضيه الانحراف عن «الأصل». أحدُ الباحثين الشباب، علي صدّيقي،[1] ربما في سعي منه إلى الانتماء للمؤسسة، رصد «الدراما» التي صاحبت بدايات المسرحية الأولى (عام 1988)، بل لعلنا نقول صاحبت عرض المسرحية الأول. وعلى العرض المسرحي الأول، شأنه شأن كل بداية، دئما، يتوقف أو «يقف» نجاح المسرحية أو خطيئتها القاتله، بل «لعنتها» (damnation) بلغة أهل الاختصاص. فهذا الباحثُ استعاد بعد عشرين عاما عرض أحداثها بما لها من «آثام» وما تقتضيه من «توبة» أو «تطهير أرسطي». ولنا أن نقول في حق هذا العرض ما يبدو أنه أهلٌ له.

في مقاربتي هذه لست معنيًا بمدى ما يعرفه أو يجهله الدكتور علي صدّيقي، فالطريق ما زال أمامه طويلًا إنْ هو دخل هذا المدخل التفكيكي أو أراد الانتماء للمؤسسة الثقافة المعاصرة. فكلاهما يتطلبـ(ـان) طقوسًا دقيقة ومضنية! ولا شك لدي بأن ما سيكتسبه من تجارب في قادم الأيام ستصقل معارفه وتبدي له خفايا قد لا يتبينها الآن، وهو بالتأكيد باحث جاد وخلوق (وقد تبادلنا عبر الفضاء الافتراضي بعض رسائل). مقاربتي هنا اليوم تنصب على الدراما التي وصفها لنا لا بوصفها حالة معزولة أو فريدة، وإنما بوصفها متلازمة «مجمل المشاكل» التي يقترفها العربُ، فهذه الترجمة على ما يبدو مثال الأمثلة في تجسيدها معضلة ترقى إلى معنى «المصيبة» أو الكارثة. وقد وصفها أيضًا بعد «إلماح» سابق إلى إشكالات تعاني منها الترجمة العربية عمومًا. فيستهل صدّيقي رصده لحوار «خطيئة» الترجمة بمحبة واعتذار:

«أحب أن أستهل الحديث عن ترجمة هذا المفهوم [grammatologie] بهذا المقطع الحواري - الذي أعتذر سلفا عن طوله - لأنه يلخص لنا مجمل المشاكل التي تعاني منها الترجمة العربية والتي ألمحنا إليها سابقا».

وهنا يعرض لنا المشهد بشخوصه، وهي شخوص، على مستوى الفكر الثقافي العربي، أهل لدور «البطل الأرسطي»:

- عبد الملك مرتاض: «ولعل من أشهر من تناول النص بالتحليل بارط... وجاك دريدا خصوصا في عمليه:”في علم النحو، والكتابة والاختلاف“...» (التشديد لي)

- جابر عصفور: «... أرجوا [كذا] منه أن يصحح بعض أخطاء الترجمة الموجودة في الورقة وهي كثيرة، والذي لفت عيني على وجه التحديد ترجمة كتاب دريدا .. في علم النحو.. هذه ترجمة خاطئة، كتابه بالفرنسية صحيح جراميتولوجية وبالانجليزية أنجراماتولوجي، لكن سواء كنا ننقل عن الفرنسية أو الانجليزية فترجمة اسم الكتاب بعلم النحو هي ترجمة خاطئة لأن ما يقصد إليه دريدا ”بجراماتولوجي“ هو الكتابة... فأرجو في المستقبل الاهتمام بهذه الترجمات وألا يقتصر الأمر على العنوان، لأن عنوان الكتاب خارج سياق الكتاب وبعيدا عن قراءة الكتاب نفسه عمليا يمكن أن يؤدي إلى ترجمات مضللة...» (التشديد لي)

- عبد الملك مرتاض: «بالنسبة للترجمة فعلا أنا كنت على عجلة والكتاب في الحقيقة لا أملكه ”دي لا جراماتولوجي“ هذا الكتاب لا أملكه في مكتبتي... وأنا وقعت في الخطأ الذي ارتكبه الآخرون في الترجمة دون تمحيص.» (التشديد لي)

لا شك لدي أن الدكتور مرتاض في إشارته واعتذاره، لم يقرأ آنذاك الكتاب وقد أحسن عملا أنْ بيّن أسبابه وأحالها إلى غيره، وهذا شأن «خير الخطائين» حين يتراجعون عما هم فيه إذا تبين لهم صدق غيره أو حين يشككون في مصادرهم أو حين ينير بصيرتهم من هو بالأمر أعلم. فالدكتور مرتاض اعتدى على «طبيعة أصل» وأساء، بل اقترف خطيئة، وذنبه أنه لا يملك الكتاب في مكتبته وكان على عجلة من أمره وربما «أغواه» أو غرر به آخرون، وعذره مقبول، وتوبته توبة نصوح.

غني عن القول إن معرفته لا تختلف عن معرفة جابر عصفور نفسه الذي لم يقرأ الكتاب ولم يستطع ذكر العنوان صحيحًا لا بالفرنسية [«كتابه بالفرنسية صحيح جراميتولوجية»] ولا بالانجليزية [«وبالانجليزية أنجراماتولوجي»]. وأظن (معتذرا لو كان في ظني بعض إثم) أن إصرار مرتاض على تسمية الكتاب بالفرنسية (وهو يعلن توبته) كان تعريضًا «مؤدبًا» لفشل عصفور في تسميته الكتابَ على الأقل في أصله الفرنسي. فجابر عصفور نفسه، على ما يبدو، كان أيضًا على عجلة من أمره، وهي العجلة نفسها التي كانت سبب «خطيئة» مرتاض. وكثيرة الدلائل على أن جابر عصفور لم يقرأ الكتاب قبل هذه الحادثة ولا بعدها وربما حتى اليوم، بعد ظهور ترجمة الكتاب العربية مرتين. بل ربما لم يقرؤه لأن ترجمة الكتاب ظهرت مرتين!

والواضح أن غَيرة الدكتور عصفور على صحة الترجمة غَيرة على «الحق»، غَيرة تجزم بأهمية «الكتابة» (وهذا صحيح)، لكن رجاءه الاهتمام بصحة الترجمة لم تكن من أجل «الحقيقة» فقط، وإنما من أجل المستقبل (وهو رجاء لا ينم عن معرفة، على الأقل حسب عبارة الرجاء). وبما أن خطيئة الترجمات قد تؤدي إلى الضلال فإن رجاءه رجاء «مقدس» اقتضاه الاعتداء على قدسية، وقد يفضي (وأفضى فعلًا، في رأيه) إلى عواقب وخيمة. بل إن أصرار عصفور على مفردة «خاطئة»، على الأقل مرتين في حيز ضيق، توحي بانتهاك «قدسية» أكيدة، وبأن الاعتداء عليها قد تحقق. وأصبح الردع المباشر واجبًا ولا بد من التنوية بالخطيئة لأنها أحق من غيرها بالرغم من كثرة «أخطاء» أخرى.

ورجاؤه الاهتمام بهذه الترجمة لا يريد له أن يقتصر على «العنوان» لسبب جوهري: «لأن العنوان خارج سياق الكتاب وبعيدا عن قراءة الكتاب نفسه عمليا يمكن أن يؤدي إلى ترجمات مضللة»! جملة قلقة قليلًا وربما مضللة لكنها في الصميم؛ فهي في «قلقها» تشير عمليًا وفي الوقت نفسه إلى قلق مصدره «ترجمات مضللة»، ولهذا فهي جملة قلقة تعكس قلقًا. لهذا ينبغي القرب من الجوهر وليس البعد عنه، وهكذا تأمر الجملة أو الوصية بعدم البعد عن «قراءة الكتاب نفسه». فالقراءة أساس ومحور ولا مفر منها. لا أدري إن كان عصفور يعني القراءة بمفهومها الدريدي أو فقط بمفهومها المألوف. فالقراءة بمفهومها الدريدي تعني «الكتابة» (انظر التشتيت، ص: 63-64). فإن كان هذا ما يدعو إليه فهو محق بهذه الدعوة، لكن تصحيحه وتبريره أهمية القراءة لا تشير إلى هذا المعنى.

لنفترص أن الجميع قرأ الكتاب قراءة مقترنة بالعنوان، ونفترض وعي الجميع بأطروحة دريدا التي تُضللها ترجمة خاطئة لعنوان خارج سياقه، ولنفترض أن الجميع على وعي بآلية الكتابة وترحالها، كي نطرح السؤال: متى وأين، في طرح التفكيك، كان العنوان خارج سياق الكتاب؟ متى كان، أصلًا وبالمطلق، هناك خارج «سياق»؟ بل متى كان هناك خارج كتاب أو خارج نص؟ ثم متى لا تكون الترجمات أو «القراءة» عرضة للخطيئة والضلال؟ نحن هنا نتحدث عن مبدأ الكتابة وليس النحو، في كتاب دريدا عن الكتابة، أو لعلنا نتكلم عن الكتاب [المقدس] (وعن ضلال بين دفتي كتاب لا نحو له، أو غير معني بالنحو أصلًا)! فمتى كان عنوانه خارج سياقة، أو متى كان سياقه خارج عنوانه؟ مرتاض أقر بعدم «قراءته» الكتابَ، وقدم اعتذاره استجابة لرجاء يستبطن الاتهام بالخطيئة.

لم يقرأ مرتاض كتابًا معنيًا بالكتابة ومقصورًا عليها. مفارقة لا يمكن بحال أن يحيط بها علم أو علم دلالة أو نحو! بكل هذه المعطيات خاصة أن الكتاب معني «بالكتابة»، كيف لا يمكن أن يضل «عنوانه» الطريقَ، أو لا يتجاوز الكتابُ نفسُه نحوَه أو مدارَه؟ هل قرأ عصفور الكتاب حتى يأمر بتقييد معناه في ترجمة صحيحة ويعاقب أو يـُجرّم ضلالا؟ ففي كتاب دريدا وطرحه الكتابي في هذا الكتاب، جين جاك روسو نفسه، وكذلك سوسير، وكل الفلاسفة ضلوا الطريق، طريق الكتابة تحديدا، بدءً بسقراط إن شئت أو بالفرعون توت مخترع الكتابة نفسها! وضلوا الطريق ليس فقط «بترجمتهم» الكتابة، ونقلها لسانيًا وجغرافيًا وسياسيًا، بل أيضا في اتهامهم النحوَ واستبعاده! فهم جميعا أرادوا اختزال «خطّية» النحو وانفساحه المكاني والزماني، ليكتفوا بـ«توية» النظر وسرعة الضوء، أرادوا المعنى أو «القصد» متجسدًا بذاته ولذاته دون وسيط تصويري أو فاصل مكاني وزماني، أرادوه وجودًا أو «أنطولوجيا»! أرادوه توية مرئية مباشرة أو وجودًا عينيا تراه العين ويبصره وعي (دون وساطة من الدّال)!

وهنا تحديدًا لا أستطيع أن أتجاوز وصف جابر عصفور للكيفية التي بها بَصَرَ بخطيئة بين أخطاء «كثيرة»، وطالب بتصحيح «بعضها». والخطيئة «الخاطئة»، في لفتِها عينًا، تقتضي دائما الرجوع عنها، فهي ليست مجرد خطأ بين أخطاء كثيرة، وإنما هي خطيئة خاطئة أبصرتها «عين» وأدركتها بصيرة. فهو يقول:

«أرجو منه [من مرتاض] أن يصحح بعض أخطاء الترجمة الموجودة في الورقة وهي كثيرة، والذي لفت عيني على وجه التحديد ترجمة كتاب دريدا .. في علم النحو.. هذه ترجمة خاطئة لأن ما يقصد إليه دريدا ”بجراماتولوجي“ هو الكتابة!» (التشديد لي)

والحق إن هذا الخطأ ليس كغيره من الأخطاء الكثيرة، بل حتى تسميته اختلفت (فهو ترجمة خاطئة)، وهو حقًا أهل لهذا الاهتمام ليس فقط لأنه خطأ ترجمة، بل لأنه خطيئةُ «طبيعةِ» الكتابةِ نفسِها منذ أفلاطون، وهي الطبيعة التي غفل عنها عصفور في ذات دعوته إلى تصحيح الخطيئة، وأيّ خطيئة!

ههنا مشكلة حقيقية نعاني منها مع الكتابة؛ حقيقة أدركها سقراط في حواره «الفايدرس» واعتمادًا عليها حارب الكتابة ودعاتها. ولا شك أن دريدا هنا، حسب تصحيح عصفور وغَيرته، يجسد هذه الحقيقة خير تجسيد. ففي هذا التصحيح السقراطي، لا بد أن دريدا عجز أن يضع «قصده» ويجسده في الكتابة عن الكتابة. بل خانته الكتابة في رفضها حمل «قصده» وعجزها عن إبرازه شاخصا حتى لا تخطئه قراءة أو كتابة أو لفظ! فأضلت الكتابةُ مرتاضًا وآخرين غيره. الكتابة دائما من سقراط إلى عصفور افتقرت إلى عرّاب أو «أب» (روحي أو مادي طبيعي) يذود عن تحريف ما قد تعنيه أو ما تفضي إليه من ضلال، افتقرت تمامًا لمن يعيد ضالًا إلى سواء السبيل، افتقرت إلى مبدأ «الحضور» الغيبي التاريخي ولا بد أن يتكرر هذا الافتقار مع الكتابة حتى مع من يدّعون أنهم قرأوا الكتاب ويدْعون إلى قراءته.

ليست مصادفة أن يكون للعين ما يلفتها، ويلفتها على «وجه» من الوجوه، هو وجه التحديد، أو «تخديد» الفلاحة والمحراث (انظر النسخة الإنجليزية، ص: 289). يقول عصفور: «والذي لفت عيني على وجه التحديد»، هكذا جاءت العبارة كما لو جاءت «عفويًا»! وكأن لا تاريخ لهذه العين ولا لهذه الإلتفاتة، كأن لا مسار لها ولا «أسطورة»، وكأن الكتابة لم تأت بين الوجه واليد، بين العين واليد امتدادًا لها! ليس مصادفة إذن أن ترى العين بلمح البصر وسرعة الضوء خطيئة ترجمة أو ترجمة خاطئة، وليس مصادفة أن تكون الخطيئة خطيئة كتابة، فالكتابة أصلا ظهرت بين العين واليد، اليد تكتب أو تحفر للعين وتلفتها على وجه من الوجوه، على وجه هيغل وهيلمسليف وسوسير وليفي ستراوس وروسو (في كتاب دريدا هذا تحديدا)، وفي عناية العين بالكتابة (واستبعاد النحو على وجه التحديد، استبعاد الخط النحوي عينه لصيانة طهارة الترجمة أو الفلسفة، وهما قضية واحدة شأن الكتابة التي هي نفسها القراءة). وقد قال دريدا: «وعليه فإن أنموذج اللغز النقمة للخط (line) هو ذاته الأنموذج الذي لم تستطع الفلسفة أن تراه حينما كانت عيناها مفتوحتين على داخلية تاريخها نفسه» (الأصل الفرنسي: 128/ الإنجليزية: 86).ولجابر عصفور وعلي صدّيقي أن يحتفرا معنى «الخط» النحوي، فهما يدّعيان العودة دائما إلى أصول المفردات الإغريقية. (اللغز النقمة: ترجمتي لمفردة: enigmatic line)

هذا الخط، مع أنه خط بصري مستقيم ممتد، إلاّ أن الطرح الميتافيزيقي يختزلة دائما ومباشرة وبسرعة الضوء، يختزل المسافة التي تعزل الدّال عن مدلوله، يختزل الفكرة (وهي نفسها «ضوء» في أصولها الإغريقية) في سرعة ضوئه، فتشع الأنوار. ولننظر ماذا حصل في التفاتة عين أو إشعاع بصر. فمع العين في التفاتتها، لم يعد الأمر مرتبطًا بالدّال (الكتابة)، وإنما بمدلول الدال، لم تعد الأهمية للكتابة أو للقراءة، بل أصبحت الأهمية لـ«قصد» يملي من خارج علامته ومن بعيد، من خارج ما جاءت الكتابة لتقضي عليه وتفصله عمن يرسله إشارة أو إشارات، يملي من غياب. وبما أننا قد استبعدنا «علم النحو»، فإن الإشارات لم تعد «تشير» ولم تعد تدل على دلالة أو على قصد، ويجب عندها أن «نحدد» خطيئة بسلطة القصد الغائب أو بسلطة أصل خارج الكتابة، بسلطة تملي الصواب عن بعد، تملي معنى أو «المعنى» بألف ولام، لا أن تملي علامة أو كتابة تقبل الانحراف (بكل معانيه)! مع أن امتداد خط الكتابة التاريخي وخطوات مسارها تؤكد انفصام ارتباطها عن هذا القصد وعن هذا المعنى وعن كل أصل! وهكذا اقتضت الضرورة السقراطية أن يقف الأب حاضرًا خلف كلامه مباشرة، يفسر ما قد يعتري كلامه من غموض. وما أن «نبصر» علامة لا تنطوي على القصد وتبوح به أو نبصر خطئية ترجمة في سرعة إلتفاتة «عين على وجه التحديد» حتى نحيل إلى «القصد» الغائب ونستشيره! نحن إذن بحاجة ماسة دائما إلى «اللفظ الحي»، إلى حضور الأب خلف ابنه أو بحاجة حضور قصده أو حضور من هو على صلة «حية» بهذا القصد أو المعنى!

علينا إذن أن نعرف وندرك مدلولًا أصلْ أو أصليًا ثم نربطه بإشارة تفشل في الإشارة إليه! أما المدلول أو القصد فأصل لا «ضلال» معه. أما التمثيل النيابي أو الإشارة فتخطئ دلالتها، بل لا دلالة لها، خاصة إذا ضلت الطريق إلى النحو أو أفضت إلى ضلالات متعددة. لابد إذن أن نتعلم «الأصل» غير الكتابي، أي غير النحوي، أولًا، وهنا لا حاجة بنا إلى «علم الكتابة» نفسه، نحن بحاجة فقيه عالم أو من يعرف قصده ومعناه، وهذه جميعًا تعني الشيء نفسه ولها السلطة نفسها. لسنا إذن بحاجة «علم الكتابة» لأنه لا يُعلّم وربما لا يَعلَم ولسنا بحاجة إلى «علم القراءة»، لأنه هو نفسه علم الكتابة! وبهذا فالكتابة تلفت عيوننا فقط إلى خطيئة أو شذوذ.

هكذا الأمر إذن، حتى روسو في الكتاب نفسِه له الإلتفاتة نفسها، «ففي عينيه تبقى [الكتابة] إنموذج الخطيئة والشذوذ [vice and perversion]» (النسخة الإنجليزية، ص: 153)؛ ومن العدالة الشعرية أن يلفت عين عصفور ما لفت الفلسفة على مدى تاريخها وتغمض عنه عيونها وهو جوهرها ولم تره، لأنه نقمة «خط» محيّرة لا دواء لها!  كان من العدالة وحدها ألّا يكون هذا الداء العضال غير «خط النحو» أو علمه أو نظامه أو نظمه!

***

حتى صاحبنا صدّيقي، ربما رغبة في الانتماء للمؤسسة وإملاءات صوابها، ذهب إلى رصد خطايا ترجمات أخرى كانت أيضًا ضحية «النحو»، مع أن صدّيقي ليس له من أجهزة التصويب غير تصويب عصفور واعتذار مرتاض. بل معه لم يعد الأمر أمر «خطيئة» ترجمة فقط،بل زادها «سوء فهم بعض النقاد العرب لبعض مفاهيم التفكيك»، ومن هذا السوء كان أمر ترجمتهم «هذا المفهوم بـ”النحوية“ ومن هؤلاء ... عبدالله الغذامي وسعد البازعي، قبل إن يتراجع عنها»!  البازعي إذن، شأن مرتاض، تراجع دون أن يعتذر عن خطيئة، تراجع بصمت أو بسرية تامة. وقد يعفيه التراجع من بعض سوء فهم. لا أدري لماذا استثناني صدّيقي من السوء الذي استهدف به الدكتور سعد البازعي، مع أنه «سوء» بصر به في «دليل الناقد الأدبي»، ولعلني أحق به، وأظنني (إنْ صدقت ذاكرة عفى عليها الزمن) أخبرته صراحة أنني المسؤول عن إدراج ترجمة «النحوية»، وأن لا علاقة للبازعي بمثل «سوء» الفهم هذا. ثم إنني، في أسوأ أو أحسن الأحوال، شريك البازعي في تصنيف «الدليل»، وإن ما يعنيه بالضرورة يعنيني، لكنه اختصه وحده بالسوء وما كان له أن «يقصر» سوءًا سار المثل بعمومه وعموميته!

أما الغذامي، إذ لم يرجع ويتراجع ولم يتوقف، فقد تمادى في هذه الترجمة «الخاطئة» حتى وصل الأمر به أنْ أتى المزيد من الخطايا. يقول صدّيقي: «ولم يتوقف الغذامي عند حد ترجمة هذا المفهوم، بل إن هذه الترجمة الخاطئة قادته إلى الاعتقاد بأن هذا المفهوم هو النظم عند عبد القاهر الجرجاني»! وهنا يقتطف من الغذامي كيف ضاعفت فكرة النحوية سوء الفهم؛ فالغذامي يقول: «وفكرة (النحوية) تذكرنا بالإمام عبد القاهر الجرجاني ودعوته إلى (النظم) وهو تظافر بلاغيات الجملة مع نحوها لتأسيس جماليتها بعيدا عن قيد المدلولات.»

لا أدري لِمَ مثل هذا القول «خطيئة»، ولا ما هو عيبه؟ هل العيب في أن الترجمة الصحيحة «كتابة» وبالتالي لا علاقة لها بالنظم والنحو؟ لم يناقش صدّيقي القضية بل اكتفى بالاستهجان وربما بشيء من السخرية، وكأن دريدا في متن كتاب تجاوز 444 صحفة بصفحة، كان يكرر العنوان «علم الكتابة» ولم يكتب غيره حتى اختتمه. ما هو علم الكتابة حتى نستطيع أن نقول إن عصفورًا كان محقًا، وإن صدّيقي في اتباعه كان مؤمنًا مخلصًا. مَنْ مِن جميع مصححي العنوان، «علم الكتابة»، يستطيع أن يأتي لنا من الكتاب على الأقل بتعريف هذا العلم الذي أنجز فيه دريدا على الأقل ثلاثة كتب، حسب اعترافه في حورات مواقع؟ (ص: 10-11، ترجمة فريد الزاهي.) فجميع ما رأيته حتى هذه اللحظة من احتجاجات على خطيئة الترجمة هي اقتباسات آراء من قالوا إن العنوان قد لا يكون «علم كتابة»، ولم أر حتى اليوم أحدًا حاول مقاربة مفهوم الكتابة عند دريدا. كما أن اقتباساتهم تتكرر باستمرار، فهي لم تتجاوز أقوال جابر عصفور في موقعين، والقليل منهم يضيف هامش كاظم جهاد القصير ضمن ترجمته أجزاءً من بعض مقالات دريدا. كما لم يناقش أحد منهم موقف أصحاب النحوية، ولم يقدم أحد منهم تبريرًا لما يذهب إليه. ولعلهم أحسنوا إلى أنفسهم بعزوهم التبرير إلى غيرهم. إذ كل من خاطر بتجاوز الإحالة إلى غيره جاء بتصحيحات تبوح بعدم قراءة الكتاب أو بجهل لا ينبغي أن يأتي مثله مَنْ ينبري لتطهير خطيئة ترجمة أو يُقوّم انحرافًا.

حتى صدّيقي خلص بالألفاظ نفسها التي خلص بها غيره! فالأمر، عنده، يتعلق بخطيئة أو بترجمة خاطئة وينبغي، ربما، عقاب الجاني. فهو يقول «إن ترجمة هذا المفهوم بـ”النحوية“ ترجمة خاطئة إذ لا علاقة لهذا المفهوم بالنحو». ومع هذا التقرير الواثق، تقتضي الحكمة أن يقف لا أن يكمل. بل الأحرى به أن اكتفى بالخطيئة، لا أن يصر على اقترافه «خطيئة» أكبر. لنقرأ الدعوى كاملة:

«إن ترجمة هذا المفهوم بـ”النحوية“ ترجمة خاطئة إذ لا علاقة لهذا المفهوم بالنحو بل المقصود به هو علم الكتابة التي كانت منحطة في التراث الفلسفي الغربي منذ سقراط إلى دي سوسير، والذي كان يعلي من شأن الكلمة المنطوقة، أما دريدا فقد أعلن موت هذه الكلمة ليفتح المجال أمام الكتابة لتشمل اللغة، ولتمتد إلى جميع المجالات والحقول الأخرى». (التشديد لي)

فعلا هذا ما أراده دريدا، أن تشمل الكتابة (وليس علمها) كل شيء، أما الحط من قيمة الكتابة فلم يقف عند سوسير بل تجاوزه إلى كل فلاسفة اللغة وكثير من أعضاء هيئة التدريس في جامعة كامبريدج وفلاسفتها، وإلى جابر عصفور في اعتماده على «قصد» دريدا، وإلى صدّيقي في اعتماده على عصفور. وهذا تحديدًا ما تتبعه دريدا عند الفلاسفة وخاصة فلاسفة اللسان. فلا يكفي أن نقول إن الكتابة مهمة، وربما أهم من الكلام، مع أن دريدا لم يقل ذلك أبدًا، ثم نحتكم إلى «قصد» المتكلم أو إلى لفظ «المعلم» الذي يملي المعنى والقصد. مثل هذه الحال لا يبررها إلا «عماء بصر أو بصيرة» وسوء إدارك «ماهية الكتابة» التي يدّعي الدفاعَ عنها أتباعٌ مريدون.

فما هي هذه الكتابة التي يزعم الجميع أن كتاب دريدا علمُها؟ هل يعرفها علي صدّيقي أو جابر عصفور؟ ما هي هذه الكتابة التي اختلف معها وحولها فلاسفة ومفكرون ليس أقلهم ديكارت ولا أقربهم إلينا هيدغر وبعده أوستن. أغبط علي صدّيقي على ثقته بمعرفة غيره، واستسهاله معرفة أمر هذه الكتابة!

ترى كيف ندرك هذه الكتابة أولا ثم نعرف «علمَها»، نعرف أولًا ما هي هذه الكتابة التي ليست نقشًا ولا لفظًا، ثم ندرك قواعدها وأُسسها (حتى لا نقول نحوها أو نظمها). صدّيقي حقيقة وقف عند بداية الكتاب، وجاء باقتطاف من ترجمة كاظم جهاد لجزء من الفصل الأول من كتاب دريدا. فاقتطف أسطرًا عن «كتابة»، لكن ما اقتطفه حقيقة يثير الإحباط ولا يتناسب مع موقفه من النحوية. يقول:

«فإذا كانت اللغة، يقول دريدا، ”تُطلق على كل من الفعل والحركة والفكر والتفكير والوعي واللاوعي والتجربة والعاطفة، الخ...“، فإننا ”نواجه اليوم نزوعا لإطلاق تسمية ’كتابة‘ على هذه الأشياء جميعا وسواها: لا لتسمية الحركات الجسمانية التي تستدعيها الكتابة الحروفية أو التصويرية أو الايديوغرافية فحسب، وإنما كذلك على كل ما يجعلها ممكنة، ومن ثم، وفي ما وراء الجانب الدال، على الجانب المدلول عليه نفسه“، وهكذا سيمكننا الحديث عن كتابة رياضية وكتابة سياسية وعسكرية... إلخ».

جميل أن يختم صدّيقي بـ«إلخ»! وجميل أيضًا كل ما اقتطفه: سنسمي كتابةً كل ما اعتدنا تسميته لغةً. هل هذه هي الكتابة؟ مجرد إعادة تسمية؟ هل نحن مغرمون بإعادة التسمية وحسب؟ سنقول الكتابة الرياضية والسياسية والعسكرية والفضائية، ثم ماذا: هل تكفي «إلخ» الذي ختم بها صديقي اقتطافه؟ وهل هذا يعفيها من النحو؟

لعل الأهم من إعادة التسمية، ومع كل الاحترام لشخص صدّيقي، أن لا وجود هنا لـ«إلخ» التي ختم بها اقتطافه بعد نقاط الحذف. وهذه حقيقة مهمة لأن هذه الـ«إلخ» إذ توحي بأننا نستطيع إطلاق مسمى «كتابة» على كل شيء (وهذا صحيح)، فإنها أيضًا توحي بأن مجرد إعادة التسمية تكفي وأن دريدا لم يقل شيئًا آخر! والحال إن دريدا وقف عند ثلاث الكتابات (البدنية والعسكرية وأخيرًا السياسية)، ولم يطلق العنان لقلمة، بل قيد الكتابات هذه وغيرها «بنظر تقنيات» وبـ«برنامج». فدريدا يكمل بأن كل هذه الأنواع من الكتابة تأتي «بالنظر إلى التقنيات التي تحكم تلك الحقول اليوم. وكل هذا من أجل أن نصف ليس فقط نظام تشفير (system of notation) يرتبط بشكل ثانوي بتلك النشاطات وإنما [أيضًا أن نَصِف] جوهر ومحتوى النشاطات نفسها»! نظام التشفير، وهو «نظام تمثيل الأرقام والكميات بإشارات ورموز»، يعني نظامًا حاكمًا يميز ويفصل ويربط ونستطيع قراءته.

ولو لم يكن لهذه الكتابات المختلفة نظام يحكمها، لو لم يكن لها «نحو» أو «نظم»، كيف نستطيع أن ندركها أو أن نكتبها أو أن نقرأها؟ هل يعتقد صدّيقي أن دريدا يضرب بالمندل في مثل هذه المعمعة من الكتابات؟ أم يعتقد أن دريدا يهذي؟ هل يعلم أن الكتابة عند دريدا هي «القراءة»! ألا يكفي أن ما اقتبسه من هذه الأنواع الكتابية جاء تحت عنوان رئيس هو «البرنامج»؟ ألا يكفي هذا أن يكون «نظامًا» أو «نَظمًا» زمنيًا ومكانيًا، ألم يتحدث دريدا (بعد ما سرده صديقي من أنواع الكتابات) عن «التبادل المنظم» في الخلايا عند علماء الأحياء؟ كيف يكون التواصل والتبادل دون نحو أو نظام تبادلي بين الخلايا الحية أو حتى بين الميتة ( كما هي الحال في برنامج الحاسب). لِمَ لم يسأل صدّيقي مبرمجًا حتى يتبين أهمية التراتب النحوي [syntax

ثم إن دريدا، في معالجته مفهوم الغراماتولوجيا بوصفها علمًا للكتابة، أكد أن مثل هذا «العلم» لا يمكن أن يتحقق (ص: 4)؛ ومن يستمر في الترويج لعلم، حتى لو كان «علم الكتابة»، لا بد أن يظل حبيس النظرة الميتافيزيقية العمياء التي لا ترى خط النحو ونقمته حتى وهي تحدّق وتحملق فيه. أما التخلص من هذا العماء وتحقيق «علم كتابة» فله ثمن باهض. وهل يرضى أحدٌ من فحول العلم العرب به ثمنًا؟ فدريدا يقول: «هذا الليل يبدأ بتخفيف [ظلمته/ أو يبدأ بالارتخاء] قليلا في اللحظة التي عندها تُرخي الخطية طغيانها لأنها تبدأ بخصي الاقتصاد التقني والعلمي الذي طالما فضلته»!

[This night begins to lighten a little at the moment when linearity […] relaxes its oppression because it begins to sterilize the technical and scientific economy that it has long favored]. (p.86)

[Cette nuit se défait un peu au moment où la linéarité [...] desserre son oppression parce qu'elle commence à stériliser l'économie technique et scientifique qu'elle a longtemps favorisée]. (p.128)

على دعاة علم الكتابة، إذن، أن يبدأوا بخصي الاقتصاد «التقني-العلمي» كي يدركوا معنى «الكتابة» ومعنى «النحو» ومعنى «نظم النظم»! وليبدأوا بخصي علمية ما يستقونه من علم ممن يدّعون معرفتَهم بـ«علم الكتابة»!

               

[1] انظر مقاله «إشكالية ترجمة مفاهيم ”التفكيك“ (Déconstruction) في النقد العربي المعاصر»، على موقع رابطة أدباء الشام، http://www.odabasham.net/show.php?sid=22460، استعيد بتاريخ 5 سبتمبر، 2014.