تحليل ديوان "المحبرة" للمبدع "جوزف حرب" 9-11

تحليل ديوان "المحبرة"

للمبدع "جوزف حرب"

د. حسين سرمك حسن

محبرة الخليقة (9)

ملاحظة : حلقات من كتاب للكاتب سوف يصدر عن دار ضفاف (الشارقة/بغداد) قريباً .

وإذا كنتُ قد قلتُ أكثر من مرّة أن القصة القصيرة فن ، والرواية "علم" ، فإن هذا لا يعني أن الشعر يعني انثيالاً لاواعيا للصور والكلمات . على الشاعر أن "يحسب" خطواته التصويرية بدقّة ، ويربط بين أجزاء الصورة ، كي تتناسب العلاقات بين جوانبها ، ثم تحسب هذه العلاقات في إطار الصورة الكلّية . ولجوزف حرب روح "عالِم" .. بصبره البحثي ، ودقّته التحليلية ، مهارته التصويرية ، ودراسته لتناسب المكوّنات ، والأهم علاقاتها المتبادلة . راجع – على سبيل المثال – قوله في هذا المقطع وهو يصف جمهور القدّاس :

(خفضَ الجميعُ رؤوسهمْ ، حتّى

غصونُ التينِ ، والأفعى ، وشيخُ النارِ ،

والخُلدُ الكفيفُ ، وصخرةُ الجبلِ

العنيدةُ ، والجرادةُ ،

 والغُرابْ . – ص 30) .

وتصوّر لو أن الشاعر قد قال : والأفعى ، والنار .. إلخ. فكيف يمكن أن تتجانس جلسة من في القدّاس وبينهم النار . خفّف جوزف من وقع هذا المكوّن الحارق بوصف "شيخ النار" ، الذي سيمتلك من الحكمة ما يلجم شهوة النار الفطرية الجامحة .

والآن (في المقطع العاشر) ، وبعد أن انتهت صلاة القدّاس ، جاء طقسٌ آخر ، يمكن أن تتقبله نفوسنا بعيداً عن أي استعداد ديني أو فكري مسبق ، فقد قلتُ أن جزءا من مشروع الشاعر هو وضع تصوّرٍ لخليقة جديدة ، يشذّب ويصفّي عن طريقها وبها ممارسات تحيّزية علقت ، ويوسّع أخرى تثري الشكل الذي اختاره . ومن المهم هنا أن لا ننسى المرجعية الثقافية للشاعر نفسه . والطقس الآخر الذي تلا طقس الصلاة والدعاء للبحر الحبيب بأن يبارك الماء ، ويهبه للخلائق المبتهلة ، هو طقس الإعتراف أمام التراب الكاهن ، حيث جلس الكل على كرسي الإعتراف ، واعترف بخطاياه وآثامه ، طالباً الصفح والرحمة ، فمحا التُراب خطايا الكل . والتراب كبنية هو أكثر المكوّنات ملائمة وقدرة على "المحو" .. محو الخطايا ، فمنه جئنا ، ولهذا دعا الجمع البحر في الصلاة إلى أن يبارك الطين أيضاً ، وإليه نعود كممثل للرحم الأمومي في الواقع . والآن يأتي الطقس الختامي وهو طقس التناول ، الذي مهّد له الطقس السابق : طقس الإعتراف . فعلى المؤمن قبل أن يتقدم لتناول "القربان المقدس" أن يقدم التوبة النصوح والندامة التامة والتصميم على عدم العودة إلى الخطايا معترفاً بخطاياه اعترافاً قانونياً أمام الكاهن الشرعي . وأن يؤمن بأن القربان المقدس هو سر جسد الإله الفادي ودمه الأقدسين ، فيتقدّم لتناولهما بإيمان واحترام ونقاوة الضمير وأن ينقّي جسده ليكون طاهراً . وقد تطهّر جماعة القدّاس بالإعتراف أمام التراب ، وها هو "يناولهم" القربان الذي يجب أن يكون من جنس جسد الإله المنعم وهو البحر ، فكان يناولهم الماء ، الذي كانوا يتناولونه بإيمان حقيقي وبنزوع عارم لاستمزاجه في أجسادهم ، هم الذين ابتهلوا طويلا له ، فكان ينسرب بصمت وهدوء في الشفاه والعروق ليصبح مكوّناً أصيلاً بعملية غير محسوسة تُشبه العمليّة التي يمتصّ فيها الليل فضّته في ليلة مقمرة . ولا يوجد أدقّ وأروع من هذا الوصف الذي يعجز عنه حتى العلم الذي لن يستطيع مطلقاً معرفة الكيفية التي يصبح فيها الحياءُ حمرةً في الخدّين . وإذا شرح لك العالم الكيفية التي يدخل فيها الماء المعدة عبر الفم فالمريء ثم يُمتص وينقل عبر الأوردة .. إلخ ، فعليك أن ترفع من هذه العملية اليابسة "شرط" الجمال ، ولن تجده إلا في "علم" الشاعر الذي لا يكتفي بإرباكنا باكتشاف طريقة تصف تمثيل الماء في الجسد (الفضّة التي يمتصها الليل حين يُقمر) حسب ، بل بكشف مسار سرّاني آخر للنماء والحيويّة التي يسبّبها الماء في الجسم العطش الذي يقطر التراب الماء البارد في فمه ، حين يغادر طقس التناول وقد صار طريّاً أخضراً :

( قبل نهايةِ القدّاسِ ، أقبلَ كلُّ منْ

دخلَ الكنيسةَ نحوَ مذبحها ، وقد كان الترابُ

يناولُ المتقدّمينَ الماءَ .

 كلٌ

 يغمضُ العينينِ ، يفتحُ للترابِ فماً

قديماً يابساً ، لمّا عليهِ الماءُ يسقطُ

 بارداً

 متقطّرا

ويذوبُ في الشفتينِ كالليلِ

الذي يمتصُّ فضّتهُ

إذا ما اقمرا ،

يمضي

طريّاً ،

أخضرا . – ص 34 ) .

وبعد ان انفضّ الجميع ، وقد صلّوا واعترفوا وتناولوا من جسد البحر ، جاء دور التراب ليصلي ويبتهل لإلهه البحر :

(صلّى الترابْ :

 عصيٌّ

 عاصفٌ

موّاجةٌ فيكَ المياهُ كراقصٍ لا شيءَ منْ

أسرارهِ إلّا ويظهرُ في سلالمَ رقصهِ ، من صفوِ زرقتهِ

إلى الغضبِ المتوّجِ بالأكاليلِ الضفيرةِ للأعاصيرِ

الملوكِ .

وشاسعٌ

 يا

 أيّها البحرُ الذي أعماقهُ

كالفيلسوفِ ، سكونهُ وجهُ الحكيمْ . وموجهُ قلقٌ ،

ومجنونٌ ، وحرٌ ، ساحرٌ ، كالروحِ في الشعراءِ . – ص 35 و36) .

وكلّ الأوصاف يحتملها البحر حتى لو كانت متضادة صارخة : الفيلسوف والمجنون ، والصامت والصاخب ، القلق والهاديء ، المنعم والمدمّر ، الواضح والغامض ، وهكذا تتجمّع صفاتُ البحر ، أو "أسماؤه الحسنى" ، وهي في أغلبها مبنيّة على خواص فيزيائية جامدة نحن الذين ننفخ فيها الحياة ونؤنسنها ، والأهم أننا "نسقط" الكثير منها على هذا الكيان المحايد في أغلب حالاته ، وخصوصا الشعراء من أمثال جوزف حرب ، الذين بإمكانهم أن يستولدوا صفاتٍ ومسميّاتٍ ، لا تمرّ على بال أحدٍ منّا :

( أيّها البحرُ

 الذي في الأرضِ لا يغفو ، ويُمضي الوقتَ في

 تبديلِ انواعِ الوسائدِ في السواحلِ ، كي ينامَ

 ولا ينامُ – ص 37) .

أو :

( يا

 أيّها الرجلُ الذي عشقت ذكورتهُ إناثُ الكائناتِ

 جميعهنّ

نساؤكَ المتزيّناتُ ........

وما ... الآه المُذابةُ في الرياحِ .....

 إلّا بعضُ أصواتٍ لشهوتهنّ حينَ تُمارسُ

الأمواجُ في أجسادهنّ

 إذا

 انتشرْ

 على أفخاذهنّ الغيمُ ،

 وانهمرَ

 المطرْ . – ص 38 ) .

لكن الأمر هنا أوسع ، فالكونُ الشاعرُ يتحدثُ عن البحر العظيم ، الغمر الذي كانت ترفّ عليه روح الله ، ومن دون أن نلتفت بحاستنا النقدية ، وبقوّة ، إلى المسيرة التي استدرجنا عبرها الشاعر ، وهو يعرض ديوان الكون الشاعر المسمّى "الخلق" والذي أعلن لنا أنه أحبّه كثيراً .. وكان يقرؤه بروحه لا بعينه ، سوف تفلت منا أمور مهمة كثيرة . ففي النص الأول (المقطع الرابع) كتب الكون الشاعر نصّه يصفُ فيه كيف خلق الله السماواتِ والأرضَ والليل والنهار وباقي مكوّنات الكون وفق الطريقة التي عرضناها سابقاً ، وختم نصّه بالقولِ إن الله رأى نصّ محابره حسناً فاستراح . ثم راح شاعرنا يقرأ في النصوص مركّزاً على "نصّ المياه" الذي تحوّل شيئا فشيئا ، ومن مقطع إلى آخر ، إلى "نصّ البحر" العظيم الحبيب المقدّس المبارك المصوّر المنير الواهب الماحي الكريم الوسيع العاصف العصيّ الغاضب الحكيم الساحر المجنون ... وإلى آخره من أسماء البحر الحسنى ، لتصبح القصيدة في ختامها موقوفةً على إله البحر الخالق ، في حين اختفى الإله الأصلي صاحب النصّ الأول ! فهل هو تصحيح جديد وجوهري ضمّنه جوزف حرب قصّة خليقته هذه بأن أرسى الإعتراف بالخالق الفعلي الذي تدين له كلّ الموجودات ، والذي (لو ما كانَ ، ما كانت خليقهْ – ص 37) فهو مصدر المادة التي يُجعل منها كلّ شيء حيّ ؟ وفوق ذلك فإن الإله الذي كتب قصيدة الخلق الأولى رأى النصّ حسناً فاستراح ، في حين أن البحر العظيم مازال يواصل بعزم هادر كتابة قصيدة الخلق السرمدية . لقد تصاعد صوت الشاعر الإنسان ، شيئا فشيئا ، يداعب أسماعنا في فضاء القصيدة ، حتى التحم بصوت التراب ، وتماهى مع الكون الشاعر ، وصارت صلاته صلاة التراب ، واصبح نزوعه الأخير هو نزوع أي شاعر يريد التحليق بإمكاناته إلى أقاصي سماوات الإبداع كي ينحت النصوص من رخام الغمام مستهدياً بخطى البحر الذي (حركاتهُ في الموجِ توحي كيف ينحَتُ أو يصوّر - ص 36) :

( وها أنا أرنوْ

 إليكَ بوجهِ مبتهلٍ ، وأرفعُ عالياً غصناً من الزيتونِ

 فوق يدٍ ،

 وفوقَ يدٍ

 حمامهْ

 ألا يا

 بحرُ غطّ يباسَ

 روحي

 بالغمامهْ .

 ألا

 يا

 بحرُ ، ما منْ كائنٍ إلاّ ويظهرُ

شكلهُ في الغيمِ ، ليتَ أصابعي تغدو مع الأيّامِ

نحّاتَ الغمامِ ، وليتَ كلَّ غمامةٍ

 تغدو

 رُخامهْ . – ص 39 و40 ) .

فهو يدرك أن الفاصلة بينه كتراب مخلوق والبحر الخالق هي فاصلة الإبداع ، فاصلة "التصوير" – والمصوّر من أسماء الله الحسنى - فاصلة جسيمة يجسرها حين تستطيع أصابعه نحت وجوه الكائنات على رخام الغيم .

وحين تراجع نصوص الكون الشاعر كما راجعها شاعرنا – بالمناسبة هو لم يحذف ولم يُصحّح ولم يُضف شيئا كما طلب منه الأول حتى الآن بل كان مأخوذاً بقصائد "الخلق" – تجد أننا في قلب دائرة خليقة كبرى كلّها تدور حول الماء ومعضلة الخصب واليباس التي ترتبط به . هذا ما يتضج جليّاً من خطاب التراب للبحر :

( يا

 أيها البحرُ الذي يهبُ الخزائنَ

 والمطايا ، وهو لو ما كانَ

 ما

 كانتْ خليقهْ .

 مصيرُ حياةِ أنْ نبقى ، بأجنحِ غيمهِ ،

 وبمائهِ

ملحُ الحقيقهْ ،

خصوبتُكَ السخيّةُ خلف كلّ ولادةٍ ... – ص 37 و38 ) .

 ومنذ البداية – المقطع الخامس ؛ نصّ المياه – رسمَ الكون الشاعر مخطّطاً للكيفية التي يسيطر فيها الماء على كل مفاصل الحياة عبر "أوزانه" التي انسربت في كل إيقاعات الحياة الوظيفية من مطر ونبع ورعد وأنهار واشجار ونباتات وسوابح أعماق وعصافير وغزلان ... وكل شيء ، بصورة تذكّرك – مثلا - بالإله "أنكي" – بيت الماء أو إله الماء – الذي كان حسب "كريمر" يمسك بنظام العالم من خلال تحكّم الماء بحياة الإنسان – وحياة النبات والحيوان - جذريّا ، وبتفصيلات حياته اليومية ، فكان يوكّل آلهةً ثانويّة يمنحها بعض صلاحياته . فهذا إله للمطر والصواعق ، وآخر للأنهار ، وثالث للأسماك ، وأخرى للخبز .. وهكذا . وبالإحالة إلى الإله إنكي فقد يشعر بعض السادة القرّاء أنّ الوقفة الإبتهالية للتراب - في المقطع الأخير ، الحادي عشر – التي كشف فيها جانباً وظيفياً حسيّاً وجنسياً صادماً حين خاطب إلهه البحر بـ :

(أيّها الرجل الذي عشقتْ ذكورتهُ إناثُ الكائناتِ

جميعهنْ

 نساؤكَ المتزيّناتُ بشوقهنّ إليكَ ، بالعريِ المفتّح

بالعناقِ اللافحِ الشبقيّ .... ص 38) .

هذه الوقفة قد تكون شطحة بعيدة المدى من السياق "الأرضي" "الخصبي والإروائي" الذي خاطبه به الجميع في القدّاس برغم أن الجنس هو عملية "تخصيب وإرواء" . لكن في مقطوعة "أنكي ونظام العالم" التي أشرتُ إليها قبل قليل ، نقرأ وصفاً مثيراً يربط بوضوح بين المياه والخصب والفعل الجنسي مثلما ربط التراب بينها :

(بعدَ أن حدّق [= أنكي] ببصرهِ من تلك النقطة ،

بعد أن أطلّ الأب أنكي فوق الفرات ،

وقف بكبرياء كالثور الفحل ،

وسلّ "قضيبه" وراح يقذف ،

فملأ دجلةَ بمياهٍ حيوية ،

والبقرة المتوحّشة لن تخور في المراعي ،

لقد خضع دجلة له كما لثور فحل .

سلّ قضيبه وجلب هديةَ العريس ،

جلب المتعة لدجلة كثور متوحّش ، ضخم ، منتشٍ بمنح النسل ،

الماء الذي جلبه ماء حيويّ ، خمره حلو المذاق – ص 198 ) (15) .

ولكن مع جوزف حرب – وهذا جزء من جهد التصفية والتشذيب الذي يقوم به - تكون المسألة اكثر معقولية وصفاءً حيث يقوم البحر بفعله الحسّي المباشر ببساطة ، وبلا توسّعات خرافية ، فالماء المعبّر عنه بانّة الأعشاب ، وحفّ الغصون ، ونغمة العصفور ، وتنهيدة الينبوع الفضّي ، هي استعارات رمزيّة من رمزيّة العملية البشرية الحسّية الأصل المليئة بالأنّات الملتهبة والحفيف الشفيف والتنهيدات الحارقة . والماء الذي حسب الفيلسوف "طاليس" هو "أصل كلّ شيءٍ موجود" ، وطاليس شرقي ، فينيقي ، وقد تكون نظريّته هذه من الشرق (16) ، الشرق الذي منه جوزف حرب وكونه الشاعر الذي ينقل لنا ابتهال التراب لإلهه البحر والذي يضفي عليه فيه كلّ سمات إلهة الخصب القديمة :

( إلهُ

 الزرعِ ،

قدّيسُ الصحارى ، أنتَ . واسمكَ ربُّ

واهبةِ البنفسجِ ، والمراعي الفيْحِ ، والجبلِ المحبّرِ

بالعريشِ ، وانتَ عنديْ ماءُ إبريقي ، وسيدُ بيتيَ

المفروشِ ممّا حيّكتهُ يدُ الفصولِ . وها أنا أرنو

إليكَ بوجهِ مبتهلٍ ، وأرفعُ عالياً غصناً من الزيتونِ

فوق يدٍ ،

وفوقَ يدٍ

 حمامهْ . – ص 39) .

ولكن شاعرنا الذي تسلّم من الملاك رسول الكون الشاعر ديوان الأخير الشعري "الخلق" مخطوطاً على ستّ غيماتٍ ، ومكتوباً بمنديل يرجو فيه من الشاعر أن ينقّحها ، ويحذف منها أو يضيف إليها وينقدها ، لم يقم بما طُلب منه ؛ فهو لم يحذف أو يضيف أو يصحّح كما قلتُ قبل قليل ، علّق فقط بالقول أنه أحبّ كلّ النصّ ، وراجعه بروحه . فاين هو رأيه النقدي المستقل ؟ وما هو جوابه على طلب الكون الشاعر؟

(10)

ملاحظة : حلقات من كتاب للكاتب سوف يصدر عن دار ضفاف (الشارقة/بغداد) قريباً . 

رؤيا المحبرة : يوم العهد العظيم

-------------------------------

(أذاكرٌ في البدءِ ربّيْ

                أحدَكْ ؟

نظرتَ ربّي مُتعباً ،

وقلتَ ليْ :

            هاتِ يدَكْ )

في "رؤيا المحبرة" ، يأتي الجواب الأول مباشراً وفورياً ومن أول بيتين من المقطع الأول :

(أعمقُ

الكونُ

وأجملْ

خلقهُ

من متخيّلْ . – ص 43) .

وهذه خطوة لا تشكّل مقترحاً بديلاً للتصوّرات اللاهوتية والأسطورية حسب ، بل تنطوي على روح تحرّشية أيضاً حيث يكون المآل النهائي لهذه الأطروحة هو أنّ كلّ قصص خلق الكون السابقة لم تكنْ توفّر كوناً أعمق وأجمل لأنها كلّها تزعم – وهذا واقع حالها – أنها تأسست على معطيات عمليّة وواقعيّة . والمشكلة أن مريدي كلّ دين ، والمؤمنين بكل أسطورة خلق يعتقدون أن ما يرويه كتابهم ، أو ما جاء في أسطورتهم هو الصحيح ، ويستقتلون بحثاً للحصول على أدلة نظرية وعملية ساندة ، ونقاشاً ليفنّدوا آراء خصومهم . يأتي الشاعر الآن ليقطع برأي جديد ، وهو أن هذا الكون كان من الممكن أن يكون أعمق وأجمل لو تكفّل به الخيال .. لو نضجت قصّة خلقه في عالم المخيلة . أي أننا نوضع الآن أمام فكرة أن قصة الخليقة الفعلية والحقيقية "مؤجّلة" ، وتنتظر من ينجزها بمخيلته الخلّاقة . فمن هو "الكائن" المهيّأ لإنجاز هذه المهمّة ؛ مهمّة نسج قصّة خليقة جديدة للكون من خيوط المخيّلة ؟ من هو الصانع الأمهر الذي لا يبزّه أحد في مجال الخلق من المخيلة ، والمحترف في استخدام سلاح الخيال والتخييل والذي لا ينازعه أحد في استخدامه ؟

إنه ببساطة الشاعر . فهل يكون هذا عاملاً إضافيا دفع الآلهة للتحذير من الشعراء والتحسّس منهم ؟ فصحيح أن الله قد خلق "القمر" ، وهذا أمر مفروغ منه ، والناس منبهرة بهذا الكوكب منذ آلاف السنين ، وعبثاً يحاولون اكتناه سرّه ، ولكن شاعر الهايكو الياباني "يتمنى تركيب مقبض للقمر ليجعل منه مروحة يدويّة" . وبهذا يكون قد خلقه – في الحقيقة – من جديد ، وسخّره في خدمته . وهي خطوة تجعل هذا الكائن المتعالي – برغم أن العلم قد وطأ وجهه المنير بحذائه ، والشعر حفظ له كرامته – أداة يوميّة عاديّة . وهنا يتضح جانب من السمة التحرّشية التي تحدثت عنها . فقد إنتهت معجزة العلم عند هذا الحدّ . أن يطأ وجه القمر بحذائه الثقيل ، ويجهض أحلام العشّاق والشعراء كما تصوّر خطأً بإثبات أن هذا القمر المعشوق ورمز الأنوثة – في كل مكان عدا أرض سومر فهو مذكّر !- ما هو إلا كتلة كبرى من الصخور والأتربة والحفر . تنتهي معجزة العلم عند هذا الحدّ ، ولكن معجزات الشعر لا حدّ لها ولن تنقطع لأنّ مخيّلة الشاعر أوسع بأشواط هائلة من مخيلة العالِم نوعاً وكمّاً ، وتجعله "يرى" ما لا يراه العالِم أولاً ، ولأنّ الشاعر أكثر جسارة من العالِم بما لا يُقاس ثانياً ، ولأنّ الشاعر حليف ستراتيجي صادق لا يتخلى عن حلفائه وفي مقدمتهم القمر ولا يغدر بهم مهما تلاعب بهم الزمان وخذلتهم الأقدار ثالثاً ، ولأنه باحث في البواطن برؤى اللاشعور التي لا يجيدها العالِم رابعاً ، ولأن الشاعر – خامساً - يمتلك أداة بحث متخصّصة بهذه البواطن ورؤى اللاشعور لا يمتلكها العالِم وهي المحبرة ورؤاها خامساً ، في حين يمتلك العالم أدوات بحث مختبرية محدودة الفعل والمدى والقابلية على النفاذ . فالعالِم يستطيع "تفكيك" مكوّنات حبّة الرز الصغيرة ، ويحدّد عناصرها وتفاعلاتها وعلاقاتها . لكن من المستحيل عليه أن يُدرك أن الكون يمكن أن يتجسد في حبّة رزّ أو رمل كما يفعل الشاعر – والمتصوّف والبوذي أيضاً - . وكل هذه النتائج تترتب على الشرط الأول : المخيلة ، والقدرة على التخييل ، التي جعلت شاعرنا يؤكد أن أجمل الكون هو الذي يُخلق من المتخيّل . فهو يقرّ – إمعاناً في الروح التحرّشية – بأن الليالي الممطرة ، وصباح الصيف ، والبحر ، وحفّ الريح ، وياقوت المساء ، والشجرة ، وصلاة الناسك الصوفيّ .. و.. :

(قناديلُ رواقِ الليلِ ، والمرآةِ ، والكاشفِ ،

في تختهما اللاهبِ

مثلَ المجمرهْ ،

ومدىً من أشرعٍ بيضٍ

بريحٍ مُبحرهْ ،

ومواويلَ المراعي ،

وجناحُ القبّرهْ ، - ص 44 و45 ) .

هذه .. كلّها .. قد خلقها الله .. ولكن .. الشاعر يستدرك ، فقد كان من الممكن أن تكون أجمل وأعمق لو أنها كانت نتاج محبرة شاعر .. نتاج مخيّلته مغموسة برؤاه :

(كُلّها ،

قدْ خرجتْ رائعةً منْ كفّ باريْها ،

ولكنْ ، إنّها أكثرُ منْ رائعةٍ ،

لو خرجتْ

من محبرهْ . – ص 45) .

وحين تمعن النظر في عملية "الخروج" أو التكوين ، فستجد أن الخلائق خرجت من كفّ الله في الحالة الأولى ، في حين يتمنى الشاعر أن يكون "الخروج" من محبرة ، وكأنّ الجانب التخليقي اليدوي – بالنسبة له – لا يمكن أن يضاهي في جماله الفائق طريقة الخلق الكتابية التي يدعو إليها الشاعر وتتكفّل بها الكلمة بعد أن تتخمّر الرؤيا وتنضج في المحبرة . كما أن عليك أن تلتفت كثيرا إلى التغيّر في مادّة الخلق اللازمة ، ففي التخليق اليدوي يتطلّب التكوين "مادة" تعالجها الأصابع الخالقة بمهارة لتقدّم لنا الشكل الأخير للكائنات المطلوبة ، في حين أن طريقة التخليق من المحبرة مادتها المحرّكة هي الرؤيا ، وأداتها الكلمة ، وكلاهما "مجرّدان" يصعب التلاعب بهما بالأيدي ، ويتطلبان معالجة شديدة الخصوصية تناسبهما ، ولا توجد معالجة من هذا النوع إلا في الشعر . فيصبح الشاعر خالقاً مختصّاً بطريقة خارقة ومفارقة تجري تحت خيمة "التخييل" . وهذه عمليّة – وحسب تفسير الشاعر لتوشيح شريط منديل المكتوب - سوف تجري متعشّقة الفعاليات ، ملتحمة المكوّنات ، بفواصل غير محسوسة ، في حين تفصل النقاط العازلة بين مكونات وعمليات تكوين التخليق اليدوي .

هذه هي الخطوة الأولى في عملية التنقيح والحذف والإضافة والنقد لديوان "الخلق" ، ولقصّة الخليقة المعروضة من خلالها ، التي طلبها الكون الشاعر من شاعرنا . فالشاعر يؤمن (المقطع الثاني) أن كل ما خُلق في الكون من ماء وتراب وصحراء وهواء وبحر أزرق وسماء زرقاء وليل ونهار .. كل مكوّنات الكون بإطلاق كانت ستبقى "أشياء" لولا ظهور خالق محايث أو لاحق تكفّل بتحويلها من أشياء إلى "أشياء أخرى" ، وسوف نرى لاحقاً معنى "الأخرى" :

(كانتْ

كلُّ الأشياءْ

 

أشياءَ بكونٍ ، لا أكثرْ ،

لولا مِحبرةُ الشعراءْ – ص 47) .

كيف يثبت لنا الشاعر فرضيّته الخطيرة والتحرّشية هذه ؟ 

من هنا (من المقطع الثالث) تبدأ سلسلة أمثلة يقدّمها الشاعر لإثبات أن الكون كان من المحتّم أن يبقى "شيء" كونٍ ، لو لم تتصدّى للتعامل معه محبرة الشعراء . وخذ القصب ، فقد خلقه الله قبل الإنسان ، وعليه كان من المفروض أن تكون له أولوية "حيويّة" على الكائن الإنساني اللاحق . لكنه ظلّ "شيئاً" من القصب :

(.... وقبل أن خلقتنيْ ،

خلقتً

       ذا القصبْ ،

ظلّ

قصبْ ،

لهُ

بقربِ الماءِ ،

 

لهُ حفيفٌ

كلّما مرّ الهواء . – ص 49 ) .

إلى أن امتدت إليه يدُ الشاعر العاشق ، فأحالته إلى "ناي" ينطلق منه غناء وأنين الروح :

(وعندما خلقتنيْ ،

صنعتُ ناياً منهُ للغناءْ – ص 49 )

.. ويُؤول غناؤه وأنينُه تأويلاتٍ متضاربة كلها غنى وثراء دلالياً تجعله شيئاً "آخر" ، وتحيل القصب إلى شيء "آخر" لا صلة له بالأول الذي خلقه الله ، والذي استهلكته الإستعمالات اليومية النفعية التي هدفها حلّ المعضلات اليومية من نقل وتجديف واصطياد وبناء بيوت وغيرها ؛ استعمالات لم تلتفت ابداً إلى "روح" القصب ، وابتذلت جسده بلا رحمة . وها هو الناقد – أنا - وبتاثير جوزف حرب أتحدّث عن تركيب جديد للقصب يتجاوز كونه "شيئا" مادّياً قصبيّاً . والمشكلة التي ستظهر أمام الإله هو أن الحال السابق كان مرسوماً وفق صيغة محدّدة وثابتة ، فالقصب هو القصب أينما كان ، ومهما مرّت عليه الأزمان . لكن "ناي" كلّ شاعر يختلف عن الشاعر الآخر ولا يكرّره . فالشعراء يُعاب عليهم أن يكرّروا عزف ناي غيرهم . وسنكون الآن – ومعنا الآلهة – أمام محنة تعدّد الخالقين . فالإبداع ليس من قواعده التوحيد . والشعراء في كل وادٍ يهيمون . وهذا عامل آخر في التحسّس الإلهي من الشعراء . فمولانا جلال الدين الرومي – على سبيل المثال ،  وارتباطاً بموضوعة الناي – يقدّم لنا الناي في صورة رمزيّة تحكي قصّة الإنسان المقطوع عن أصله السماوي فيظل يطلق حنينه أنيناً صادحاً فتتلقفه آذان الحزانى والسعداء على حدّ سواء (لاحظ أن الطرب في اللغة العربية يكون من فرح أو جزع) :

(أنين الناي نار لا هواء..

فلا كان من لم تضطرب في قلبه النار..

نار الناي هي سورة الخمر، وحميا العشق

وهكذا كان الناي صديق من بان

وهكذا مزقت ألحانه الحجب عن أعيننا..

فمن رأى مثل الناي سماً وترياقاً ؟!

ومن رأى مثل الناي خليلاً مشتاقاً ؟!

إنه يقص علينا حكايات الطريق التي خضبتها الدماء

ويروي لنا أحاديث عشق المجنون) (17) .

وناي الرومي يعلن أن عذابه بدأ منذ أن قُطع من الغابة ، وصار الرجال والنساء يبكون لأنينه .

أمّا جوزف حرب فقد اجترح طريقاً خاصاً في خلق نايه المتفرّد ، فهو محبّ لهذه الحياة ، و "أجمل ما في الأرض أن يكون عليها" ، إنّه يشعر بأنه أحقّ بهذه الدنيا ، التي تستحق أن تُعاش ، بل يجب أن تُعاش ، وبأفضل صورة ، مفجّراً طاقات كل الخلائق التي بين يديه ، ومتخماً إيّاها بالحب الغامر والعشق لأجمل ما في الكون وهو : المرأة . إنه لا يستطيع – كما قلتُ سابقاً – ولا يرى ضرورة أن ينتظر لحظة الإلتحام الصوفية ، أو أن يُغرق ذاته في بحر من التساؤلات عن أصل نايه ووجوده ، أو أن يحلّق تاركاً هذه الأرض باحثا عن المطلق ، مطلق جوزف حرب ليس في الأعلى بل في الأسفل على هذه الأرض الجميلة ، وتحديداً في جسد الأنثى الذي هو خلاصة قصّة الخليقة . هو الذي يجعل النار تضطرب في القلب ، هو سورة الخمر ، وحميا العشق ، ليس من شأنه هذا "التطهّر والزهد العُصابي" ، ولذلك صنع ناياً غريب الآهات وعجيب المقامات :

(وعندما خلقتني ،

صنعتُ ناياً منهُ للغناءْ ،

مقامهُ المغسولُ

بالآهاتِ والطيبِ

نقلتهُ

عن خَصرِ محبوبي . – ص 49 ) .

وهنا – كما ترى سيّدي القاريء – اصبح لدينا قصبة من نوع "آخر" ، قصبة نستطيع أن نصفها بأنها قد خُلقت من جديد ، وهذا هو أعظم أدوار الشعر ؛ الرجفة التي تصيبنا حين نواجه الموجودات وكأنها قد خُلقت من جديد ، وكأن كل الوجود من حولنا قابل لأن يُخلق من جديد حتى وجودنا الشخصي . ولم يكتف الشاعر بالتفكير في قطع  القصبة لتصبح ناياً حسب ، بل أن يطلق منها مقامات من وزن حركة خصر المحبوب . صارت الخشبة تغني وتعشق !

وقد يقول قائل إن الطبيعة تعزف بطبيعة حركة مكوّناتها الفطرية ، ولها ألحانها وميلوديّاتها ، وهذا صحيح في أحوال كثيرة لكنه يبقى نتاج تقاطع حركات هذه المكوّنات العفوية الفجّة التي عبّر عنها الشاعر بصوت "الحفيف" الذي يحصل كلّما مرّ هذا "المدعو هواء" وهو "محض هواء" على القصب . لكن المقام الذي يعزفه ناي الشاعر – مع ثراء رمزيّته الحنسية – يحصل عندما تلوب روحه في تجويفه وهي تبغي الإلتحام بخصر المحبوب.

(11)

ملاحظة : حلقات من كتاب للكاتب سوف يصدر عن دار ضفاف (الشارقة/بغداد) قريباً . 

وهذا المثال – والأمثلة اللاحقة في المقاطع الأربعة التالية - الذي ضربه الشاعر ليس لنا حسب ، بل لله ، بروح تحرّشية تعرّضية ، هي ليست أمثلة على الكيفية التي يكون وجود الشاعر فيها ضرورياً لجعل الأشياء في الكون أكثر من مجرّد أشياء فقط ، بل هي مصمّمة بمكر الشاعر لعرض الكيفية التي يعيد بها الشاعر تخليق تلك الأشياء وتغيير هويتها و "طوابعها" حسب الوصف السومري بحيث تصبح خلقاً جديداً لا نتعرّف فيه على ملامح الشيء القديم . فمن المستحيل – وعند لحظة خلق الناي الأولى – أن نقنع المراقب المحايد و "الموضوعي" و"العالِم" بأنه كان خشبة من القصب ، وأن مقاماته المغسولة بالآهات والطيب منقولة عن خصر الحبيب . هناك ، في لحظة الخلق الأولى ، يكون عامل "الدهشة" – الذي تحدّثنا عنه - المرتبط باللاشعور العاري طاغياً ومتسيّداً .

في المقطع الرابع يأتي المثال الثاني الذي يضربه الشاعر لله ! وفيه يزعم الشاعر أن شجرة الحور الطويلة الخضراء (قد يصل طولها إلى ثلاثين متراً ، وتعمّر أكثر من أربعين عاماً ) التي خلقها الله ليستفيد منها الإنسان : متنعماً بظلّها في الحرّ اللاهب ، ومستدفئا بأخشابها في المدفأة بعد أن يقطعها الحطّاب ، لقطع أخشابها ، والتي يعشش فيها العصفور ، محدّدة الوظائف لمئات الآلاف من السنين ، تصبح كياناً آخر شديد التعقيد بعد أن خُلق الشاعر ؛ كيانٌ لا يمكن تصوّر صلته بالحورة الأصل ، كيان تخمّر معناه في محبرة الشاعر طويلا ، وطويلا جدّاً ، وتحوّل بكيميائية مخيّلته المعقّدة إلى كائن إنساني مركّب . لقد فجّر الشاعر "معنى" أهم وظائفها المُضمر . فلم يكن هناك أحد على وجه البسيطة يدرك معنى ميلان الحورة حين يلفّها الهواء . "المعنى" الذي أدركوه هو المعنى الفيزيائي المادّي المباشر ، أمّا الشاعر فقد أمسك بـ "معنى المعنى" المستتر حسب مصطلح "عبد القاهر" الذي سبق به نقاد أوروبا بمئات السنين :

(أَلحَورَةُ

الطويلةُ

الخضراءْ ،

 

ألحورةُ التي تميلُ

في الهواءْ ،

 

خلقتَها شجرةً للظلّ ، للعصفورِ ،

للحطّابِ ،

        أو

        للمِدفأهْ .

 

       لكنّها ،

       وبعدّ أن خُلقتُ صار عابرُ

الريحِ عليها رجلاً ،

      وصارتِ

    امرأهْ . – ص 50 و51) .

ويبدو أن الناس حين تدهشها حركة "روح" هي بالنسبة لهم امتياز بشري ، نجدهم يلجؤون للشعر "ليؤسطروا" تفسيراتهم لهذه الظاهرة الغريبة ، فالشعر علم الأرواح المرتجفة . وهناك أسطورة حول شجرة الحور "المرتعش" ملخصها أن الصليب صُنع من خشب هذه الشجرة ، وعندما تم ذلك بدأت أوراقها تهتز وترتعش من الفزع والأسى ولازالت تهتز حتى الآن . في حين ترى أسطورة أخرى أنه عند الصلب سجدت جميع الأشجار حزنا وأسى إلا الحور ، ولهذا كُتب عليها بدوام الإرتعاش والإهتزاز .     

في المثال الخامس نتحرّك خظوةّ أوسع على طريق تعقيد عملية الخلق ، وعلى صعيد طبيعة القوة الخالقة وحضورها . كما أنّ المقترب قد تغيّر أيضاً . ففي المثالين السابقين كانت محاولة الشاعر الإعتراضية تبدأ بطرح شيء مادي من مخلوقات الله ، ليبين في النهاية أن هذا الشيء قد مرّت عليه أنامل الشاعر فأعادت تخليقه بصورة أبهى وأجمل وأعمق . لكن هنا يظهر الشاعر وكأنه يحكي حكاية للمرجعية الإلهية ويطرحها بصيغة سردية مبتدءاً باللازمة المعروفة :

(في

أحدِ الأزمانْ ،

قطعوا واحدةً

من شجراتِ

      الوديانْ ، - ص 52) .

حكاية لا يمكن أن تُصاغ وتُسرد في مثل هذه المقابلة التنافسية بين الشاعر وإلهه إلاّ في طلّ النرجسية الضارية ، فسرد الحكاية الموجزة البليغة والتحرّشية هذه يفترض علم الشاعر بها وعدم علم الطرف المقابل برغم علمه الكلّي وقدرته الكلّية – omnipotence ، والإفتراض الراسخ في الوجدان بأن هذه القدرة تعرف الغيب ومصائر الاشياء والموجودات حتى لو كانت بحجم حبّة الخردل . ومصير شجرة الوديان تلك كان قاسياً فقد "قُتلت" طحناً ، فصارت ورقاً وهو من أدوات الشاعر . ويبدو أنها كانت أول خطوة خلّاقة تحوّل الخشب إلى ورق وهي أيضا عملية "شعرية" إذا نظرنا إليها من زاوية العلاقات والبنية . كان الورقُ شجريّ الخضرة معدّاً لاستقبال مظاهر الخصب ورعايتها حين تصبح هذه المظاهر "كلمات" على "أرض" الورقة / القصيدة التي سوف تتجمع فوقها الخلائق/ النصوص التي تعرف كيف تميّز رائحة "روحها" ، لتكبر وتكبر فتصبح "ديوان" شعر :

(     طحنوها ، صارت ورقاً ، ظهرتْ فوقَ

الورقِ الشجريِّ الخضرةِ ، رقْصُ الغصنِ ، وصوتُ

حفيفِ

           الأغصانْ ،

ظهر الظلُّ ، العصفورُ ،

رنينُ النبعِ ، الثمرهْ ،

ظهرتْ

كلّ الألوانْ ،

كانتْ

شجرهْ ،

صارتْ

ديوانْ . – ص 53 ) . 

لقد "استحالت" الشجرة لتصبح "ديواناً " ورقياً هو المحل الطبيعي المنتظر لتحقيق هذا الإحتفاء الكوني المصغّر البهيج . لقد اضطلعت الشجرة الآن بدورها "الرحمي" الحقيقي . والشاعر في موقفه هذا يعلّمنا خطوة تكوينية لم تلتفت إليها قصص التكوين السابقة ، وتتمثل في الكيفية التي تتم فيها عمليّة تحويل الكائنات الجامدة إلى شعر بعد موتها الذي سيتحوّل إلى انبعاث كوني استثنائي ، وليصبح الشعر طريقا للخلود . وهي طريق لا يعرف أسرارها ، ويستطيع فكّ ألغازها غير الشاعر . وهذا يضعه على عرش متفرّد لا تجوز مقارنة أي قوة خالقة أخرى به . سيكون عرشه موازياً أو مقابلا لعروش الآلهة الجبّارة . وهذا ما يصوغه الشاعر في حكاية المقطع / المثال السادس القصيرة التي يكتب فيها الله قصيدة ، فهو الشاعر الأول كما صوّر لنا ذلك الكون الشاعر في ديوان "الخلق" . وبحركة مباغتة يقحم الشاعر نفسه في مسار عملية خلق القصيدة الإلهية ، وقد حطّ على الورقة وهو بهيئة "طائر" . لقد شمّ رائحة قصيدة ولم يعد قادراً على الوقوف في موقف المتفرّج لأن هذا من اختصاصه . لقد اقتحم دائرة العمل الإلهي بصورة تذكّرنا بجسارة "زو" العصفور الصاعقة في الأسطورة السومرية مع الفارق البارز طبعاً . وقد كان تنقيحه لقصيدة الله سريعاً وخاطفاً ، فهو المقتدر ، والخلق الشعري شأنه . وكأنه يبغي التأكيد على أنّ الخلق الشعري خلق خطير لا يترك لأي قوّة مهما علا شأنها . لهذا تدخّل فوراً ونقّل منقاره وانطلق ، انطلق بهيئته المحيّرة ، فلا هو عصفور قمح ولا بلبلٌ أو يمام .. إنه "ذاته" الشاعرة التي لا تُجنّس . غادر الطائر الشاعر بعد أن اكمل مهمّته ليعود الإله فيجد تحوّلات غريبة : بياض معدٌّ لاستقبال الرؤى .. ومستلزمات الخلق الشعري : محبرة من نبيذ العريشة .. وريشة . فكيف كان ستُكتب هذي القصيدة ؟ :

(كتبتَ إلهيْ

قصيدهْ ،

أتيتُ أنا طائراً

غطّ فوقَ

            الورقْ ،

ونقّلَ منقارهُ ،

           وانطلقْ .

ولا هو عصفورُ قمحٍ ، ولا

بلبلٌ ، أو

        يمامْ ،

وحينَ رجعتَ إليها

وجدتَ بياضاً بغيرِ كلامْ ،

ومحبرةً فاحَ منها

نبيذُ

          العريشهْ ،

            وريشهْ . – ص 54 و55) .  

 

# النرجسيّة وصيغة الفعل "خلق" :

--------------------------------------

ولو لاحظت المقطعين ؛ الثالث والسابع ، وقارنتهما بالمقطع الرابع ، فستجد فارقاً جوهريّاً يتعلّق بصيغة الفعل "خلق" . ففي المقطعين الثالث والسابع استخدم الشاعر صيغة الفعل الماضي : "وبعد أن خلقتني" ، أمّا في المقطع الرابع فقد استخدم صيغة الفعل المبني للمجهول : "وبعد أن خُلِقتُ" ، وهنا يتجلّى ذكاء الشاعر وروحه التحرّشية المباركة في الوقت نفسه . فكلّما كان الدور التخليقي الذي يقوم به الشاعر مادّياً ، بمعنى الإشتغال على "مادة" مسبقة الوجود خلقها الإله ، وهي القصبة في المثال الثالث ، والسماء في الفصل السابع ، وكان التخليق الشعري ينتقل من "مادة" إلى "مادة" أكثر إبهاراً ، أقرّ الشاعر بأن الإله قد خلقه ، وأنه من بين مكوّنات الخليقة بالرغم من قدراته الفذّة . ولكن حين يكون فعل التخليق معجزاً وينطوي على التحوّل من مادة "جامدة" (شجرة الحور والهواء في المثال الرابع) إلى كيان بشري مركّب بمحمولاته الوجودية والجنسية (الرجل والمرأة) فإن الشاعر يضيّع مصدر خلقه ويستخدم صيغة المبني للمجهول (خُلقتُ) وكأن انتفاخ نرجسيّته بفعل الخلق المتجاوز للأصل بمراحل تدفعه إلى تغييب القوة الخالقة له للبدء من نقطة خلق جديدة تغيّر جوهر الموجودات وتدشّنها عمليّة خلقه التي نواجه فيها حضوره الفاعل من دون إحالة إلى قوّة أخرى . أمّا حين يكون الفعل فعل تخييل خلقي مجرّد وكأن الشاعر يحوّل ما هو مادّي جامد (شجرة الوديان في المقطع الخامس) إلى مجرّد (شعر أو ديوان) أو يخلق فيه الموجودات المجرّدة من العدم أو ما هو معنوي لا يُصدّق من معنوي من جنسه ولكن أقل درجة في التعقيد بكثير (تحوّل القصيدة الورقية في المثال السادس إلى بياض رؤيا ومحبرة) ، فإن الشاعر لا يذكر الفعل "خلق" أبدا ، لا "خلقتني" ، ولا "خُلِقتُ" ، بل يكتفي بوصف الفعل الخلاقي الذي يقوم به كقوة شعرية خالقة خفيّة تجمع الكون المصغّر فوق الورق الشجري ليصبح ديواناً (المثال الخامس) أو كطائر شاعرٍ غريب الجنس غيّر بمنقاره طبيعة القصيدة التي كتبها الله (المثال السادس) . هنا يصل الإنتفاخ النرجسي حدّه الأقصى فيصبح الشاعر قوّة خالقة تفعل ما تشاء وتعلن حضورها المستقلّ والذاتي بصورة مستترة (المقطع الخامس) ، أو بالإعلان القاطع عن الذات "أتيتُ أنا" (في المقطع السادس) . وقد يكون هذا عاملاً آخر في تأجيج حساسية الآلهة من الشعراء ، فهم يحاولون الإستيلاء على عرش الخليقة بصورة هادئة مسمومة ومبيّتة خطوة خطوة .

# يوم العهد العظيم :

----------------------

لكن المقطع الثامن والأخير من "رؤيا المحبرة" يحسم كل ما قد يتحرك في أذهاننا من تساؤلات واعتراضات على هذه التأويلات ، وعلى سمة الروح الإقتحامية والتحرّشية للشاعر التي التقطناها . فهنا يكون الحديث مباشراً أولاً في الوقت الذي كان التفافياً في كل المقاطع السابقة . ففي الأول والثاني جاء المثال بصيغة ضمير الغائب ، وفي الثالث كان الخطاب "مثالاً" عن الكيفيّة التي تتلاعب بها أنامل الشاعر بخلائق صنعها الخالق لتهبها روحاّ جديدة وشكلا جديداً (تحويل القصب إلى ناي ، والشجرة إلى ديوان ، والشمس اللاهبة إلى تفاحة حمراء . إلخ ، ونفخ روح الأنوثة في الحورة) ، أما في السادس ، فصحيح أنه خطاب مباشر مع الله ، إلاّ أنه خطاب في النتائج ، وعن خرق إبداعي خاطف قام به الشاعر في تنقيح قصيدة أراد الله البدء بها ، والشاعر يكشف لله طبيعة الخرق الذي قام به في هذه المنافسة الجزئيّة . لكن في هذا المقطع الأخير يتوّج الشاعر كلّ خطواته الإستدراجية السابقة ، والتي صمّمها بمكر نفسي يرقّق به مقاوماتنا النفسية بالطرق الهاديء المتكرّر الذي يفلّ الحديد كما يُقال . هذا التتويج الذروة جاء بعد أن جعلنا الشاعر – وعبر أمثلة مهارته الخلقية الخارقة  - نستقبل قناعة راسخة بكونه الندّ والنظير المُبدع الذي لا يصعب عليه كتابة قصة خليقة جديدة مهما كانت أعباؤها . صرنا متأكدّين ، وعبر الأمثلة الباهرة ، أن بإمكاننا أن نطمئن لفرضية الشاعر الصادمة التي طرحها في المقطع الإفتتاحي لقصيدته والتي ترى أن الكون سيكون أعمق وأجمل لو جاء خلقه من متخيّل ، وأن كل ما في هذا الكون سيكون أكثر من رائع لو خرج من محبرة الشاعر .. دواة نبيذ العريشة التي تركها للّه ، وكأنه يرى أنها الأداة اللازمة لخلقٍ يصحّح مسار الخلق السابق الذي تمّ باليدين الخارقتين المهيبتين . ويتكوّن المقطع من بيتين خرجا عن إطار الأمثلة التنافسية ، ولكن أولهما يتضمن شاهداً على قوّة ذاكرة الشاعر الذي يذكّر ربّه بشيء عظيم حصل في يوم بدء قصّة الخلق : الأحد حسب الميثولوجيا الدينية ، وبالتالي هو يوم  نهاية العمل فيه إذا كان تكوين الكون قد استغرق ستة أيام "استراح" بعدها الخالق حسب الرواية التوراتية (في الرواية الإسلامية بعض الإختلاف : عن ابن عباس أن اليهود أتت النبي (ص) ، فسألت عن خلق السماوات والأرض فقال : "خلق الله الأرض يوم الأحد والاثنين ، وخلق الجبال يوم الثلاثاء [وما فيهن من المنافع] ، وخلق يوم الأربعاء [الشجر والماء] ، وخلق يوم الخميس [السماء] ، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر" . قالت اليهود : ثم ماذا يا محمد ؟ قال : "ثم استوى على العرش" . قالوا : قد أصبت لو تممت ثم استراح . فغضب رسول الله غضبا شديدا . فنزلت الأية ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ﴾.

يذكّر الشاعر ربّه بيوم أحد الخليقة حيث كان الله مرهقاً ، وتحالف مع الشاعر في يوم العهد العظيم :

(اذاكرٌ في البدءِ ربّيْ

                أحدَكْ ؟

نظرتَ ربّي مُتعباً ،

وقلتَ ليْ :

            هاتِ يدَكْ . – ص 58 ) .

وبإشهار هذا التحالف المقدّس لن تعود شهادة الشاعر مجروحة على أي فعل خلقي في الكون ، فقد ظهر الآن أنّه طرف أصيل ومبارك في عملية الخلق والتكوين ، كما لن تكون مزاعمه حول قدرته على إشادة معمار قصّة خليقة محايثة أو موازية عرضة للتشكيك خصوصا ونحن المتلقّين المتشفّين نعيش تحت وطأة الحاجة الملحّة لتفريغ دوافعنا الأوديبية المبيّتة والمكبوتة ضد أبينا الذي في السماوات ، تلك الدوافع التي يعدّها معلم فيينا الدافع الأول في نشوء الدين والحضارة والأخلاق والقانون والفن ؛ الدوافع المتمثلة في الرغبة في قتل الأب .

ولعلّ الوصول إلى الإعلان الجسور لهذا التحالف الذي يؤكّد كفاءة الإبن ، بل الحاجة إليه من قبل القوة القاهرة الخالقة ، هو أيضا من أعظم ثمار الشعر التي تسهم في تحقيق سلامتنا النفسية عبر "التفريغ – catharsis" ، الأرسطي ، للمكبوت من ناحية ، وفي توفير نوى الإستعداد اللازم – وإن كان كامنا ومتردّداً – للتحضّر والإنعتاق ، فـ :

(أوّل من قرّر الإضطلاع بدور الأب – الإله من البشر هو الشاعر الملحمي الأول الذي قرّر الإنفصال عن المجتمع البشري وتحقيق التقدّم في مجال التمرّد على الأب ، ولم يتم ذلك أولاً إلاّ في مخيلته . وقد حوّل هذا الشاعر الواقع وفق رغباته فاخترع الأسطورة البطولية ؛ فبطلاً كان من قتل بمفرد الأب الذي تُظهره الأسطورة وكأنه وحش طوطمي ) (18) .

ولأنّ جوزف حرب ، كما قلت سابقاً - لمرّتين - يبغي أيضا تشذيب وتهذيب ليس ما أُشبعت به قصص الخليقة وأساطير التكوين من نوازع عنفيّة سادو مازوخية ، ومن إخراجات درامية صراعية دمويّة ، فإنه ليس شاعر الأسطورة الذي يقتل الأب ويظهره كوحش طوطمي ، بل هو شاعر حياة يرى أن مسيرتها تتنامى وتثرى بالتحالف والمحبة والتقرّب الغير مباشر ، فأوصل الأب – الإله ، بهدوء ، خطوة خطوة ، وعبر الإقناع العملي بالقدرة على تحقيق كون أجمل وأعمق وأفضل ، إلى أن يمدّ يده له لتحقيق التحالف .. ولا يتحالف الله إلاّ مع إله . وها هو الشاعر يقدّم أولى خططه / نصوصه التي تحاول تنفيذ مشروعه بجعل كوننا أجمل وأفضل وبوسائطه : رؤياه ومحبرته .. والأصح بـ "رؤيا المحبرة" العظيمة التي يتسلّح بها .. وستكون أولى نصوصه مراجعة ومحاولة تخليق مكوّنات الكون الأربعة الأساسية في نص اسمه : "رباعيّة الخلق".