مرايا السياسة والجنس

يوسف يوسف

            أوصتني أمي منذ الطفولة

            ليكن عملك بتصميم وتعصّب

            حتى لو امتدت يدي يوما بغضب

            لا تغفري لي

            ابنتي ولا تسمحي لي

            قالت لي أمي بأني

           ابنة لشعب غنيّ بالأسفار

           والأغيار جهلة

           حثتني أن أكون في المقدمة

           لأني يهودية

                الشاعرة اليهودية

                 أنّا بخريتو

بعيدا عن التفاصيل الدقيقة لمختلف الصور التي ظهرت فيها المرأة في الأدب اليهودي ، وهي في الغالب مما لا نرى ما يماثلها في غيره من الآداب الأخرى، فإن رواية ( تانكريد) لبنيامين دزرائيلي (1) على سبيل المثال ، تقدم للقارئ الاجابة الشافية على أي سؤال يمكن أن يخطر له حول المرأة والسياسة في هذا الأدب . حيث من الملاحظ أن رغبة تانكريد(الرجل المسيحي) بالاقتران بإيفا(الفتاة اليهودية) إنما تعني الزواج بين الديانتين : المسيحية واليهودية كما يقول هاني الراهب. وهو زواج في اعتقاد دزرائيلي يقوم على أساس أن الديانتين ديانة واحدة،لأنهما تنبعان من عرق واحد، وإن كانت المسيحية تكمل اليهودية(2). لكن من المهم التوضيح هنا بأن (إيفا) التي ترفض الذهاب إلى الكنيسة الانجليزية عندما يطلب منها (تانكريد) ذلك، إنما تفعل ذلك بسبب دافع سياسي بحت ، حيث تقول في معرض تعليقها على هذا الطلب : عن أي كنيسة تتكلم يا تانكريد؟هناك كنائس متعددة في القدس، وما هو أكثر من ذلك ، لقد أنقذ البشرية أمير يهودي هو المسيح .

هذا يعني أن ( إيفا) في الوقت الذي تكون فيه قد ألقت عواطفها وأحاسيسها كأنثى وراء ظهرها حرصا على ديانتها والصفاء الذي في داخلها كيهودية، ولو في صورة مؤقتة، تكون قد أعطت للحب من جهة، ولطلب تانكريد الزواج منها من جهة أخرى مغزى سياسيا . وينبغي أن يدرك القارئ هنا أن مثل هذا التصور ليس محض افتراء،إذ أنه مما يبدو لنا جليا ، فإن الزواج الذي يسعى إليه تانكريد، لن يتحقق إلا بعد أن يوافق على شرط إيفا الذي يتمثل بالذهاب إلى كنيس يهودي في القدس ، وليس إلى كنيسة في إنجلترة،وهو نفسه المغزى السياسي الذي يتمثل في تهويد تانكريد.إن (إيفا) ليست من نوع الفتيات اللاتي يعمي الحب أبصارهن. وهي سوى هذا من النوع الذي لا يتنازل عن القناعات التي يحملها ، ومنها القناعة بأن العودة إلى ما تسمى (أرض الميعاد) أكثر أهمية من العثور على الزوج المناسب . وهي لفرط اهتمامها بإبراز الموقف السياسي ، تعتبر الزواج من تانكريد تحصيل حاصل جمع رأسين لرجل وامرأة مع بعضهما ، فوق وسادة اليهودية التي تضعها في مقدمة شروطها للموافقة على ذلك كله .

  صحيح أن بنيامين دزرائيلي يعدّ أحد الآباء المؤسسين الذين وضعوا القواعد التي قام عليها الأدب اليهودي،إلا أن روايته التي نشير إليها هنا، ليست الوحيدة من بين أدوات التعبير الأدبية التي تضع على كاهل المرأة اليهودية هموما سياسية،وهناك سواها عشرات القصص والروايات، تلقي على كاهلها مثل هذه الهموم، وإن تباينت زوايا النظر بينها. وها هي الكاتبة (شولميت ها – إيفن) في قصتها ( كراسي القش) (3) تقدم للقارئ مكانا مرئيا - وطنا موعودا ، بعد أن تكون قد وضعت بطلتها فيه. ولا ينبغي لنا الاعتقاد هنا بأن الصدفة هي التي جاءت ببطلة قصة الكراسي إلى القدس - المكان الذي يحلم به كل يهودي، وذلك لأن اعتقادا كهذا يبدو على قدر كبير من السخف، فالقدس كما تصورها القصص اليهودية عموما،هي مدينة الرب وسرّة الأرض (برفع السين وفتح الراء وتشديدها). ثم إنها الصخرة التي تقوم فوقها الدولة اليهودية التي من أجل بنائها لا تنسى إيفا دورها الذي عليها عدم التنازل عنه حتى لو كان ذلك من أجل تانكريد .

 سوف يكتشف القارئ بأن البطلة في العقد الخامس من العمر. وأنها موظفة وتحمل قدرا مهما من الثقافة ، وهي بسبب ذلك تمارس الكتابة الأدبية. ولقد استخدمت الكاتبة شولميت ضمير المتكلم،على اعتبار أن الوقائع قد حدثت معها وليس مع غيرها . بتعبير آخر فإنها تتقدم من أجل الادلاء بشهادتها على واقع يهودي تعيشه، دون أن تعمد إلى التخفي وراء المحكي الذي يأتي على ألسنة الآخرين . وهي حينما تضع نفسها أمام القارئ، فليس من أجل سرد معاناتها الشخصية التي تتمثل في مسائل العنوسة وإصلاح كراسي المطبخ، وإنما لكي تقدم له صورة الدولة اليهودية كما تتخيلها. ومن هنا يأتي القول بأنها مرآة من مرايا السياسة وبحسب ما سوف نتبينه لاحقا.

 إن ما قد يظنه القارئ انتقادا للواقع السياسي ليس هو كذلك بالفعل . ذلك أن ما تقوله شولميت لا يتجاوز الظاهر، ولا يصل إلى قلب الدولة وجوهرها (في تلك الأيام بدأ الكثير من الطائشين العابثين الاهتمام بالأدب) (4) و (مضايقات من المسنين . مضايقات من ضريبة الدخل )(5)، و( دخلت إلى زقاق آخر مسقف، فيه أكوام من الخضروات . الأكياس ممزقة ، ربت فيها الديدان من سوق الخضارالقريبة)(6) .

  فإذا كان هذا هو ما يبدوفي الظاهر من القصة،أو في قشرتها الخارجية كما يقال، فماذا عن المختفي في الداخل حيث الأعماق؟ إن البطلة التي توهم

 القارئ بأنها أمام حالة من حالات البوح العاطفي ( لعله يتوجب عليّ أن أشرح أي نوع من الجمال أحاول أن أجد . إذن إني افتش عن جمال رجولي على غرار جمال هذا البلد الذي أعيش فيه . وأنا أعيش في حب تام وليس لي شيء سواه)(7) ، سرعان ما تكشف عن عدم قدرتها على التماهي مع حالة الأنثى التي بلغت مرحلة العنوسة ، لتجد خلاصها ليس في الرجل الذي تنتظره، وإنما في البلد الذي تراه جميلا في يهوديته ، فتضع في صياغاتها الكثير من الرموز، التي تؤكد أن إطار القصة الاجتماعي ، ليس سوى قناع على القارئ أن يتقبل من خلاله سموم الكاتبة ، التي تسعى إلى سرقة فضاء القدس العربي الاسلامي ، من أجل إحلال فضاء يهودي في مكانه ( هناك الكثير من الغربان في القدس ، تيئو شتاين كان يقول : إن هذه الغربان امتداد لجنود الفيلق الروماني العاشر الذين بقوا بعد الحصار. أولئك من كثرة ما سلبوا ونهبوا قلت طاعتهم . والدليل على ذلك أنك لا تجد غرابا ميتا. هناك عصافير دوري ميتة . هناك حمائم مدهوسة .. هناك بلابل ساقطة من أعشاشها. لا غراب يكون على الاطلاق)(8). فالغربان التي تراها شولميت بعيني بطلتها التي تزرقها بالمصل الفكري، وقبلها رياح الخماسين التي تراها كذلك، كلها رموز واقعية، تشير إلى فرية ما يسمى اضطهاد اليهود الأزلي . والكاتبة باتجاه إحكام السيطرة على القارئ ، لا يسعها غير تقديم الصور الجميلة التي تحرك مخياله ، باتجاه كراهية كل من الغربان ورياح الخماسين،التي ترمز هنا إلى العرب هي الأخرى . كما وأن هذه الصور تهدف إلى إبراز ما يميز اليهودي عن غيره بما في ذلك النزوع إلى السلوك الحضاري ( إلا أنني أرتاد قاعات المحاضرات، وفي القدس الكثير من المحاضرات)(9) و( كان الكثيرون من الأزواج المسنين يتنزهون هكذا في القدس قبيل الغروب، بعد أن يكون حرّ النهار قد خفت وطأته)(10). لكنّ القارئ سيكتشف أن شولميت التي رافقت بطلتها بهدف غسل دماغها وحشوه بكل ما تراه مهما للمرأة اليهودية في حياتها داخل الدولة ، سرعان ما تخضع لمنطق الأنوثة الذي لا بدّ أن يدفعها للبحث عن رجل حتى وإن كانت في الخمسين من عمرها . وتيئو شتاين الكاتب اليهودي الذي يستطيع تدجين الغربان في القصة،هو حلم البطلة،التي تبحث عن حبيب بجمال البلد الذي تعبش فيه -أرض الميعاد. وهو إلى جانب ما سبق، ليس كمثل أولئك الذين وصفتهم في بداية القصة بالطائشين العابثين من الأدباء، وإنما في مقدوره تفسير الأمور بعقلية اليهودي الذي لا يريد أن يرى أحدا من العرب في القدس، وهي غاية بطلة شولميت، ليس لأسباب فيزيقية مجردة، وإنما بالنظر إلى ما يعنيه تيئو شتاين كيهودي تحلم به .

  وشموئيل يوسف عجنون هو الآخر مثل شولميت وغيرها من الأدباء اليهود، يكيّفون نظراتهم إلى المرأة انطلاقا من معاييرهم اليهودية . ففي قصته التي تحمل اسم " تهلة" (11) يقول في وصف البطلة التي تحمل الاسم نفسه ( كان يوجد في القدس سيدة عجوز من أحسن من رأيت في حياتي . كانت الأكثر روعة وحكيمة ، وذات جلال ومتواضعة ، لأن العطف والشفقة كانا نور عينيها . وكل غضن في وجهها كان يوحي بالبركة والسلام )(12).هذا يعني أن البطلة تهلة تحيط نفسها بهالة من التديّن، وهذا هو شأن أبطال عجنون في الغالب. وبهدف استدراج القارئ ليتعاطف معها ، فإنه يسبغ عليها من الصفات الحسنة الكثير( أعلم أنه لا يجب تشبيه النساء بالملائكة، ولكنني أودّ أن أشبهها بملاك الرب)(13). وهو حينما يضعها في مدينة القدس ، مثلما فعلت شولميت مع بطلتها ، وليس في أي مكان آخر ، فإنما لكي يسبغ عليها هالة أخرى من هالات التدين، فالقدس التي لها مكانة كبيرة في المخيال الجماعي اليهودي ، هي أيضا كما تقول التوراة : مدينة الرب المقدسة .

  لم يكن عجنون يعرف أي شيء عن تهلة، ولكنه عندما جاء مهاجرا إلى القدس التقى بها . ومن الأقرب للصواب القول هنا ، بأنه اختارها من بين آلاف النساء اليهوديات ممن شاهدهن في القدس ،عندما كان يبحث عن رجل دين يهودي بارز يعيش كما قيل له بالقرب من حائط المبكى . أما لماذا اختارها من دون غيرها ، فذلك بسبب ما تعنيه مفردة تهلة في العبرية . فهي المرأة الطيبة التي تقترب من الكمال ، وهي - الكمال - الصفة التي يزعم اليهود أنهم يتميزون بها عن سواهم من الأمميين،على اعتبار أنهم كما يزعمون شعب الله المختار.أي أن الالتقاء بتهلة ، إنما يعني عند عجنون، وصول اليهودي إلى المجد الذي هو المعنى الآخر لمفردة تهلة . ومن الضروري التنبيه إلى مسألة قيام عجنون بالتمهيد للقاء بها ، وهو التمهيد الذي سوف يجعل لقاءه بها تاريخيا ومهما . لكن بأي الأمور يمهد الطريق قبل الالتقاء بها ؟

  نلاحظ أولا قيامه بتوحيد تهلة مع المكان . ومن علامات ذلك ، عدم إخفاء استغرابه من قدرتها على معرفته ، وهي التي لم تشاهده قبل ذلك اليوم الذي رأته فيه غير مرة واحدة . يقول على لسانها موضحا سبب هذه القدرة( لأن عيون القدس ترقب كل إسرائيل . كل رجل يأتي إلينا يظل محفورا في قلوبنا، ولهذا فنحن لا ننساه ) (14). في تعبيرآخر فإنه عندما يشير إلى قدرة المكان على الرؤية، فإنما ليعلن انحيازه لتهلة، التي سوف تصبح رمزا للأرض في العديد من القصص والروايات التي كتبها يهود .

   ثم إنه ثانيا يحرص على إبراز جوانب إيجابية في حياة تهلة وسلوكها

 ( ما الذي يزعجك في امرأة عجوز تريد أن تنال حسنة عند الله ) (15)، و  (في كل حين ، كانت تقف لتمنح قطعة حلوى لطفل ، أو قطعة نقدية لشحاذ،أو لتسأل رجلا عن صحة زوجته ، أو امرأة عن صحة زوجها)(16) .

  و(تهلة) هو الاسم الحقيقي ل( تلي)، الذي أطلق عليها في المعبد . إنها كما يقول عجنون : روح إسرائيل،وعمرها مائة وأربعة أعوام . صحيح أنها تريد منه أن يكتب قصة حياتها التي هي أيضا قصة حياة الدولة التي عاصرتها منذ التأسيس، لكنها وهي تقصّ عليه حكايتها ، تجاهر بقوة تمسكها بالتوراة ، وبالتالي فإنها من جهة ثالثة متدينة ( كل يوم أقرأ من المزامير فريضة ذلك اليوم، ولكنني اليوم قرأت فريضة يومين)(17) . كما أنها لا تخفي أمنياتها بأن تتوسع القدس- الدولة (فليأت ذلك اليوم الذي تمتد فيه القدس في كل الاتجاهات حتى تصل دمشق)(18). وهي عندما تقول للكاتب عجنون ( إنك تحمل قلمك معك أينما تذهب، مثل الذي يحمل ملعقته، إذا توفرت له وجبة، فالملعقة جاهزة . بالنسبة لي فإنني أحمل الوجبة في داخل الملعقة)(19)، فإنما من أجل أن تقول لعجنون بأنه عليه تقديم وجبة الفكرالتي بدون تناولها من ملعقتها لن يستطيع كتابة قصة ذات قيمة في اعتقادها، ولأنها في اختصارامرأة يهودية تتأسس حياتها على التوراة والتلمود، فما هي هذه الوجبة التي تقدمها لعجنون القاص ؟

  صحيح أنه كاتب ، وفي مقدوره استخدام المخيال كما هي الحال عند الكتاب الآخرين عادة، لكنها كامرأة يهودية تريد أن تمنحه الاحساس بالشموخ،لأنها في الأصل وكما تقدمها القصة، تتميز عن الأخريات من غير اليهوديات(كل بنات إسرائيل أميرات ، فليتمجّد اسم الربّ، وانا إحدى بنات إسرائيل)(20). ومما له دلالة كبيرة،أنها لا تتغنى بالمرأة اليهودية وحدها،وإنما نراها تتغنى بالرجل اليهودي هو الآخر . وهي لهذا السبب لاترى نفسها في معزل عن الشعب الذي لن تكتب له القدرة على البقاء إلا بالتقاء الاثنين معا : الرجل والمرأة اليهودية . وعلى هذا الأساس نفهم قولها ( إنك - لعجنون- محق في الحديث عن مملكتك، لأن كل رجال إسرائيل أبناء ملوك، وأفعالهم أفعال ملكية(21).

  ربما تبدو تهلة امرأة ثرثارة كثيرة الكلام، ولكن لأنها تندغم في الأرض- التاريخ - الدولة اليهودية، فإنه أصبح لزاما على عجنون أن يمنحها سلطة شبه مطلقة على فضاء النص. وهي سلطة على القارئ هو الآخر، وليس على القاص وحده كيهودي من واجبه كتابة رسالتها - رسالته ، التي من مفرداتها الأساسية : الحق اليهودي في القدس ، القدس مدينة الرب ، الاضطهاد والشتات اليهوديين،العربي الذي احتل أرض إسرائيل.. إلخ، وعبر صياغات عديدة تأتي على لسان تهلة ( عارية هضاب القدس ، لا توجد معابد أو قصور تتوجها، منذ سبينا جاءت أمة وراء أمة ، فخلفتها جرداء ، ولكن التلال تنشر مجدها نحو السماء كالأعلام ، تتألق بدرجات لونية دائمة التغيّر، وليس أقلها رقعة جبل الزيتون ، الذي لا تغطيه غابة أشجار، بل غابة قبورالأتقياء الذين كرسوا كل فكرهم في حياتهم وفي موتهم لأرض إسرائيل) (22) و(هل ترى هذا الحوش ؟ أربعون عائلة من إسرائيل عاشت مرة هنا ، وكان هنا معبدان ، وكان هنا في الليل والنهار دراسة وصلاة ، ولكنهم غادروا هذا المكان ، وجاء العرب وأخذوا أماكنهم)(23) و(أترى هذا البيت ؟ كانت هنا أكاديمية عظيمة ، حيث عاش ودرس علماء التوراة ، ولكنهم قضوا وجاء العرب واستولوا عليه) (24) و( البيوت التي كانت فيها صلاة ودراسة التوراة، وإعطاء الحسنات لا يتوقف،أصبحت ملكا للعرب وحميرهم)(25) .

  إن المرأة في النماذج القصصية الثلاث التي أشرنا إليها ، وفي سواها مما لم يرد ذكرها، تتوحد جسديا وروحيا مع ما حولها من واقع يهودي،لأنها بغير هذا التوحد، يتهم اتهامهاعادة بالابتعاد عن الدين، تماما مثلما حدث مع ابنة الحاخامة في قصة تهلة ، التي ذهبت إلى دير للراهبات، فاعتبرت مارقة بصريح عبارة أمها الحاخامة ( إن الربّ قد رأف بذلك الرجل الطيب عندما وضع الروح الشريرة في تلك المارقة، فلينزل اسمها )(26)، ومثلما حدث مع البطلة في رواية (تعقيد إيكاروس) للكاتبة أريكا يونج،على الرغم من أن الروائية هي التي صاغت فيها رغبتها العنيفة في الجنس، وهي الرغبة التي دفعتها إلى الزواج من طبيبها النفسي الصيني الجنسية )(27) .

  وعلى الرغم من أن المرأة في قصص عجنون كما يلاحظ ذلك جودت السعد (28) أكثر إخلاصا دينيا وصهيونيا من الرجل،وأقل جرأة في الخروج على التعاليم التوراتية،إلا أن هذا لم يمنع عجنون الذي يتدثر برداء الدين، من إيجاد التبرير لزوجة حاييم رافي في رواية ( زائر يميل إلى النوم) لتتحول إلى مومس بعد اعتقال زوجها ما دامت ستحتفظ بيهوديتها بشدة وإخلاص !

  ما سبق لا يجعلنا ننسى بأن التوراة نظرت إلى المرأة باعتبارها أصل الخطيئة ( ورأت المرأة أن الشجرة طيبة للمأكل وشهية للعيون، وأن الشجرة منية العقل ، فأخذت من ثمرها وأكلت وأعطت بعلها أيضا معها فأكل) (29) ، وإن اعتبرتها من جهة أخرى أمّ كلّ حيّ( الانسان دعا اسم امرأته حواء (حوه) لأنها أمّ كلّ حيّ)(30). يضاف إلى هذا أن الفكر القبالي (الصوفي) اليهودي يعتبر كلا من الأنثى والذكر، تجسيدا واقعيا للشكل الألوهي ، وهو كما نعتقد اعتبارأقرب ما يكون إلى الاعتبارات الوثنية،اقتبسه القباليون من الديانات الشرقية القديمة: الرافيدينية والكنعانية منها على وجه الخصوص. بل إن هؤلاء القباليين اليهود، ينظرون إلى العضو الذكري باعتباره علامة الميثاق المقدس . وتعتبر رواية ( ضائع في أمريكا) للكاتب اليهودي إسحق سنجر (الأمريكي الجنسية) مرآة تنعكس فيها كل هذه التصورات. وهكذا فإن اللقاء الجسدي بين يهودي ويهودية يعتبر نوعا من التواصل الروحي بينهما وبين (يهوه) من جهة، وبينهما وبين الأرض من جهة ثانية. وغالبا ما يجرّد اللقاء الجسدي اليهودي من كونه نشاطا إنسانيا فرديا محضا،تنحصرتأثيراته في ما يتمخض عنه من آثار بايولوجية ، ونتائج يظهر أثرها أساسا في مسألة حفظ النوع حسب، ليتخذ أبعادا كونية - قومية، تعود بجذورها الاولى بعيدا في أغوار الفكر التلمودي والقبالي والحسيدي )(31).

  في قصة " العشب الأحمر يشتعل في بطء.. النهر الأخضر يتدفق للأبد"

 (32) للكاتب بنحاس ساديه ، يبدو كل هذا واضحا وجليا . وجذور هذا العشب الذي يتحدث عنه تتوغل في نشيد الإنشاد الذي نقرأ فيه ( أنا لحبيبي وحبيبي لي. هو الذي يرعى بين السوسن . جميلة أنت يا خليلتي . كترصة وحسناء

 أورشليم،ومرهوبة كصفوف تحت الرايات، حوّلي عليّ عينيك فقد غلبنا في شعرك كقطيع ماعز يبدو من جبل جلعاد)(33).وإذا الاثنان - بطلا القصة : أفشالوم ( الذكر) وأفيجيل (الأنثى) في سعيهما إلى التوحد الجسدي يمارسان طقسا يندر أن نرى ما يماثله في الآداب الأخرى . وعندما يحاول القاص أن يفلسف علاقة هذا اللقاء بالأرض،فإنه يقول على لسانيهما :

-  لماذا تريدين السير حافية؟ أتشعرين بالحرارة إلى هذه الدرجة؟

-  ليس إلى هذه الدرجة.. ولكني أريد أن أحسّ

-  أن تحسي!

-  أن أحسّ بالتربة(34).

 صحيح أنه لم تكن هناك تربة بالمعنى المتعارف عليه تحت قدمي أفيجيل العاريتين القويتين اللذيذتين كما يصفهما ساديه،إلا أن الاثنين كانا آنذاك قد غادرا( الأزقة المتداخلة المتشابكة كحروف الكتابة العربية ) وأخذا يسيران في ( شارع الأنبياء على ناصية شارع الربّي قول ، وأمام مقهى باط) . وفي معنى آخر فإن إشارة أفشالوم إلى وجود طريق معبّد يسيران فوقه - طريق الأنبياء، إنما تحيلنا إلى رؤية طريق إسرائيل -الأرض- الدولة التي يحلمان بها، من خلال استخدام مفردة التربة ، وداخل مدينة القدس ، حيث يمشيان .... القدس في فضائها اليهودي الذي يسهب القاص في ذكر مسمياته اليهودية التي تبعث في أعماق بطله الاطمئنان،في مقابل إحساسهما بالخوف بسبب وجود الشبح العربي الذي يتربص بهما ويلاحقهما بنظراته .

 إن اكتشاف ما في الأعماق ليس بالأمر اليسير، ولا يمكن تحقيقه إلا بأن يجهد القارئ ذهنه في البحث عن أية إشارة أوعلامة مما يمكن الدخول منهما إلى باطن النص. وهذا يعني أن النزوع إلى الاكتفاء بما هو ظاهر من السرد القصصي، يضعنا أمام قصة عاشقين ، يقعان أخيرا في الخطيئة التي سيجد القاص تبريرا لها ما دامت ستقود إلى توحيد الشعب اليهودي - أفشالوم مع الأرض - أفيجيل ، حتى وإن كانت أخته على مستوى النص!! . وهي فكرة تسرّبت إلى التوراة : التوحّد الجسدي بين الأخ وأخته ، من أديان بلاد الرافدين القديمة (35). وإلى ما نذهب إليه تقول أفيجيل لأفشالوم (من لي بك كأخ لي قد رضع ثدي أمي،فأجدك في الخارج، وأقبلك بغير أن يلحقني ندم،ثم آخذك وأدخل بك بيت أمي.أنت تعلمني وأنا أسقيك الخمر الطيبة وعصير رمّاني)(36)، تماما ومثلما يحدث في رواية ليزلي غورس ( في السراء والضراء). ولا يقف الأمر عند هذا الحدّ، فالابن في الأدب اليهودي قد يكون حبيبا هو الآخر،وبالتالي فإن الأم هي الأخرى تصبح حبيبة ابنها . تقول أفيجيل أيضا(ألا ينبغي عليّ أن أرعاك يا ولدي ؟)(37). وقد يكون الأب هو الحبيب، والابنة هي الحبيبة (إنك مثل أبي.. وأنا مثل طفلتك العبيطة)(38).

  وما نراه في رواية " البستان " لبنيامين تموز لا يختلف عما سبق : (لماذا توقف دانئيل عن المجئ ليلا إلى البستان ؟ أليس ذلك لأن الأم وابنها احتلا البستان في كل ليلة.. في كل ليلة من ليالي السنة ؟ ألم أرهما يأتيان وقت المساء، يستحمان في البركة ، ثم يتجهان ناحية المخزن، يزهوان في عريهما في الظلام الذي بين الأشجار، ثم يدخلان إلى الغرفة التي كان فيها عوفاديا ينفرد بلونا وهو بعد على قيد الحياة)(39).

 وعموما فإن المرأة في الأدب اليهودي غالبا ما تقدم بوصفها رمزا يجسّد (أرض إسرائيل)، بينما يقدم الرجل-الذكر على اعتبار أنه الرمز الذي يمثل شعب إسرائبل،أي اليهود أينما يكونون(40). ومن الملاحظ أنه بهدف إتمام الاندماج بين كل من المرأة اليهودية والرجل اليهودي،فإن الأدباء اليهود يفضلون العراء - البرية لوقوع ذلك،حيث الطبيعة التي يمكن أن تلتحم المرأة فيها بالرجل . فهذه ياردينا في رواية (غبار) ليائيل دايان تقول(أعطيت دافيد قرصا من أرضي السوداء ولمسته أصابعه العطشى . لقد عرف أن هذه الأرض أم، فداعبها وذاقها،وللأرض السوداء مذاق مقدس)(41). وفي رواية "البستان" أيضا، فإن التوحد الجسدي يتم في أجواء ريفية (كان يأتي مع لونا إلى البركة التي في البستان،في الوقت الذي أتجول فيه بين الأشجار)(42) . وسوف يدرك القارئ ما يعنيه هذا النزوع ، إذا ما توقف أمام كل من قصة ساديه ورواية دايان ، ذلك أن الاثنين اختارا مفردة العشب لكي يدخلاها في البنية اللغوية لنصيهما : ساديه استخدمها في عنوان القصة،ودايان في أحد فصول روايتها، وهو الفصل الذي تخصصه لعملية بعث الحياة في جسد دافيد الميت .

 إن المرأة اليهودية في الأدب،هي التي تبعث الحياة. وما يحدث عادة عند التوحد الجسدي له مفهوماته التي تضع كلا من المرأة والرجل في الإطارالذي اعتادا أن يوضعا فيه داخل هذا الأدب، وهو الذي عليهما حينما يوضعان فيه

 نسيان الطبيعة البشرية بشكلها الاعتيادي، بسبب سطوة الأيديولوجيا، وكيف لا وياردينا تعترف بأنها ترى الأحلام نفسها التي يراها دافيد(وكل ليلة نستيقظ وننام . نحلم بالأحلام نفسها . وأحيانا أرى أحلامه هو)(43). وفي رواية "هو ذا النار" لبلانكفورت ، فإن راشيل تظن أن نفتالي الميت، هو الذي يقبلها وليس ويلتر(44). وفي رواية " في مكان آخر .. ربما"(45) لعاموس عوز، فإنه مما لا ضير فيه،أن تقوم إيفا بإضفاء طابع جذاب على الملهى أمام الزبائن، ما دامت بعملها تكشف عن تميّز الجمال اليهودي عن سواه .

 تقول إيفا في رسالة تبعثها إلى زوجها روفين حول واجبها تجاه ابن عمها(إن العذاب الذي عاناه كيهودي في أيام الحرب، هو الذي أدى به إلى التفسخ والانحلال. إنني أشعر بعمق ان من واجبي وحدي أن أنقذه وأطهره). فالرجل في الأدب اليهودي يطلب، وعلى المرأة أن تقوم بالتنفيذ وتلبية الرغبات. بيد أن كلا من الانقاذ والتطهير في هذا الأدب ، وكما تتحدث عنهما إيفا، ليسا كما قد يتصورالقارئ، ذلك لأن إيفا لا تتورع عن الانتقال من زوج إلى آخر، وكذلك رجال عاموس عوز هم الآخرون ، فإنهم ينتقلون من امرأة إلى أخرى سواها، فإذا نحن أمام خليّة نجسة تحركها العلاقات الجنسية البهيمية المتشابكة : إيفا مع روفين، ثم مع ابن عمها، ثم إنها في مرة ثالثة تصبح مع زخريّا ، بينما يكون زوجها مع برونكا زوجة سائق الشاحنة ، الذي كما يصفه عوز، يضاعف ساعات عمله التي يقضيها خارج المستعمرة، عندما يشعر بأن زوجته قد أقامت علاقة مع روفين،وذلك حتى لا يزعجها!أما الشخص الآخر- سائق الشاحنة ، فإننا نراه مع لوكا ابنة روفن يقيمان علاقة جسدية تنتهي بحملها منه سفاحا وهي علاقة لاتمنع فتى يهوديا يحبها هوالآخر، من الزواج منها، وصرف النظرعن فعلها الذي لا يرى فيه ما يمنع ذلك الزواج .

 إنها إحدى النغمات التي يطلقها هذا الأدب . وفي اعتقادنا فإن ما يسمى بالأدب الإباحي، سوف يجد له صورة واضحة المعالم هنا . ولعل ما يقوله دانئيل بطل رواية تموز سابقة الذكر، يؤكد ما نذهب إليه . فالبستان - الدولة التي كان يفكر بها لم تحقق له أحلامه (لقد جئت إلى أرض آبائي لكي أتمكن من أن أعيش حياة عدل واستقامة ، فماذا فعلت؟ أقمت بستانا معتما، وكرا للأشرار، وقتلت أخي في البستان )(46).

 لقد كانت لونا في بستان تموز رمزا للحلم وللشهوة معا . حلم دانئيل وشهوة عوفاديا ، وكلاهما على الرغم من كونهما أخوين ، كان يخوض الصراع الخفي ضدّ الآخر، وليس ضدّ العرب ، من أجل السيطرة على البستان- المرأة . يقول تموز في وصف علاقة لونا بعوفاديا ( إن عوفاديا لم يفكر في البستان بأكثر من حاجته لحبّ المال في تلك اللحظة. أما لونا، فإنه كان يستخدمها لشهواته الآنية. الشهوات التي عند الذكر والأنثى) (47) . وهي - لونا في المقابل ، بقيت تمارس الزنا حتى في مفهوم الديانة اليهودية ذاتها، مرة مع عوفاديا، وأخرى مع ابنها،إذعانا لأنوثتها المتفجرة الفاسقة، التي يغمض الروائي عينيه عليها ولا يراها كما يجب على الكاتب اليهودي أن يراها.

               

 الهوامش :

(1)        بنيامين دزرائيلي : يهودي إنجليزي ، كاتب وسياسي معروف . أصبح رئيسا لوزراء بريطانيا في حدود منتصف القرن التاسع عشر ، وقد تم تعميده كمسيحي كما يقول هاني الراهب في كتابه ( الشخصية الصهيونية في الأدب الانجليزي ).

(2)        هاني الراهب ، الشخصية الصهيونية في الأدب الانجليزي ، مركز الأبحاث ، بيروت1974، ص52

(3)        أنظر كتاب ، مختارات من القصص العبرية ، دار الجليل للنشر والتوزيع، عمان 1998

(4)        كراسي القش ( المختارات) ص133

(5)        كراسي القش ، ص134

(6)        كراسي القش، 137

(7)        كراسي القش، ص143

(8)        كراسي القش، ص138

(9)        كراسي القش، ص139

(10)       كراسي القش ، ص139

(11)       شموئيل يوسف عجنون ، تهلة (قصة) ، ترجمة غالب هلسا، مجلة الأقلام ، بغداد ، حزيران 1979

(12)       تهلة، الأقلام ، ص143

(13) تهلة ، الأقلام ص143

(14) تهلة ، الأقلام ص144

(15) تهلة ، الأقلام ص143

(16) تهلة ، الأقلام ص146

(17) تهلة ، الأقلام ص 146

(18) تهلة ، الأقلام ص 148

(19) تهلة ، الأقلام ص151

(20) تهلة ، الأقلام ص 150

(21) تهلة ، الأقلام ص150

(22) تهلة ، الأقلام ص149

(23) تهلة ، الأقلام ص146

(24) تهلة ، الأقلام ص146

(25) تهلة ، الأقلام ص147

(26) تهلة ، الأقلام ص148

(27) بديعة أمين، الأسس الأيديولوجية للأدب الصهيوني، دار الشؤون الثقافية  العامة، بغداد ، ص38

 (28) جودت السعد ، الرموز العنصرية في الأدب الصهيوني، دار الجاحظ

  للنشر والتوزيع، إربد، 2000 ، ص28

(29) سفر التكوين 3/6

(30) سفر التكوين 3 /20

(31) بديعة أمين ، نفسه ، ص253

(32) بنحاس ساديه، العشب الأحمر يشتعل (قصة)، كتاب الأدب الصهيوني

  بين حربين ، ترجمة د. إبراهيم البحراوي ، المؤسسة العربية للدراسات

  والنشر- بيروت 1973

(33) نشيد الانشاد 3/4

(34) العشب الأحمر ، ص94

(35) للمزيد أنظر :

  - ألكسندر هايدل ، الخليقة البابلية- ترجمة ثامر مهدي ، بيت الحكمة ،

   بغداد2001

  - ناجح المعموري ، الأسطورة والتوراة، المؤسسة العربية للدراسات

    والنشر، بيروت 2002

(36) نشيد الانشاد 8/ 1-2

(37) العشب الأحمر ، ص124

(38) العشب الأحمر ، ص124

(39) بنيامين تموز، البستان( رواية) ، ترجمة أبو أحمد ، دار الجليل للنشر ،

  عمان 1998 ص 111،112

(40) بديعة أمين ، المرجع السابق ، ص254

(41) يائيل دايان ، غبار (رواية)، ترجمة هاني الراهب ، مجلة الموقف الأدبي

  دمشق ، أيار 1974

(42) البستان (رواية ) ص107

(43) غبار ( رواية) ، المرجع السابق

(44) أنظر: وليد أبو بكر، صورة العربي في الأدب الاسرائيلي

(45) أنظر أبوبكر ، نفسه

(46) البستان ، ص113-114