البطولة والأبطال في ديوان الشعر العربي

البطولة والأبطال

في ديوان الشعر العربي

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

(1)

من الحقائق التي حملها إلينا التاريخ ، وسرت مسرى الأمثال : قولهم " العرب أمة شاعرة" ، وكذلك قولهم " الشعر ديوان العرب " . ولا مبالغة في ذلك : فالشعر هو الذي حفظ تاريخهم وأيامهم ، ومسيرة حياتهم .

**********

والحديث عن " البطولة والأبطال في " ديوان الشعر العربي " يدفعنا إلى التساؤل : هل تتحقق البطولة للبطل بقوة السلاح الذي يحمله ؟ إن الجواب نجده في يقول الشاعر :

إن السلاح جميع الناس تحمله        وليس يثبت إلا في يديْ بطلِ

ونتساءل مرة ثانية : هل كل من حقق نصرا يعد بطلا جديرا بالبطولة ؟ إن الشاعر الفارس سعد ابن أحمد القيرواني يطل علينا من ديوان العرب ، ويجيبنا على سؤالنا بعد أن أحرز النصر على أعدائه فيقول :

قالوا : "انتصرت هنيئا " قلت " ويحكمو          إن  انتصاري  عليهم   لا يشرفني

فليس   بالنصر   نصر   الأسد  ضاريةً           على الكلاب وسربِ الأضبع النتن

**********

إن البطولة في أصلها اللغوي تعني بصفة أساسية ، الشجاعة والاستبسال ، وقيل ما وصف بها الرجل إلا لأنه " يبطل" حياة أعدائه عند ملاقاته ، أو لأنه يواجه الخطوب والعظائم بقوة ، فيبطل آثارها ، واتسع مفهوم البطولة ليصبح صفة إنسانية جامعة للشجاعة والقوة والنجدة والصبر عند اللقاء .

  فمن بطولة القوة ما قاله بكر بن النطاح فى أبي دلف :

  قالوا " وينظم فارسين بطعنة            يوم   للقاء ولا يراه جليلا "

لاتعجبوا .  لو  كان   مد قناته            ميلا إذن نظم الفوارس ميلا

 ولا شك أن إحراز النصر مظهر من مظاهر البطولة ، ولكن بشرط أن تكون الغلبة على عدو قوي فيه الأبطال والشجعان الصناديد ، وصورة هذا النصر يعرضها المتنبي في أبياته التالية التي يخاطب بها سيف الدولة ، بعد أن كسر أعداءه ، وهزمهم هزيمة ساحقة في موقعة " قلعة الحدث " يقول المتنبي :

وقفت وما فى الموت شك لواقف                    كأنك في عين الردى وهونائم

تمر  بك  الأبطال  كلمي  هزيمة                   و ووجهك وضاح وثغرك باسم

وزيادة على القوة والشجاعة ، لابد أن يتصف البطل الحقيقي بقوة الشخصية التي تجعل له الهيمنة على النفوس والقلوب ، وكذلك بالرأي الثاقب ، والحلم الثابت ، والطمأنينة الدائمة ، وكل أولئك يراه المتنبي في أبي العشائر الحسن بن علي العدوي . فهو :

طاعن الطعنة التي تطعن iiالفيـ
ضارب  الهام في الغبار iiوماير
هـمه  في ذوي الأسنة لا iiقيـ
ثاقب الرأي ، ثابت الحلم لايقـ



لـق بـالـذعر والدم iiالمهراق
هب  أن يشرب الذي هو iiساقي
هـا  ، وأطـرافها له iiكالنطاق
در  أمـر لـه عـلـى iiإقلاق

 ويستوفي البحتري الجانب الأخلاقي فى صورة البطل العربي ، ويجعل له الحظ الأوفى في ملامح هذه الصورة ، وذلك في حديثه عن أبي نهشل محمد بن حميد الطوسي وعشيرته . يقول البحتري ::

إلى  فتى مشرق الأخلاق iiلوسبكت
يُـمضي  المنايا دراكا ، ثم iiيتبعها
بـنـو حـميد أناس في iiسيوفهمو
لـهـم عـزائم رأي لورميت iiبها
بيض الوجوه مع الأخلاق وجْدهمو




أخـلاقه  من شعاع الشمس لم تزد
بـيض  العطايا ولم يوعد ولم iiيعد
عـز  الذليل وحتف الفارس iiالنجد
عـنـد الـهياج نجوم الليل لم تقد
بـالـبأس والجود وجد الأم iiبالولد

ومما يرسخ طوابع البطولة : طول الممارسة والخبرة والتجارب . وفي ذلك يقول أبو تمام :

ملك  تضىء  المكرمات  إذ ابدا             للملك   منه    غرة  وجبين

ساس الأمور سياسة ابن تجارب             رمقته عين الملك وهو جنين

**********

ونلاحظ ظاهرة فكرية مطردة خلاصتها : أن الشاعر العربي وهو يرسم أبعاد شخصية البطل كان يجمع بين وصفه بالشجاعة الفائقة والكرم الفياض ، كما نرى فى قول الشاعر .

قوم إذا اقتحموا العجاج iiرأيتهم
لا يـعدلون برفدهم عن iiسائل
واذا الـصريخ دعاهمو iiلملحَّة


شمسا  ، وخلت وجوهم iiأقمارا
عدل  الزمان عليهمو او iiجارا
بذلوا النفوس وفارقوا الاعمارا

وقد يرجع هذا الجمع بين الكرم وبين الشجاعة وبذل النفس أن كليهما عطاء : الأول عطاء مال ، والثاني جود بالنفس ، على حد قول الشاعر :

ولولم يكن في كفه غير روحه          لجاد بها . فليتق الله سائله

**********

وكانت روح الدين وراء ظهور عدد من أبطال المسلمين شدوا أنظار العالم ، ودخلوا التاريخ من أوسع أبوابه : كخالد بن الوليد ، وسعد بن أبي وقاص ، والمثنى الشيباني والقعقاع ابن عمرو التميمي ، وكان من الطبيعي أن تظهر بصمات الإسلام على شعر البطولة أو شعر الجهاد ، كما نرى في الرجز التالي لخالد بن الوليد :

لا ترعبونا بالسيوف  المبرقة             إن السهام بالردى مفوقه

والحرب دونها العقال مطلقة             وخالد من دينه على ثقة

ولكن التاريخ يحدثنا أن البطولة لم تكن مقصورة على الرجال ، ففي تاريخنا الإسلامي نساء مجاهدات أبدين شجاعة فائقة في القتال ، من أشهرهن نسيبة بنت كعب الأنصارية .

وتسرع الخطو في ديوان العرب لنرى أمير الشعراء أحمد شوقي في مطولته ( صدى الحرب) التي يصور فيها انتصار الأتراك في الوقائع العثمانية اليونانية يتحدث عن البطلة التركية زينب التي تطوعت واشتركت في القتال ، وأظهرت شجاعة فائقة ، يقول شوقي:

ومـا  راعـنـي إلا لواء iiمخضب
فـقلت من الحامي ؟ أليث غضنفر
أم  الـمـلك الغازي المجاهد قد iiبدا
رفعت  بنات الترك . قالت وهل بنا
إذا  ما الديار استصرخت بدرت iiلها




هـنـالـك  يـحميه بنان iiمخضب
من الترك ضارٍ ، أم غزال مريب ؟
أم  النجم فى الآرام أم أنت زينب ii؟
بنات  الضواري أن نصول iiتعجب؟
كـرائـم مـنـا بـالـقـنا iiتتنقب

 **********

لقد طال بنا المسار مع أبطال الحرب فهل خلا " ديوان العرب " من ذكر " أبطال السلام"؟

ونقول : بل أشرقت فيه صور زاهية لهذا الصنف من الأبطال ، ولعل أشهرهم اثنان : الحارث بن عوف .وهرم بن سنان اللذان سعيا بالصلح بين عبس وذبيان ، وتحملا ديات القتلى في معارك " داحس والغبراء " حتى استقر السلام بين القبيلتين . وفي هذين البطلين يقول زهير بن أبي سلمى :

سسعى ساعيا غيظ بن مرة بعدما
فأقسمت بالبيت الذي طاف iiحوله
يـمـيـنا  لنعم السيدان iiوجدتما
تـداركـتما  عبسا وذبيان iiبعدما
وقـد قلتما إن ندرك السلم واسعا




تـبـزل  ما بين العشيرة iiبالدم
رجـال  بنوه من قريش وجرهم
على  كل حال من سحيل iiومبرم
تـفانوا  ودقوا بينهم عطر iiمنشم
بـمال ومعروف من الأمر iiنسلم

 **********

(2)

هذا وقد آن لنا أن نعيش صورة البطولة والأبطال فى مراثي الشعراء ، لنرى عمق الأثر الذي تركه هؤلاء الأبطال بعد أن انتقلوا إلى الرفيق الأعلى .

وأبرز ما يقابلنا من المعاني الشامخة في رثاء البطال : هو سمو الهدف الذي من أجله خاضوا غمار الحرب ، وضحوا بأنفسهم في لظاها ، وهو إيثار موتة الكرامة والعزة على حياة الخنا والمذلة ، كما نرى فى قول أبي تمام في جعفر الطائي "

رحـم الله جـعـفرا فلقد كا
مَثل الموت بين عينيه والذل
ثـم سـارت به الحمية قدما


ن  أبيا ، وكان شهما iiرحيما
فـكـلا رآه خـطبا iiعظيما
فـأمـات العدا ومات iiكريما

ويبسط البحتري الفكرة ذاتها ، فيقول في رثاء بني حميد الطوسي :

قـضوا  يستلذون المنايا iiحفيظة
ومـا طـعنوا إلا برمح iiموصل
ولـمـا  رأوا بعض الحياة iiمذلة
أبوا أن يذوقوا العيش والذم طالع
وكـلـهـمو  أفضى إليه iiحِمامُه
حتوف  أصابتها الحتوف iiوأسهم





وحـفـظـا لذاك السؤدد iiالمتقدم
ولا ضـربـوا إلا بـسيف iiمثلم
عليهم ، وعز الموت غير iiمحرم
عـلـيـه ، وماتوا ميتة لم iiتذمم
أمـيرا على تدبير جيش iiعرمرم
من الموت كر الموت فيها iiبأسهم

***********

وفي ديوان العرب تبرز قيمة البطل الصريع ، والفراغ الهائل الذي خلفه وراءه . لأنه بشجاعته وأمجاده لم يكن فردا ، ولكن كان – من نفسه الكبيرة  أمة وحشدا .

يقول أبو تمام في رثاء خالد بن زيد الشيباني :

كـأنـا فـقـدنـا ألـف ألف مدجج
فـيـا وحـشـة الدنيا وكانت iiأنيسة
مضت خيلاء الخيل وانصرف الردي


عـلـى ألـف ألـف مقرب لامباعد
ووحـدة  مـن فـيها بمصرع iiواحد
بـأنـفـس  نـفـس من فقيد iiووالد

 ويلح أبو تمام على المعنى نفسه في رثاء الإخوة الثلاثة من بني حميد الطوسي فيقول: لعمرك : ما كانوا ثلاثة إخوة ولكنهم كانوا ثلاث قبائل

**********

ومن أشهر قصائد الرثاء في الشعر العربي كله قصيدة أبي تمام التي يرثى فيها البطل الشهيد " محمد بن حميد الطوسي " وفيها يصور أثر موته في الناس ، كما يبرز ما كان يتحلى به من شجاعة وقوة وثبات وتضحية وكرم . ومن هذه القصيدة نقتطف الأبيات التالية:

كـذا  فـلـيجل الخطب وليفدح iiالأمر
تـوفـيـت  الآمـال بـعـد iiمـحمد
فـتـى  كـلـمـا فاضت عيون iiقبيلة
فـتـى دهـره شـطـران فيما iiينوبه
فـتى  مات بين الطعن والضرب iiميتة
ومـا  مـات حتى مات مضرب iiسيفه
وقـد  كـان فـوت الموت سهلا iiفرده






فـلـيـس لـعين لم يفض ماؤها iiعذر
وأصـبـح  في شغل عن السفر iiالسفر
دمـا  ضـحكت عنه الأحاديث iiوالذكر
فـفـي  بأسه شطر ، وفي جوده iiشطر
تـقـوم  مـقام النصر إن فاته iiالنصر
من الضرب ، واعتلت عليه القنا السمر
إلـيـه الـحـفاظ المر والخلق iiالوعر

 وفي سنة1937 نرى الشاعر " عمر أبا ريشة " يرثي المجاهد الشهيد سعيد العاصي بقصيدة رائعة يقول فيها .

يـاشهيد  الجهاد ياصرخة iiالهو
كـلـمـا لاح لـلكفاح صريخ
تـحمل  الحملة القوية iiوالإيمـ
فـكـأن الـحياة لم تلق iiفيها..
هـبـة  في يديك كانت ii..ولما




ل إذا الخيل حمحمت في الساح
صـحت لبيك ياصريخ iiالكفاح
ان  أقـوى فـي قلبك iiالمفراح
مـا  يـروي تـعطش iiالملتاح
راقـهـا الـمجد عفتها iiبسماح

وعلينا جميعا أن نذكر بالفخر شهيد المسلمين والعرب البطل الليبي عمر المختار ، الذي ظل يقاتل جيوش العدوان الإيطالي سنوات طوالا ، دفاعا عن دينه ووطنه ، وأبى في عزة وكرامة كل المغريات التي عرضوها عليه ليلقي سلاحه . وعلى جوع وعطش ظل هو ومن معه يقاتلونهم بعد أن نفد ماؤهم وطعامهم ، وفي أحدى المواجهات سقط البطل المجاهد في يد الطليان بعد أن كبا به جواده ، فأعدموه شنقا سنة 1931 . وقد نظم أحمد شوقي قصيدة طويلة يبرز فيها بطولة القائد المجاهد الشهيد ، ويحمل فيها على المستعمرين أدعياء الحضارة والتقدم. وفي هذه القصيدة يقول شوقي :

ركـزوا رفـاتـك في الرمال iiلواء
يـاويـحـهم  نصبوا منارا من iiدم
جـرح  يصبح على المدى وضحية
خيرت فاخترت المبيت على الطوى
إن  الـبـطولة أن تموت من الظما




يـسـتـنهض الوادي صباح iiمساءَ
يـوحـي إلـى جيل الغد iiالبغضاء
تـتـلـمـس  الـحـرية الحمراء
لـم تـبـن جـاهـا أو تـلم ثراء
لـيـس الـبـطولة أن تعب iiالماء

ومن حقنا أن نسأل : هل كان رثاء الأبطال مقصورا على الشعراء من الرجال ؟ إن ديوان العرب يقول بل هناك من الشواعر من لهن حظ كبير فى هذا المجال . منهن : جليلة بنت مرة ، والخرنق بنت بدر بن هفان ، أخت طرفة بن العبد . ولكن أشهرهن على الإطلاق : الخنساء التى خلدت بطولة أخيها صخر بدموعها وقصائدها ، ومما قالت فيه:

وإن صخرا لمولانا وسيدنا            وإن صخرا إذا نشتو لنحار

وإن صخرا لتأتم الهداة به            كأنه    علم  في رأسه  نار

 **********

 حقا ... إن" الشعر ديوان العرب " . ولا مبالغة في ذلك : فالشعر هو الذي حفظ تاريخهم وأيامهم ، ومسيرة حياتهم ، في السراء والضراء ، والمنشط والمكره ، والسلم والحرب. وما اقتطفناه من روضته عن " البطولة والأبطال " يعدقليلا مما زخر به ديوان العرب من فرائد في هذا الموضوع .