صلاح فضل و التحولات الشعرية مسبقة الصنع

صلاح فضل و التحولات الشعرية مسبقة الصنع

د. حمزة رستناوي

مثلما يغرق الطوفان ما قبله, أغرق طوفان القرن العشرين ما قبله من التاريخ الشعري.

ابتداءً بحركة الإحياء التي شرعها البارودي , وانتهاءً بحداثة مجلة شعر و بداية قصيدة النثر مروراً بشوقي و رومانسية جبران المتكسرة و مدرسة الديوان و أبولو

 و ثورة شعراء التفعيلة .

يلاحظ صلاح فضل القضايا التالية في رصده  للحركة الشعرية في القرن العشرين

1- بطء الملاحقة التعليمية في المناهج المدرسية لحركة التجديد الشعري حيث يتوقف معظمها أمام الفترة الإحيائية عند منتصف القرن و لا تعترف على الإطلاق بالحداثة و قصيدة النثر.

2- الموقف الإعلامي الذي يضاعف الالتباس و التشتت من خلال النظر إلى القضية على أنها حروب شعرية, و ليست اتجاهات قابلة للتعايش.

3- كثرة اختراق النماذج الأجنبية للشعر العربي دون تمثل ناضج لها, حيث تبدو كأنها ترجمات ركيكة لأشعار قادمة من قارات أخرى.

و يأخذ صلاح فضل كذلك استقلال الشعراء عن الوظيفة الخطابية و التحول باتجاه الباطنية و الداخل . و كذلك يرصد ابتعاد الشعر عن دوائر السلطة , و ممارسة التعبير عن المنظور الفردي للحياة.

- و يتوقف صلاح فضل عند ظاهرة المسرح الشعري , الذي نمى بفعل التواصل مع الآداب العالمية , ابتدءاً من شوقي و عزيز أباظة إلى صلاح عبد الصبور ولكن اعتماد المسرح على ثقافة ديمقراطية , لم يلبث أن حدّ من هذا التيار و جمّدته .

- كذلك دخول أجناس أخرى كالقصة و الرواية في حركة تنافسية مع الشعر حيث أغرى ذلك العديد من الشعراء بالتحول إلى كتابة الرواية مثل الشاعر إبراهيم نصر الله , و إن دخول الثقافة البصرية بشكل كاسح و مثير أدى إلى تحويل الأضواء عن الشعر بمقدار ما فتح أبواباً سحرية للشهرة من خلال الشعر الغنائي , و يشير صلاح فضل إلى عشرات الكتاب المتواضعين قدراً, ربحوا مادياً و إعلامياً بشكل لا يتناسب مع إبداعهم القاصر .

 إن حلم الحداثة لم يتحقق في تيار واحد, و لا مرة واحدة , بل غزى الشعر العربي بموجات متلاحقة , انبعثت من مراكزه الكبرى في العراق و الشام و مصر قبل أن تنداح إلى مختلف أرجاءه.

و بعد أن ينتهي صلاح فضل من هذا العرض الموجز لمسيرة الشعر العربي الحديث , يتوقف عند أربع نقاط , يعتقد أنها مأزق الحداثة الشعرية اليوم .

أولاً : تسارع إيقاع التحولات الشعرية , بحيث سبقت الجمهور بمراحل عدة , مما أدى إلى حدوث قطيعة حادة بينها و بين عامة القراء .

ثانياً : التنازل عن الوظائف الشعرية القريبة للمجتمع خاصة الإعلامية و التربوية التواصلية , بحيث لم يبقى للحداثة سوى مسؤولياتها في تجديد اللغة , و تنمية طاقاتها التعبيرية , و هي وظائف لا تشغل عدداً كبيراً من الناس اليوم .

ثالثاً : الانقطاع التام عن البنية العمودية , بالانقلاب إلى قصيدة النثر و لكن قصيدة النثر لا تصلح أن تكون بديلاً تاماً عن الشعر العربي بمختلف تنوعاته و درجاته .

رابعاً : بمقدار ما كان القرن العشرين العصر الذهبي للشعر العربي بعد العصر العباسي , بمقدار ما آل المشهد الشعري في نهاية القرن إلى الصناعة .

و في نهاية المقدمة يطالب صلاح فضل المبدعين و النقاد , باجتراح مسالك جديدة و جريئة في فتح قنوات تواصل جمالي مع الجمهور لان الشعر بمثابة شفرة وراثية للروح العربية في القرن العشرين .

و سألجأ الآن إلى عرض بيلوغرافي لمقالات الكتاب , للوقوف أمام المحطات التي يصفها صلاح فضل كتحولات في مسير الشعرية العربية :

-         التحولات المبكرة : ارتحالات شوقي – رؤية العيد بين المتنبي و شوقي.

-         تحولات منتصف القرن : ضمير الأنثى في شعر نزار قباني و مديح النساء .

-         إستراتيجية الخطاب الشعري عند خليل حاوي " لبنان " .

-         شعرية الوطن : عبدالوهاب البياتي " العراق" .

-         شعرية محمد الفايز "الكويت "

-         الخطاب القومي في الشعر الأردني المعاصر : عبدالرحيم عمر – عزالدين المناصره – إبراهيم نصر الله .

-         شعرية القرشي , عاشق النيل " السعودية "

-         التحولات الراهنة : عبدالعزيز المقالح في كتاب صنعاء " اليمن"

-         كمال نشأت و رومانسية نهاية القرن " مصر " .

-         أصوات التراث في نبرات اليوم : محمد إبراهيم أبو سنة " مصر " .

-         اكتشاف شعرية الحياة : إبراهيم نصر الله يكتب باسم الأم و الابن .

-         أراهن على هذا الشاعر : أحمد بخيب " مصر " .

-         عندما يتدفق الشعر بشراهة : شريف الشافعي  "مصر"        .

-         شعرية فرسان الثغر : فوزي خضر – أحمد فضل  شبلول – صلاح اللقاني – د. فوزي عيسى " مصر – الإسكندرية " .

-         عالية شعيب و محاكمة الشعر " الكويت " .

-         موسى حوامده في  شجري أعلى" الأردن " .

سأبدءا من العنوان " تحولات الشعرية العربية " , و أتوقف عند كلمة "تحولات" إن هذه الكلمة تعني وقائع أو مجموعة أحداث من الوزن الثقيل , تستوقف الإنسان بحيث ينظر لها كتحولات , و لكن هل التحولات هي الشئ الذي و قع من أحداث بالفعل على ارض القصيدة العربية , أم أن التحولات تنمو في عالم الغيب , و تنتمي للفردوس المستحيل , فالوقائع لا توجد خارج الذهن , و لكن الذي يوجد فقط تعليقنا و وجهة نظرنا تجاه هذه الوقائع .

يقول صلاح فضل إن هناك تحولات شعرية , و لكنه لا يستند في كتابه إلى نماذج تطبيقية مناسبة لما يصرح به في مقدمة الكتاب , فلابد من وجود معيار لدراسة التجارب الشعرية و إلا فكيف نميز بين شاعر قوي جدير بالدراسة و النقد , و شاعر ضعيف لا يصلح  لان يكون موضوعاً للدراسة في كتاب يتحدث عن " تحولات الشعرية العربية " .

بغض  النظر عن الموقف الفكري , و الأسلوب الذي يستخدمه الشاعر , يجب أن نبحث عن الجديد الذي يطرحه الشاعر , و مدى الخصوبة التي يتمتع بها النص الشعري المعادل , فالشاعر القوي هو الشاعر الذي يفرض نفسه و يوقف الزمن بغض النظر عن المساعدات الخارجية التي يتلقاها , فالشعراء كالدول يتساوون في ذلك فالمساعدات تدمر الاقتصاد الوطني , و كذلك المساعدات النقدية و الاحتفالية و التسمين الجائر يدمر الشاعر .

سأتوقف عند عدد من التحولات التي يقترحها صلاح فضل

-شعرية فرسان الثغر

لا يقدم صلاح فضل في مقالته شعرية فرسان الثغر مبرر مقنع لان يدخل هؤلاء الشعراء الشباب – وليس في ذلك انتقاصاً من مقولة الشاعر الشاب – في دائرة التحولات الخاصة بالشعرية العربية , بل إن الأمر على عكس ما نتوقع , فالملتقى الذي احتفل بالشعراء الأربعة في الإسكندرية هو الذي دعاه للتعليق على هذه التجارب , فناقدنا لم يقم بفعل الاختيار , رغم أن العنوان" تحولات الشعرية العربية"

يفترض القيام بمسح شامل للمشهد الشعري العربي من المحيط إلى الخليج للوقوف عند منجزات الربع الأخير من القرن العشرين على الصعيد الشعري , حيث يحصل صلاح فضل على أسوء اختياراته عندما يتناول هذه الفترة بالدراسة .

في مقدمة الكتاب يشبه صلاح فضل القرن العشرين بطوفان نوح الذي أغرق ما قبله و هذا كلام مفيد , يحتمل الحقيقة إلى حد بعيد , و محطاته الأولى في قطار التحولات

قد تكون موفّقة  " شوقي – نزار قباني – البياتي – خليل حاوي" و لكن مع تقدم القطار يميل المشهد الشعري إلى الضبابية من خلال المزاجية و القصدية التي لا تخفي نفسها.

 في بدابة مقالته " شعرية فرسان الثغر " يقول أنهم أربعة فرسان كبار من شعراء الإسكندرية , و بعد عدة اسطر يجعلهم من ابرز الشعراء المصريين و أكثرهم خصوبة و ثراء في الفضاء الإبداعي  للثغر المصري , و يختار صلاح فضل المجموعة الأخيرة لكل واحد منهم " حتى يشير إلى النقطة التي وصل إليها "

فالشاعر الأول : فوزي خضر  في ديوانه " من سيرة الجواد المعاند" هو الذي فرض نفسه على الصورة " لوعيه الشديد إلى درجة الهوس بفكرة التسابق الشعري و تمثله العميق لمسيرة الزمن , و حرصه المفرط على التقدم حتى لا يضيع معنى اسمه في الفوز .....و النجاح المدوّي"

إن مفهوم التجاوز و فق صلاح فضل هنا لا يعني تجاوز الشاعر لذاته بغية دخوله إلى عوالم شعرية جديدة , فمفهوم التجاوز هنا يقترن بالتسابق الذي يفيد المفاضلة بين الشعراء الآخرين  و ليس تجاوز الذات, خاصةً إننا نجهل السيرة الذاتية الشعرية للشاعر فوزي خضر , فكل ما لدينا هو مجموعة شعرية وحيده .

إن التنافس محرك إبداعي يشترك فيه الشعراء جميعاً , فهم في سباق عنيف , يؤرقهم الموت العضوي , فيستعصمون بالموت الذي يأتي ولا يأتي , يستعصمون بالوجود , و رغم احترامي للشاعر فوزي خضر أجدني مستجراً لمقارنته مع محمود درويش , و ذلك من وجهة نظر محددة فقط , هي التي يركز عليها صلاح فضل ,  لقد قدم درويش تجربة غنية و ثرية تمتد على نحو نصف قرن , و شهدت هذه التجربة تحولات عنيفة , و اتسمت بقدرة هائلة على التجاوز تراوحت بين تقمص الوطن الضائع في بداياته ثم النفي الطوعي للذات الشاعرة خارج الوطن و انتهاءً بمحاورة الآخر ذي الفضاء المشترك و المختلف فيه و كذلك الإحساس الفجائعي بالموت

 " جدارية محمود درويش" فدرويش تجاوز نفسه مراراً , و تجاوز زملائه " شعراء الأرض المحتلة " و مع ذلك صلاح فضل لا يذكر محمود درويش و تجربته الفذة في التجاوز , آلا يستحق درويش أن تخصص له محطة في قطار التحولات ؟!

آلا يستحق مقالة واحدة ؟!

 رغم  وجود عشرون محطة في قطار " تحولات الشعرية العربية "

الشاعر الثاني : أحمد فضل شبلول في ديوانه " الطائر و الشباك المفتوح" إنه شاعر يعنى باستحضار روح الأب " فالطائر يرمز إلى روح الأسلاف التي يدين لها الشاعر بالحب و الولاء كما تتجسد في أبيه على وجه التحديد " إنه شاعر مختص ببر الوالدين و الإحسان الشعري " لا يلبث في نهاية المطاف أن يصبح شعوراً حاداً يملك على الشاعر أقطار نفسه بأنه لا يزال محاطاً به من كل ناحية"

أنت معي لا زلت

تحاول تخفيض الأسعار

و إيقاف نزيف الدم

مازلت تحاول

تحرير النفس من النفس

و تقويض الظلم

أنت معي

 مازلت تحاول

رفع الأنقاض عن الوجه البشري

و أنا ...

مازلت أحاول ترتيب العالم

داخل شعري ... بعد

رحيلك "

بين تخفيض الأسعار , و إيقاف نزيف الدم , و تقويض الظلم , و رفع الأنقاض عن الوجه البشري يموت الأب و الشعر و يبقى أحمد خضر شبلول  هذا الشاعر المجرد من الشعر في قصيدته المظلمة يحاول استحضار الأرواح الميتة
أن الذي يدافع عن القضايا العادلة و يدعو الناس  إلى الأخلاق الحميدة ليس بالضرورة شاعر جيد , و لكن الشاعر الجيد هو الذي يكتب القصيدة و فق لغة و أسلوب و إحساس جديد و مبتكر .

صلاح فضل يلوم الشاعر على حسيته المفرطة , و يكتفي بعتابه , دون المغامرة بطرده خارج ملكوته النقدي الذي يختص بالنجوم و التحولات العظيمة في عالم الشعر العربي . فالأب البار لا ينجب سوى الأبناء البررة و سأعود إلى درويش في مجموعته " لماذا تركت الحصان وحيداً" و تحديداً في قصيدته " كم مره ينتهي أمرنا"  عسى أن نتذكر الجديد الذي طرحه درويش في العلاقة بين الأب الضائع  والابن الحاضر الذي يتورط في أسئلة مستحيلة حيث تتداعى إلى قاعنا السيرة الذاتية لدرويش المتقمص تاريخ النزوح الجماعي مازجاً ذكريات الحنين بالواقع الذي لا ينتهي .

هل تكلّمني يا أبي ؟

- عقدوا هدنة في جزيرة رودس

يا ابني !

- و ما شأننا نحن ,  ما شأننا يا أبي ؟

- و انتهى الأمر..

- كم مرة ينتهي أمرنا يا أبي ؟

- انتهى الأمر . قاموا بواجبهم:

حاربوا ببنادق مكسورة طائرات العدو.

و قمنا بواجبنا , و ابتعدنا عن الزنزلخت

لئلا نحرك قبعة القائد العسكري .

و بعنا خواتم زوجاتنا ليصيدوا العصافير

يا ولدي !

الشاعر الثالث : من فرسان الثغر هو صلاح اللقاني الذي يصفه الدكتور فضل بأنه " يمعن في استقراء العناصر الموروثة و إنطاقها بدلالات جديدة مثقفة " و ذلك في ديوانه قبل الأخير " ضل من غوى و سر من رأى "

أما ديوانه الأخير " تاسوعات " فهو يتسم بطابع تجريدي مغرق في توظيفه للأساطير و الموروثات القديمة و هو يستخدم شكل قصيدة النثر في مجمله لهذه الأسباب قام صلاح فضل باستبعاد دراسة هذا الديوان و اختيار ديوانه قبل الأخير

 " ضل من غوى و سر من رأى " لأنه على حد قوله "أكثر تمثلاً لما أحب أن أبرزه من شعريته " و كذلك يقول فضل " مازلت لا افهم جيداً لماذا يتخلى الشعراء المتمكنون من توظيف الأبنية الموسيقية في التعبير القوي عن تجاربهم عن هذا الشكل و يعمدون إلى تعطيل طاقاتهم قصداً"

على كل حال سأعود لمناقشة هذه القضية عند كلامي عن شريف الشافعي و مغامراته الشعرية .

الشاعر الرابع : من الفرسان فهو د.فوزي عيسى الذي يتميز ديوانه الأخير " ثقوب في ذاكرة النهر " بالنضج و العراقة و القدرة على التواصل الجمالي مع قرائه..." فهو من أنصار المدرسة التعبيرية التي تتميز بحضورها الشعري

الواضح ," انه شاعر لا يراهن لا يراوغ يقولها بشكل صريح مباشر "

" يصل في أسلوب التعبير إلى مداه من استثمار الإيقاع المضبوط و إبراز للصورة الجليلة , و إحكام للبنية النصية . و هو يقول أشياء بالغة الخطورة و الأهمية  مثل قصيدته عن مدن الملح"

هذي مدن   

لا تعرف من كل الأطيار

سوى الغربانْ

لا تعرف غير اللون الأسود

من كل الألوانْ

لون وجوه الناس

جلاليب النسوة

إسفلت الشارع

لون النفط

قلوب القوم أحاديث الكهانْ

حتى ما يلفظه البحر هنالك من مرجانْ

إنها قصيدة من مئات القصائد التي تصنف في باب " هجائيات النفط "

ما يلاحظ في هذه القصيدة

أولاً : الرؤية الأحادية تجاه الأخر "هجاء "

ثانياً : انسجام الرؤية مع اللغة المستخدمة " غربان-الأسود-جلاليب-إسفلت-كهان-النفط" دون أي انزياح أو قلقلة جمالية

ثالثاً : إحكام البنية الإيقاعية للقصيدة و للمناسبة فان معظم هجائيات النفط عند شعراء من أمثال " نزار قباني-مظفر النواب- أحمد مطر"  تستخدم البحر المتدارك و قافية النون .

وهذه النقاط الثلاثة التي ذكرتَها عند الشاعر فوزي عيسى لا تحتمل أي خصوصية بل هي السمة المشتركة لما دعي " بهجائيات النفط" فهذه القصيدة تكاد تكون نزاريةً بالشكل و المضمون .أين النضج في هذه القصيدة؟!

و أين الأشياء بالغة الخطورة و الأهمية التي تقولها ؟!

إنها قصيدة جميلة و فق مقاييس القارئ العادي و لا تحتمل غير ذلك , و ليس هناك من جديد تقوله هذه القصيدة إنها تكرر ما قيل و يقال ابتداءً من عنوانها

" مدن الملح " عنوان الرواية الشهيرة لعبد الرحمن منيف و مروراً بالخيال و الصورة الشعرية " هذي مدن لا تعرف من كل الأطيار سوى الغربان " و كذلك الإيقاع الموسيقي و انتهاءً بالرؤية المبسطة و الأحادية التي لا تكلف نفسها عنا البحث فتكتفي بالوصف .

يتفوق النواب عن بقية الهجائيين " نزار قباني – أحمد مطر -  فوزي عيسى و غيرهم ..." بان القصيدة تنضح بالحزن الطاغي النابع من جب الأنا المتشظي  فالقصيدة عند النواب يختلط فيها الاضطهاد بالخواء و الشبق الجنسي ضمن إطار من التأملات الذاتية و البنية القمعية , فالقصيدة القمعية انعكاس للمجتمع الأبوي القمعي

و لعل مظفر النواب خير من يمثل ذلك .فالمسكوت عنه دائماً حاضر, و مظفر النواب  الذي لم يذكر و لو بكلمة واحدة في كتاب التحولات يستحق التفاتة قصيرة أو طويلة لا يهم , و لكن لا يجوز السكوت عن ظاهرة بحجم مظفر النواب .

إن مقالة صلاح فضل " شعرية فرسان الثغر " مناسبة للنشر في الصفحة الثقافية لجريدة يومية أو مجلة ثقافية أو في كتاب " تحولات الشعرية المصرية " ولكن إقحام هؤلاء الشعراء في كتاب يتحدث عن تحولات الشعرية العربية هو انتقاص من شأنهم

إن صلاح فضل وقع ضحية العنوان , هذا العنوان الذي يفرض عليه حد أدنى من الالتزام بنوعية النصوص و حد أدنى في اختيار التجارب الشعرية بحيث تكون هذه التجارب هامة و مؤثرة و بالتالي تشكل تحولاً .

إن أي نص شعري قابل للدراسة من حيث البنية أو المضمون , و بالتأكيد قد يحوي جماليات  معينة , فالجمال هو القاعدة في الشعر , و بالتالي التبرير الجمالي الذي يلجأ إليه صلاح فضل في اختياراته لا يعني عكس هذا .

فالنصوص التي يختارها صلاح فضل تتراوح بين أعمال عادية لا تكاد تعد نصوصاً لهشاشيتها , و بين نصوص هي من روائع الشعر العربي المعاصر و تشكل منعطف نقدي حقيقي " قصيدة ما بعد الجليد لخليل حاوي – يوميات امرأة لا مبالية لنزار قباني – كتاب صنعاء لعبدالعزيز المقالح – باجس أبو عطوان يزرع أشجار العنب لعزالدين المناصرة –

 باسم الأم و الابن  لإبراهيم نصر الله – الألوان ترتعد بشراهة لشريف الشافعي ..."

لا يختار صلاح فضل بفعل السلطة التي يمارسها النص عليه , و لكنه يختار بفعل  السلطة التي يمارسها الآخر في صيغته الرمزية و المادية و العصبية .

فكم كبير من اختيارات صلاح فضل هي نصوص تعيد الواقع وفق صيغة المحاكاة  فتتلبسه معايير الجمال التقليدية حتى أخمص قدميه , من خلال العناية الفائقة بالوزن و الوضوح و التواصل و الحكمة ... لذلك يقع على تجارب لا تحتمل الاستمرارية

و لكنه يحاول أن ينفخ فيها الحياة عسى أن تعود وسأتكلم عن مقالة" شعرية القرشي : شاعر النيل" نموذجاً لذلك .

شعرية القرشي "عاشق النيل "

" للشاعر السعودي الكبير حسن عبد الله القرشي ، عدد كبير من القصائد في حب مصر و التغني بنيلها ، يستحق بها درجه عالية من المواطنة بيننا إلى جانب مقامه شبه الدائم ، و مشاركته المتجددة في الأنشطة المجمعية و الثقافية العربية في مصر "

هكذا يقدم صلاح فضل الشاعر حسن القرشي ، و هو بذلك يكشف دفعة و احده عن دواعي اختياره " حب مصر و هو يستحق المواطنة " هذا أمر مقبول و قد يكون مستحسناً و لكن في مقام أخر, عندما نتكلم عن الانتماء عند الشاعر و تجاوزه للعنصرية و العرقية .

يطرح صلاح فضل قضية هامه ، عندما يتساءل عن اندثار الشكل الخليلي في الشعر المعاصر و يقدم حسن القرشي كاختراق مهم ,على كل حال هناك نماذج عموديه لا تقل أهمية عن القرشي و قد تتفوق عليه كالجواهري و عرار و البردوني  و بدوي الجبل و عندما نذكر هؤلاء عندها لا بأس من ذكر القرشي .

إن هذا يكشف عن الحجم المروع للمسكوت عنه في خطاب صلاح فضل النقدي ، إنه خطاب متحيز إلى حد كبير ، فلو أن حسن القرشي تغني بحب بلاد الشام و عشقها هل سيكون ضمن اختيارات فضل في كتاب التحولات .

أتفق مع فضل بأن وجود أشكال شعرية جديدة ,لا يعني القضاء على النمط العمودي في الشعر ، فالعالم الشعري يحتمل التجاور و الاختلاف , و إن اعتماد القرشي على بحور الخليل له ما يبرره – في شروط التجربة الخاصة به – فقصائد القرشي هي من النمط الغنائي ، و تتقرب من الخطابية .

يذكر صلاح فضل وظيفتين جماليتين في شعرية القريش هما

 1 –  تجسيد سلاله الروح الثقافية و شعرية العشق " حيث يشكو صباباته إلى النيل ، و يلبسه رداء غرامياته المرهقة بطريقة يجعله أقرب إلى مدرسة أبولو التي يعلن النقاد انتماءه إليها" إن نتاج الشاعر يرتبط إلى حد ما بالزمن الذي عاش فيه و

ما دمنا نتكلم عن الجديد و القديم فشاعرية القرشي لا تتفوق على شاعرية مدرسة أبولو ، و إن كانت تمسك بالخطوط العامة لهذه المدرسة التي لعبت دوراً هاماً في تطوير الشعر العربي في حينها من خلال تركيز شعرائها على الغنائي و الرومانسي و الوجداني .

2 – تنمية الجانب القومي " فهو يفرد للنيل قصائده عديدة ، و يتمثله ناطقاً بصوت العروبة كلها هادراً باسمها ، متجاوزاً في ذلك حساسيات السياسة "

يا مصر يا أغرودة الدنيا و ملحمة الدهور

يا مصر يا أنشودة الأكوان يا مجد العصور

يا صفحه الماضي المجيد و يا رؤى الآتي النضير

يا فرحه الأمل الشهي و نفخه الحلم المثير

نعم الدنيا تغرد ، و مصر ملحمة الدهور ، و هي أنشودة الأكوان ، وهي مجد العصور و هي صفحة الماضي المجيد ؟!

ما الجديد في هذا ؟!

لا خيال ، لا صور شعرية مبتكره ، فقط موسيقى مع قليل أو كثير من الوجدان

لا أدري ؟!

فمقياس الشعرية عند فضل هو عمق الإحساس و تحريك الوجدان , إنه ينطلق من طروحات قديمة و مستهلكه تجاوزها الزمن , كأن نقول إن الشعر من الشعور .

و نتابع مع القرشي :

كم فيك من مرح يفيض بكل ألوان الحبور

و إزاءه تلقى الحضارة في حمى العلم الوقور

جدّ الحياة و لهوها ، صنوان فيك مدى الدهور

يعلق صلاح فضل على هذه الأبيات " فإذا احتكمنا إلى الخبرة التاريخية و جدنا أن السلطان سليم الأول قد حاول نقل ألاف الصناع المصرين إلى الأستانة من رؤساء الحرف و الفنون لإحداث هذا التطعيم الحضاري بين مصر و تركيا ، لكن خبرة العصر الحديث تشير إلى أن مصر صدرت إلى وطنها العربي الكبير من الخبرات ما يضم كل ألوان الطيف ، من مقرئي القرآن الكريم و خطباء المساجد إلى أساتذة الجامعات و خبراء القانون و الهندسة و الطب و الاقتصاد ، مروراً بالصناع و الحرفيين ووصولاً إلى الراقصات و أهل الفن و حتى بنات الهوى في ما يجمع كل ألوان الطيف الذي لا تستغني عنه أية خميرة حضارية متفاعلة متجاورة خلاقه لإنسان متعدد الأبعاد و الغايات هكذا يقول القرشي  

جد الحياة و لهوها صنوان فيك مدى الدهور "

إن كل حاضره كبيره في العالم ينطبق عليها وصف صلاح فضل السابق بما فيها مصر ، و لكن مقام الكلام هو شعرية القرشي و ليس الإشادة بفضائل مصر و انجازاتها عبر التاريخ فذلك له مقام أخر .

 يتجه صلاح فضل نحو قصيدة القرشي باندفاع عاطفي ، يتجاوز فيه قضية الشعر . و يكتفي بإطلاق أحكام عامة ، دون سبر أغوار النص الشعري و تعريته . " إن هذه القطعة الفائقة تجعل القرشي من أنبل مواطني مصر و شعراء العروبة . و أعذبهم روحاً ، و هو يتغنى بنشيد مصر الكوني ، و مجدها التاريخي ، و مستقبلها النضير فهي تمثل له  أملاً شهياً ، و شاغلاً دائماً في الحلم و اليقظة "

 شريف الشافعي : الألوان ترتعد بشراهة

 " الألوان ترتعد بشراهة " قصيدة شعرية حسب ما ورد على الغلاف تستغرق ما يزيد عن الألف صفحه ، و قد يبدو مصطلح " نص شعري " أقرب إلى واقع العمل الهائل الذي يقدمه لنا شريف الشافعي .

حيث يعمل هذا الشاعر إلى توظيف كافة أشكال الكتابة المعروفة الشعرية منها : عامود – تفعيلة – نثر ، و السردية :حكاية- مسرح – سيرة ذاتية – دراما تلفزيونية  ليجعل من نصه عالماً تختلط فيه الأشكال و الموجودات لتتماهي إلى درجة الانمحاء في اللحظة الوجودية ، حيث تختلط الألوان بالأصوات بالحروف و الروائح ،لنكتشف في النهاية تشكيلاً عبثياً خصباً

-         يصف صلاح فضل هذا النص بأنه " لا يقوى على تقديم اقتراح جمالي يشكل بديل للقصيدة " " لا يستطيع القارئ المنصف أن يغفل عرامة الموهوبة الشعرية الخارقة التي يمتلكها المؤلف ، و لكنه في الآن ذاته يستشعر إحساساً واضحاً بالفقد و التبديد ، فهذا الإمكانات الحقيقية لم توظف في تخليق منظومات أو أنساق شعرية مركبه تصنع كيانها العضوي درامياً أو ملحمياً أو حتى غنائياً بما يمكن أن يمثل نقله نوعيه في الإبداع الجديد للشباب"

يلوم صلاح فضل الشاعر شريف الشافعي و كذلك الشاعر  صلاح اللقاني – الذي أشرت إلى تجربته سابقاً – على تعطيل طاقاتهم قصداً رغم امتلاكهم للتعبير القوي عن تجاربهم  أو النص الشعري .

إن قوة القصيدة أو النص الشعري لا تنبع من وضوحها و شفافيتها و كذلك لا تنبع من انتظامها و إقفالها لها في أنساق شعرية مركبه تصنع كياناً عضوياً متماسكاً ، و لكن التكثيف اللغوي و حدّيه القول و اختلافه عن الأنساق السائدة من جهه ، و اختلافه عن مجاوراته المكانية من جهة أخرى ، هي مصادر القوه في نص الشافعي

" الألوان ترتعد بشراهة "

يقوم الشافعي هنا برفض الوحدة و يعمل على زرع بؤر متعددة مختلفة يقيم حواراً بينها يصل إلى درجة القطيعة ، مما يحيلنا إلى محاولات مستمرة لا عادة الفهم من جديد ، و تفكيك البنيات القائمة . فهذا النص الشعري العرطل يشكل أرضاً بكراً للناقد التفكيكي الذي ينحدر من سلالة ما بعد الحداثة على سبيل المثال . فالناقد يتجاوزمهمة المحقق و الوصي على الشاعر و النص , و يتجاوز الحكيم الذي يسدي النصائح  إلى الشاعر , فالحقيقة لا تتطابق مع تصورنا للعالم و لكنها وليدة التجربة و المغامرة التي تتكئ على النسبي . في النص لا يوجد خطأ أو  صواب بل يوجد روابط و علاقات جديدة بين أشكال الوجود ،و علينا البحث عن ماهيتها من خلال الانخراط في التجربة الإبداعية ، فالكلام عن الترابط و الانسجام في القصيدة ، أو الحديث عن الوحدة العضوية للنص هو بمثابة اعتداء سافر على النص ، و هو فرض سلطوي بمارس عليه ، رغم أن هذا النص " الألوان ترتعد بشراهه " للشاعر المصري شريف الشافعي لا يحتمل مثل هذه السلطة .

إن رفض الوحدة العضوية للنص و الدعوة إلى الاختلاف ليس قاعدة نقدية أو شعاراً حزبياً لا يمكن مساءلته ، ولكن طبيعة و خصوصية النص هي التي تحدد الطريقة التي نتعامل بها مع النص ، لندع النص ليقدم نفسه كما يشاء و نترك القصيدة تلبس ماتشاء و تخلع ما تشاء فلا بد لها من معجبين في نهاية المطاف

حداثة مجلة شعر

إن الكلام عن تحولات الشعرية العربية يبقى ناقصاً مالم نتوقف عند حداثة مجلة شعر فلا يكفي أن نقول " إن بدايات قصيدة النثر كانت مع حداثة مجلة شعر حيث غلب الاتجاه  التجريدي في شعر أدونيس و الماغوط و عفيفي مطر و فيالق الشباب في الوطن العربي خلال العقود الماضية " " و لا يكفي أن نعتبر قصيدة النثر أقسى ضربه أصابت الشعر العربي بسبب ما أحدثته من انقطاع تام عن البنية العمودية "

و يرى صلاح فضل بأن " قصيدة النثر شكل تجريدي بديع ، و لكن لا يمكن أن تكون بديلاً تاماً عن الشعر العربي بمختلف تنوعاته و درجاته " و يرى أن هذه القطيعة عن العمود " أدت إلى عماءين عماء الإيقاع و عماء المعنى مما ترك مسافه فارغه بين الشعر والجمهور " هذا كل ما يذكره صلاح فضل عن حداثة مجلة شعر و قصيدة النثر و أدونيس و الماغوط و عفيفي مطر و يضرب عن ذكر آخرين .

ولأن كان ابن سلام في كتابه المشهور " طبقات الشعراء " يقتصر على الشعراء الجاهليين و الإسلاميين و لم يتعرض و لو بكلمه واحده لأبي تمام مع أنه توفي في العام ذاته الذي توفي فيه أبو تمام 232 ه ولا يخلو هذا التجاهل من معنى, و كذلك الأصمعي المتوفي 214 ه لا يستشهد بشعر بشار بن برد إلا لأنه  خاف من هجاءه فاستشهد به و طبعاً لأن بشار بن برد ليس بالعربي ذو النسب الأصيل .و صلاح فضل في كتابه تحولات الشعرية العربية يحذو حذو سابقيه ابن سلام و الأصمعي .

فضل صلاح يقتصر في اختياره لمحطات التحول التي مر بها  قطار الشعرية العربية على نماذج معينة ، مع أنه في مقدمة كتابه يربط مفهوم التحولات بـ

1 - ظروف المجتمع العربي و تحولاته .

2 - العلاقه مع الغرب

3 - رفض الآراء الاندفاعية .

إذا أخذنا هذه النقاط بعين الاعتبار و جدنا حداثة مجلة شعر هي الأقرب إلى مفهوم التحولات ، و أجدني مضطراً هنا للوقوف عند محطة هامه و إشكاليه جداً في مسار الشعرية العربية حيث يبقى أدونيس من أهم المناظرين للقصيدة العربية الحديثة ، قد نتفق و قد تختلف  مع طروحات أدونيس, و لكن لا يجوز إهماله ، و سأورد عدداً من المقولات التي طرحها أدونيس قبل أربعة عقود من الآن " القصيده تعبير عن الوجود – التنافر بين الشعر و الواقع – التخلي عن الجزئيات و إدانة العاطفه و الانفعال – الغموض و  اللامنطقية  في الشعر – تثوير اللغة – الرؤيا في الشعر "

كلها مقولات لا تزال فاعلة و موضع أخذ و رد في ما يخص الشعرية العربية .

صلاح فضل في العنوان يذكر أن التحولات تخص الشعرية العربية , و العربي صفه تدل على الانتماء إلى لغة و ثقافة و عرق هم العرب بعيداً عن التصورات الايدلوجيه و التعصب الإقليمي و الطائفي و السياسي و الفكري .

فالنقد عند صلاح فضل مجرد تطبيق انتقائي لمقولات و نظريات و مذاهب لم يقم بإنتاجها أو العمل عليها ، لأنه لا يمارس النقد ، فالنقد الحقيقي هو نقد الفكر لذاته ، و نقد الناقد لذاته ، قبل أن يتوجه بالنقد لظواهر اجتماعيه و ثقافيه و فكريه من قبيل الشعر , و هو عند ما يمارس " النقد " يكون نقد تبريرياً و حاجباً للحقيقه .

فالشعرية العربية الحديثة لا تعدو كونها نتاج شعراء و لم ترتقي إلى مدارس شعرية ،  إنها تطبيق ميداني لمذاهب أدبيه غربيه نزعت من بيئتها ، قد يكون التطبيق ناجحاً أو فاشلاً ، و لكن هذه المدارس " أبولو – الديوان – التفعيلة – حداثة مجلة شعر " لم تتحول إلى مواقف متكاملة من الحياة و الفن يتمركز الإنسان العربي خلفها و ينتمي إليها .

فصلاح فضل لا يرغب في التساؤل و يكتفي بالكلام عن قطيعه أدت إلى عماءين عماء الإيقاع  و عماء المعنى ، و لديه دائماً أجوبه جاهزه

و نستدل على ذلك من عناوين مقالاته في الكتاب

محمد إبراهيم أبو سنه  ß أصوات التراث في نبرات اليوم .

البياني  ß شعرية الوطن .

حسن القرشي  ß عاشق النيل

نزار قباني  ß ضمير الأنثى .

أحمد بخيت  ß أراهن على هذا الشاعر .

إن جزء كبير من خطاب صلاح فضل النقدي يعيد الواقع ، و لا يتحمل الاستمرارية يتكلم عن تحولات ، و لكن التأمل الدقيق يكشف لنا أنه متورط في الثبات. يتكلم عن شعرية عربيه بينما هو يخصص مناطق معينه من العالم العربي

مصر 9
فلسطين - الأردن 4
خليج العربي 3
لبنان 1
سوريا 1
العراق 1
اليمن 1