رذاذ من شواطئ حياة، إرنست همنجواي

عمر جلاب

[email protected]

البحر...

أبجدية قليلة بيد أنها تحمل كل أسرار الدنيا.

أما العجوز، فذلكم عمق كعمق البحر، وحكمة من شوط  آخر.

بهذه التوطئة الصاخبة الهادئة، أبحر بحضرتكم على قارب العجوز، للكاتب الأمريكي إيرنست همنجواي.

ولد الأديب الأمريكي سنة 1899م. تلقى تعلمه الأول في بلدته وتحديدا في المدارس العامة. بيد أنه قطع الحبل السري مع العليم لينتقل إلى الحياة العملية، حيث ولج عالم الصحافة في صحيفة كنساس سيتي ستار.

ما لبثت الأقدار أن انحرفت بالأديب من عالم الأخطار الأدبية إلى عالم الأخطار الحربية، لما اختارته هذه المرة لإرسالية صحية، حيث عمل إسعافيا- إبان الحرب العالمية الأولى سنة 1918م- فكانت اللعنة الأولى شواظا من نار أصابت الكاتب في إحدى المدن الإيطالية.

رغم هذه التجربة الجريحة، لم ينثن الكاتب عن تضميدها، ثم الإقبال على الحياة، حيث عاد إلى الصحافة إثر رجوعه إلى أمريكا، متنقلا خلالها بين شيكاغو وميتشيقان.

كان الوصال بين صاحب العجوز وبلده مضطربا، حيث قفل الرجل راجعا إلى ما وراء الضفة، لما اختير كمندوب صحفي لجريدة تورنتو ستار،أمضى خلالها سنوات خمس  متنقلا بين البلدان الأوربية عساه يصطاد في بحر الحياة ما يمكن له حياة كريمة.

كانت هذه الحياة الصاخبة متكأ لحياة أدبية أصخب. تسربلت بلبوس الحرب، وتعطرت ببارودها، وعانقت بكل مقت جثث الذين استهوتهم لغة المدافع.

كانت أول ولادة أدبية، مجموعة قصصية توسم بثلاث قصص وعشر قصائد عرفت النور في باريس.

لم يبرح النجاح أن عرف طريقه إلى الأديب، حيث أشرقت شموس النجاح في سمائه سنة 1926م، بعد نشره للعمل المعروف بالشمس تشرق أيضا.

طارت شهرة الأديب كقاص، بعد أن نشر له وداعا للسلاح سنة 1929م حول لا أخلاقية الحرب. تلكم القصة تبحر وقائعها على مرفأي ضابط أمريكي، وممرضة بريطانية في إيطاليا أثناء الحرب.

في هذا السياق البئيس من التطاحن البشري، والدمار الإنساني، كانت الولادة الأدبية للعمل الذي يحمل عنوان لمن تدق الأجراس. كان ذلك سنة 1940م حيث شذب فيها الروائي خيانة القوات الأجنبية للشعب الإسباني في محنته.

كانت الحرب قاسية، بكلكل أوزارها جثمت على رجل مرهف الحس الأدبي والإنساني، ولكن عطاء البحر كان كبيرا فأخرج لنا من أعماقه: المحاربين و إلى الغابة عبر النهر.

عتو الأمواج لم يكسر عزيمة صاحب العجوز الذي طلع لنا من الخضم بلؤلؤة عجيبة من لآلئ الأدب الأمريكي المعروفة بالعجوز والبحر.

ذاك عمل بعمق الحياة، فكان بحق قمينا بجائزة نوبل للأدب سنة 1954م. فحاز كل التبريكات الأدبية.

غادر الأديب الحياة وأمواجها تضرب بعنف، لتحفر في صخر أعماقه نداء الموت الموار، فكان الانكسار علي موج الحياة سنة 1961م .

-همنجواي بين عمق البحر وحكمة العجوز.

العجوز والبحر، قصة صراع أبدي بين الإنسان وعناصر الطبيعة المتأبية، بين إرادة الإنسان وأقداره، بين الشجاعة والجبن.

في خليج قولد ستريم تدور رحى معركة بين شيخ صياد وسمكة كبيرة. لم يستسلم أحدهما للآخر حتى فصل الموت لأحدهما.

بداية الحكاية خيبة صياد عجوز عانده البحر بداية لما بخل عليه بما يغدق به على غيره من الصيادين. فسانتياغو[1] قضى أكثر من ثمانين يوم في البحث عن صيد يحفظ به ماء وجهه رفقة مساعده مانولان.

لم يكن الصياد ورفيقه محظوظين في احتواء البحر وسجنه في الشبكة، مما اضطر والدي الفتى إلى العدول به إلى غيره من الصيادين، عساه يعود بشيء ذي بال خلال مجاهدته البحر.

بيد أن الفتى الذي اضطر على الانسحاب في منتصف الطريق، لم يكن ليترك الشيخ لأقداره بل كان وفيا له وفاء الحيتان لبحرها.

كان مانولان يختلس عشاء الذهاب لمساعدة الصياد، فتوطدت العلاقة بينهما وأصبحا صديقين. يومها أسر الصياد للفتى نيته للإبحار في الخليج ليضفر بصيد وافر، ويدحض بذلك أقوال المتقولين بسوء حضه.

كان ذلك،وكانت المغامرة، فأخرج البحر هذه المرة للصياد حوتا كبيرا، بل شديدا مقاوما أعنت عجوزنا الصياد.

دامت الملحمة ثلاثة أيام  وليلتين، جعلت الصياد يكبر صيده، ويحدثه باحترام كبير رغم النهاية المشرفة للعجوز الذي أناخ برحلته المكللة.

سوء البحر لم يكن أقل عناد من سمكه لما أرسل بأسماك القرش بكل جبن لتغتال حلم الصياد، فتقضم الحوت المستسلم للموت ولم تترك منه إلا الرأس والذيل، رغم المقاومة المريرة من طرف الشيخ.

عاد سانتياغو إلى مرفإه، معه هيكل سمكة شارة فخر لإبحار كان وسام عز لشيخ انهكته السنون ولم ينل البحر منه، لما علم الناس أن الحظ ليس خصيما أبديا له وأن مانولان بإمكانه مرافقته.

هذه حكمة البحر...

بل هذا عمق التكوين البشري...

وبين هذه وذاك تلاطم أمواج الحياة الباحثة عن السلام.

على هذه القراءة أتمنى لكم أن تظفروا بصيد يريح خواطركم من دوار البحر.

               

[1] سنتياغو اسم لشخصية مشتركة بين الكاتب الأمريكي همنجواي والكاتب البرازيلي باولو كويلو.