التاريخ السري لفارس الغيار: ديوان شعرٍ؛ لا يُشق له غبار

التاريخ السري لفارس الغيار:

ديوان شعرٍ؛ لا يُشق له غبار

عزيز العصا

[email protected]

إياد شماسنة.. شابٌ فلسطيني؛ شاعر، روائيٌ، ممرضٌ، باحثٌ.. تحاوره فيحلق بك، بأدبه الجم، فوق السحاب ليستمطر مشاعرك وأحاسيسك ويجعلك تذرف دمعتان: الأولى؛ دمعة فرح لإياد وجيله من الشباب المنطلقون بسرعة نحو مستقبل مزهر.. والثانية؛ دمعة حزن وكآبه من ذلك الحصار المطبق على "إياد" وأبناء جيله؛ هؤلاء المبدعون الذين يتجرعون مرارة الصراع على الوجود والهوية، مذ فتحوا عيونهم على هذه الدنيا..

يمتلك "إياد شماسنة"، بالمقارنة مع عمره، إنتاجاً، غزيراً، من الشعر والرواية والبحث العلمي.. ومن بين إنتاجه هذا؛ قُدِّر لي أن اقرأ ديوانه الشعري: "التاريخ السري لفارس الغيار".

ما أن تلقي نظرة على غلاف هذا الديوان إلا وتمتطي حصانك، وتنطلق خلف هذا الفارس؛ لإماطة اللثام عن وجهه والتعرف عليه.. وهذا ما فعلته على مدى بضعة أيام؛ لهذا الديوان الشعري الذي صدر عن دار فضاءات للنشر والتوزيع – عمان في (138) صفحة من القطع المتوسط؛ تحتضن (33) قصيدة يقدم لكلٍ منها بما يشير إلى مدلولات القصيدة، ومحورها الرئيسي، ليأخذنا بعيداً عن الغموض؛ لكي لا يخطف أبصارنا وميض المفردات المعزولة عن معانيها.. إنه نمطٌ يعبر عن المدرسة التي ينتمي إليها إياد شماسنة؛ التي تمنح القارئ فرصة مشاركة الشاعر مشاعره وأحاسيسه المتدفقة بكل الاتجاهات، التي تشير إلى عمق فلسفة الشاعر ودقة قراءته لما يدور حوله من أحداث.

يستهل شماسنة ديوانه بأن يستحلف القارئ أن لا يوقظ الغافي من الألم، ويراعي ذمة الله فيما يأخذ..


 

في مطلع قصيدة "سيد الماء والنار"؛ نجد أنفسنا أمام شاعر يغرف من بحر، فيقول: دائما هناك قصيدة لم أقلها، وقصيدة أخرى أريد أن أقولها، وقصيدة أبدية لن أقولها أبداً.. إلا انه يعود ويذكرنا بتواضعه بقوله:

وانّي، وان يعرف الناس قدري،

أحاول أن لا أطيل افتخاري

ثم ينطلق بنا؛ بهمة وثقة بالنفس نحو الطموح اللامحدود، لنقطن مملكته التي يقول فيها:

ومملكتي تبتدي بحدودِ

المحال، ولا تنتهي في مسار

 

وللمرأة يخصص "إياد شماسنة" قصيدة بعنوان: "امرأة بطعم الفصول"، التي يرى فيها أننا نحب النساء لأسباب عدة، آخرها: أننا "بحاجة لمن يحفظ ذكرانا بطرق غير التي تعرفها أمهاتنا.. وبذلك؛ يطلق شماسنة دعوة صريحة للحب، والزواج؛ للتناسل والتكاثر، ولتستمر الحياة، على فطرتها، بلا توقف لأن:

سيدات الروح لا يوجدن دوماً،

ثم إن العشق لا يُبعث رغما

ثم يذهب بنا، في رحلة وفاء وتواصل بين الأجيال، مع جدته الحكيمة–المحنكة التي واجهت مصاعب الحياة وقسوتها، حتى

غرستنا في اشتباك العمر أشتالاً

فصرنا شجراً ينطق عزما

 

وفي قصيدة "أراك جنة، أراك الضحى"، يتحدث "شماسنة" عن العشق، والوجدانيات، والغرام والالتصاق بالحبيبة، والارتباك أمام طلتها، ومما يقوله:

أراك، فتجمعني رغبة باقتحام

المدى، وابتداع المحال

 

وفي قصيدته: "عشق مثل الطيران"؛ يعتذر للمحبوبة عن عشقه الذي هو مفاجئ الإقلاع، مفاجئ الاتجاه.. ويواسي المحبوبة بقوله: فلا تحزني إن لم أكن كغيري، فأنت لست غيرك.. ثم يبحر بنا في قصيدة غزلية، يبدؤها باعتذاره لها؛ كون عشقه مختلف عن غيره ثم يوضح لها بقوله:

أنا أحاول أن أهواك، مرتكبا بدائعا،

غير ما قالوا، وما عرفوا

وينهي بأن يعد المحبوبة بـ "سرمدية" ذلك الحب وهيبته، التي ستستقر في وجدانه، فيقول:

لأجل عينيك اسعى عاشقا ابدا

وحين اتعب في ذكراك اعتكف

 

ينبري "شماسنة" من خلال قصيدته: "تحولات في خطاب الوطن"، لوصف الوطن وأهميته في حياة الفرد، بقوله:

يا موطني، يا جراحا فيّ نازفة،

وبلسماً لشفاءٍ، كان مُفتقدا

ثم يستل شعره؛ مدافعا عنه في مواجهة الانتهازيين، والوصوليين، والفاسدين الذين يتاجرون بأوطانهم، ويخادعون شعوبهم، بقوله:

ويدَّعون إلى عينيك قبلتهم

ويرجعون مساءً للذي التحدا

وينتهي أمر هؤلاء، بحسب "شماسنة"، إلى أن ينكشف زيفهم ويزلوا عن الوجود، بقوله:

وأنت تعلم أن الريح تغسلهم

وليس تبقي، عديداً كان أو عددا

 

من جانب آخر؛ يرفض "شماسنة" في قصيدته "إحداثيات الشغف والجرأة" الرتابة والتكرار؛ ويدعو الى التجديد؛ بان يكون كل يوم بصيغة مختلفة، ولو بنوتة من لحن الموسيقى. ويهوى لعبة اكتشاف المجهول، وبذل الجهد من أجل الحقيقة، كما انه لا يخشى الظلمة ولا ما وراء الأفق، فيقول:

امتطى صهوة من النور، تجري

بي إلى حيث لستُ اعرفُ شيّا

وينطلق "شماسنة"، وهو ينظر إلى الأمام دون أن يلقي بالاً للمحبطين، والمرجفين، بقوله:

اترك اللاهثين خلفي، وألقي

قدَمي حيثما انتهى ناظِريا

وفي قصيدته "تفاصيل عصر الجليد" يبقى "شماسنة" قريبا من عالم الحب، والأمل، والجمال والوطن.. ولحفظ هذا كله من التشويه والحزن والألم، ولمقاومة حالة التآكل التي تنتاب الجمال، وللحفاظ على بيئة جميلة–تفوح علينا بعطر الأزهار؛ يداوم شماسنة على زراعة الحب ونثر بذوره في الاتجاهات كافة.. ويُبقي على جذوة مواجهة الباطل والظلم وأعوانهما، بقوله:

ومَسيرُ الدُّجى يحثُّ خُطاه

والطواغيت مقبلون علينا

 

من أجل استدامة الحب، ووفاءً للمحبوبة يدعو "شماسنة" إلى التفاني والتضحية.. ففي قصيدته "لأني أحبكـ"، يقول:

لأجلك أنت، قطعتُ عصوراً،

بها الحسنُ من كلِّ جنسٍ ولونِ

ثم يرتقي بنا "شماسنة" إلى سمو الروح القومية-العروبية التي نحلم بها.. ففي قصيدته "أخي العربي"؛ يصف واقع الأمة، وما هي عليه، من قوة مفتتة، وكثرة مشتتة.. في حين أن حاجة العربي للعربي كحاجة الإنسان للماء؛ ولا شيء غير الماء العذب الصافي يروي العطش.. ويعبر عن ذلك شعراً، بقوله:

لأنك أنت أخي العربي؛

ربيبُ الديارِ وربُّ الحمى

حتى أن الطبيعة تشارك "شماسنة" حزنه على واقع الأمة المتردي؛ عندما فقدت الأخوة جمالها وبهاءها، فيقول:

يسائلني عنكَ طعمُ الصباحِ،

ولونُ المساءِ، ونبعُ الدما

كما يصف فقدان الأمة لما فُطِرَت عليه من نخوة، وعزة، وكرامة لتستبدل بالقتل والمزيد من القتل.. فيقول "شماسنة":

وتسألُني نَخْوةُ الأكرمينَ عنِ

الموتِ كيفَ اغتدى موسما

وفي قصيدته "ارتجال أمام سيدة الكلمات" يباغتنا شماسنة، الشاب الهادئ بما يشتعل داخله نحو امرأة مسافرة لم يقل لها إلا كلمات تمتلك منها بعضا من روحها أو نفسها.. ثم ينطلق وحيدا وهو يدوس على آلامه وعذاباته التي حفرتها السنين في ذاكرته.. فيقول:

وحيداً أعدُّ خطايَ إليكِ

وأطوي جراح المراحل طيّ

ثم يفرق في وصف انفعالاته ومشاعره، والنيران المشتعلة بين أضلعه، أمام تلك المسافرة التي يقول فيها:

ففيك امتلاكُ الغِوا، وارتواءُ

الدَّلالِ، وفيكِ الجمالُ البَهِيْ

ثم يعاهدها على أبدية ذلك الحب، بقوله:

وأحملُ فيكِ احتراقَ الطريقِ

على أملٍ بالرِّضا الأبَدِيْ

فمن هي هذه المسافر؟! يبقى المعنى في بطن الشاعر..

 

وفي منتصف الطريق يتوقف بنا شماسنة في القدس من خلال قصيدة: "الذاكرة الأخرى للمكان" وهي تفوح بعبق الحضارات التي مرت عليها، وشذى ذكريات الأمم التي عمرتها؛ وما حفرته في صخورها من جمال وبهاء أبدي؛ لن يزول مهما أوغل الاحتلال واستخدم قوته المفرطة في التزوير وخلق وقائعه (الكاذبة) على الأرض.. فيغني شماسنة للقدس- المكان، وللقدس-الوجدان، وللقدس-العاصمة الأبدية.. وفي كل ذلك تنتابه "رعشة"، يصفها بقوله:

وتملكني رعشةٌ تخلعُ

الحزْنَ، والصَّدْرُ يعرفُهُ موقَدا

ثم يصف ما آل إليه حال القدس وهي تستغيث بالأمة التي لا تستجيب لنداءاته ولا لصرخاته، مثل:

ومئذنةً، تستغيث بأمجادنا

أنْ تعيشَ وأن تصْمُدا

إلا أن شماسنة ينهض ويدعونا للنهوض معه، والانتفاضة على هذا الواقع المؤلم، للعودة لأيام البطولة والفداء، فيقول:

أنا النسر، في قدسِكِ الرَّحْبِ أعْلو

وأَقْصِدُ بابَ الفَضا سيِّدا

 

عبر قصيدة "سر الضحى"؛ يعود شماسنة ليشدو للحب، وهو يدرك مواصفاته وأخباره؛ بما يغضبه وما يرحمه.. فالحب، من وجهة نظر شماسنة، يحب الإيجاز وأجمل الحب عصفور الدوري..

كما أن للحرف العربي مهابة وجلالا في نفسه؛ يجعله حريصا على أن يكون كل حرف من حروف هذه اللغة في مكانه الصحيح؛ لأن الإكثار من البوح بالحروف (العربية) في غير مكانها يُميتها. ويمتلك شماسنة قلباً محبا،ً حنوناً، متفائلا، فيقول:

وأنّ فؤادي كبُرْعُم زَهْرٍ، تفتَّحَ

للشَّمْسِ وانْشَرَحا

ثم يعود بنا شماسنة مع "الذئاب" التي تنشط في الظلمة الحالكة، لكي تقتنص فرصة الظلمة؛ فتنتفض على كل ضعيفٍ لا يقوي على صدها ومقاومتها، حتى ان اللصوص "تستنسر"، فيقول:

وللذِّئاب عواءٌ في مَرابِعنا

وللصوص انقضاضُ النسْرِ منْ أعلى

ولم ينسَ شماسنة الاسترشاد بحكماء الأمة ومحنكيها، للتحرر من الواقع الفاسد، بقوله:

يا سيِّدَ النّاسِ، أرْشِدْنا؛ فقد جمحت

بنا المراكِبُ واستعلى مَنِ اسْتعلى

ثم يعود بنا إلى وصف عصر الانحطاط الذي يعيشه وكأني به يفسر حديث رسول الله (ص) في وصف زمن الرويبضة، فيقول شماسنة:

وللظلام نعيقٌ في مواكبه

وللشياطين ابتئاسُ الموتِ اذ أبْلى

 

وللصوصِ تسابيحٌ مدويةٌ

على المنابِرِ اذ ولّى الذي ولّى

 

من أجمل ما يتصف به شماسنة، في ديوانه هذا، الدعوة للتغيير ليس في مجال السلبيات فقط والتخلص منها؛ بل على مستوى الإيجابيات والجماليات، أيضاً، التي يدعو الى جعلها في حالة حراك وتجديد دائمين.. فالعطور، من وجهة نظر شماسنة، أكثر من غيرها تعرضا للضجر، وأسرعها فقدانا للدهشة عندما يعتريها الضجر.. ويعزز ذلك بقوله في قصيدة "هذا تأويل قلبي":

مثابرٌ في اجتثاثِ اليأْسِ منْ فِكري

مقاتلٌ لانْتزاع الشَّوك من طرقي

 

وليس تُعْجبني الأشْياءُ ساكِنَةً

فالعمر مستبقٌ يسعى لمستبقِ

ثم يحثنا على العمل لاجتثاث عوامل الإحباط واليأس، وكل ما يعيق طريقنا نحو الرفعة والسؤدد، بقوله:

وفي الضياء أُداوي أعيناً عَمِيتْ

وفي الظلام ألُمُّ النُّورَ للحَدَقِ

 

لم يكتفِ شماسنة بالوطن الفلسطيني، وعاصمته القدس، والدعوة الى حمايته والانتماء اليه؛ بل يشدو لمقام الشهادة، عبر قصيدته: "تنويعات على مقام الشهادة"؛ ليستذكر الشهداء الذين يرى فيهم، ومن خلالهم، البدايات والنهايات، فيقول فيهم ما يمكن أن نطلق عليه ثنائية الشهيد – الأرض:

البداياتُ: ارتواءُ الأرضِ منْ

دمكم، يا ظهرها تلك البداياتْ

 

والنهاياتُ، انتشاءُ الصَّخْرِ من

لحمِكُم، يا طَعْمَها تلكَ النهاياتْ

وأما النتائج التي خرج بها شماسنة وهو في حضرة الشهداء، فهي انه على الأحياء أن يستمروا في التحدي؛ لكي يحطموا القيد بأسنانهم المكسرة، وشفاههم المتآكلة.. في أجواء من رفض العداون على الغير فنحن، من وجهة نظر شماسنة، امة سلام تحب الحياة، وترفض الدم، ولكن علينا دوما الدفاع عن أنفسنا حتى استرداد كامل حقوقنا. مهما كانت ضريبة ذلك.

ختاما؛ يودع شماسنة شهداءنا الأبرار، ويعتذر لهم عن تقصيرنا عن الوفاء لدمائهم، بقوله:

اغفروا، أنّا أقمنا بعدكُمْ،

نطحن المرَّ، وننسى الابتساماتْ

 

وكمحبٍ سابقٍ؛ يعترف شماسنة، في قصيدته: "اعترافات محبٍّ سابق"، بأنه كان مخطئا عندما صنع حريقا ملأ الكون وقلبه.. إلا أنه يعيد لنا الأمل بأن انكسار الأشرعة لا يعني عدم تمكننا من الإبحار إلى الشاطئ الآخر؛ لأن السفن لم تنكسر.. ويُبقي على جذوة الحب والأمل، بقوله:

وبنا ألفُ حنينٍ

في ليالينا مدثَّرْ

 

ويبقى شماسنة في عالم الوجدانيات معلناً عن عجزه من الشفاء من الالتصاق بالحبيب.. ففي قصيدة "ثورة الألق"، يحاور "سيدة الورق"، وهو منطلق، بجرأة وشجاعة، نحو الفضاء الرحب بما فيه من أجرامٍ؛ كواكب ونجوم، فيقول:

في بلاد الله منطلقٌ،

كانطلاقِ النَّسر في الأفق

 

طامعٌ أن اقطف النيِّراتِ

التي تنبضُ بالأَلَقِ

 

ثم ينتقل بنا من خلال قصيدة: "فرسان وأقنعه"؛ لكي نبحث معه عن الفرح المفقود، والمنشود؛ القابع خلف الأقنعة، فيقول شماسنة:

فارتَدَتْ للِّقاءِ أَقْنِعَةً، كي

تَتَمادى، وَلِلحُتوفِ حُتوفُ

 

والشُّموسُ التي قَصمْتُ إليها

منكبي، قد طغا عليها الكسوف

ثم يعزز عوامل التحدي لهذا الواقع الحالك، ويحث على الانطلاق، بقوله:

واصنعوا كالرِّياحِ أمجادَكمْ

ذروةِ الأرضِ، والزمانُ خريفُ

 

وفي قصيدته "الرواية غير المقدسة للعشاء الأخير"؛ يقف شماسنة في مواجهة الظلم الذي تعرضت له فلسطين؛ تلك المحبوبة المضرجة بدمها وهي بثوب زفافها الأبيض, ويختلط دمها بحنائها..

حملتُ فلسطينَ مصلوبةً فوقَ

 نفسي, أطوف بها حاضِري بعدَ أمسي

كما يذكرنا بقدسية هذه الأرض التي

على بابها جعل الله باب

السموات درباً لأقدس قدس

إلا أن فلسطين لا تزال تنادي أبناء الأمة الذين ينطبق عليهم قول: لا حياة لمن تنادي, بقوله:

فقامت تنادي على عاشقيها

نداءَ الغَريقِ لصمٍّ وخُرْسِ

 

يتحدث شماسنة في قصيدة: "التاريخ المجيد للصحراء" عن الصحراء؛ بمخزوناتها من أشواك يمضغها (شماسنة) لتخرج نفطاً اسوداً.. وكم هو جميل؛ عندما اعتبر النفط نقمة على امتنا التي (يذرف) فقراؤها الدموع من شدة الجوع والألم.. كما يصف العراق الذي يتلوى أطفاله ألماً؛ وهم يبحثون عن (رضعة) حليب في بلد الثروات الطائلة؛ فوق الأرض وتحتها.. كما يُجمِلُ حال عرب النفط، وما أوصلوا الأمة إليه من هوان، بقوله :

يا أيها العربي المستباحُ دماً

بين العواصم، لا ثار ولا نِقَمُ

يا أيها الوطنُ المصلوبُ من قِدَمٍ

بين القبائلِ، والثاراتُ تضْطَرِمُ

 

"الرجال" قصيدة يوجهها شماسنة للرجال الأشداء؛ القادرون على تحدي الصعاب، وقهر عوامل الإحباط التي تحتاج الأمة وإعادتها إلى مكانتها كأمة مجيدة, فيقول:

أيها السائرون للفجر سعياً

رغم أنف الدُّجى ورغم السُّبات

 

أرجعونا إلى الأمام فقدْ

ضُيِّعَتِ الوجْهَتان في الظُلُماتِ

 

للحرية، والسمو فيها، والتضحية دفاعاً عنها، يقول شماسنة في قصيدة: "اعتناق الحرية":

أنا الرجُلُ المصلوبُ فوق عزيمتي,

أحطِّمُ قلبي حينَ يَقْبَلُ صلْبي

 

لقد استوقفني شماسنة معمقاً في قصيدته: "العنفوان الأزرق" التي يقدم لها برؤيا وفلسفة ناضجتين؛ في وصفه لمعايشتنا مع عذاباتنا وآلامنا، معبراً عنها كحالة تزاوج فعلي تنجب الحزن طفلاً غير شرعي.. ولكنه يعيد أمام أعيننا ومضة أملٍ، بقوله :"إن الألم والحزن عدوان معاكسان للجمال والحب والخير.. "، ثم ينشد علينا قصيدة رائعة, منها:

وجدت الغُنا صوتَ قلبي, وصمتي,

من الألمِ القاتلي مُعْتقي

 

وفي قصيدة "المحراب" يوثق شماسنة للسجن وعذاباته، وللسجان وقيوده، وللزنزانة وظلمتها ورطوبتها، وللقضبان وشراستها.. ولما يثيره، كل ذلك من آلامٍ وعذاباتٍ.. فيتوقف؛ ليصف حال الأعداء؛ السارقون للأرض والمصادرون للحرية، بقوله:

والسّارقونَ، قد فاضتْ مآثرُهمْ

على مآثرنا، للمَجدِ ما سَرَقوا

ثم يحرض شرفاء الأمة على أن يأخذوا الأدوار المنوطة بهم؛ دفاعاً عن حمى الوطن المستباح، بقوله:

يا صاحب النور، أسرعْ نحوَ وِجهتِنا

لأجلِ مَقْدسنا يسعى لك الأَلَقُ

وفي قصيدة "تقاسيم الصوت والألم" تتجلى صور الرمزية وتطويع المفردات؛ لينسج شماسنة منها لوحة رائعة، بقوله: ربنا نحن الذين ينخلون البحر، والقهر، والنهرَ، بحثاً عن معدنٍ يصنعون منه باباً أو محراثاً.. ويعبر في هذه القصيدة عن الصراع القائم يبين الخير والشر على هذا الكوكب.. الصراع القائم بين الساعين للحفاظ على البيئة وبناء حضارة واعدة للأجيال القادمة، ويبين من يسعى لصناعة الموت وتطوير أدواته الشريرة.. واتخذ شماسنة من فلسطين (المغتصبة) رمزاً للحب، فيخاطبها قائلاً:

يا أُمَّنا يا فلسطيني، وسيدتي

وقِبْلَةَ العين، في صحوي، وفي حُلُمي

ثم يصف ما آلت إليه فلسطين بعد تشريد أهلها واغتصاب مكنوناتها الجميلة الزاهية، بقوله:

فبدَّلتْ سُنَنًا كانتْ مُقَدَّسَةً

وأحدَثَتْ بِدَعاً كانتْ مِنَ الحُرَمِ

ولم ينسَ شماسنة أولئك الأصدقاء الداعمين لقضيتنا، والمؤمنين بحقنا في العيش الكريم على أرض الآباء والأجداد، فيقول:

والضَّارعينَ معي، من كلِّ معتنقٍ

للحقِّ مصْطبرٍ، بالحقِّ مُعْتَصِمِ

وليس ببعيدٍ عن التقاسيم الموصوفة أعلاه؛ يتجول بنا شماسنة مع قصيدته "اللحن الأخير من مقام الألم"، فيصيف تشرد شعبه ومحاولات الأعداء استئصاله من أرضه، وشطب هويته. ثم يتوجه لهذا الوطن المغتصب معاهداً بالعمل الجاد في الذود عنه، والتضحية، بالنفس والولد دفاعا عن كرامة شعبه، فيقول:

فالعمرُ فيكَ جميلاتٌ مراحِلُهُ

والموتُ أجملُ منْ أنْ يَبْلُغَ الوصْفا

حملتُ موْتي عَلى نَعْشي أردُّ بهِ

حتْفي إذا شئْتُ أن لا أقبلَ الحتْفا

وينهي هذه القصيدة ببيت جميل؛ يبشرنا فيه بالعودة، وبأن الحق سيعود إلى أهله الشرعيين، فيقول:

أنا البشيرُ بأنَّ النُّورَ مُنْتَشِرٌ

حتى السماءِ، رفوفاً بعدمَا رفَّا

وفي قصيدة "بيان صادر إلى الوطن"؛ يبقى شماسنة في حالة تواصل مع الوطن وعذابات أهله، فيصدر بيانا يعتذر فيه للوطن، ويعتذر منه، ومن أنفسنا.. ثم يعده بالوحدة والتماسك والتعاضد على طريق التحرير، فيقول:

لنا بحبِّكَ شرْعٌ ليسَ يدْرِكُه

ذئبٌ يناوِشُنا، والحبُّ والملل

 

لا تنتَظِرْ منْ ذئابِ الأرضِ موعظةً

عن حبِّنا لَكَ، بينَ الحمْقِ والخَطَلِ

في قصيدته "اعتذار إلى صديق القلب" ينحى شماسنة منحى مختلفاً، إلى حد ما، عن سابقاتها؛ فيجدد ما نادى به سابقاً؛ بضرورة التجديد والابتعاد عن الرتابة لكي "لا تصاب محبتنا بالضجر"، ويستهلها بالاعتذار لصديقه،  بقوله:

حناينكَ، لو أنّي أتيتُ بزَلَّةٍ

فمثلِيَ خطّاءٌ، ومِثْلُكَ يصفحُ

ثم "يستسمح" صديقه، ويطلب منه التصافي، بقوله:

فانْ لمْ تكُنْ عُتْباكَ منْ بعْد هَفْوَتي

فكيفَ تصافينا، وكيفَ ستسمحُ

في التفاتةٍ جميلةٍ منه؛ يوجه شماسنة قصيدة لفلذة كبده "عمرو" بعنوان: "إلى الأمير عمرو" واصفاً ابتسامته الجميلة، وتورد خديه، ثم يردف بتصوير انفعالاته اتجاه "أغلى ما في حياته"، قائلا:

ويرقُصُ قلْبي لِرُؤْيا تهاديكَ

مثْلَ تهادِي الأميرِ المظفَّرْ

ثم ينتظره لينطق حرفه الأول الذي يشيع أجواء الفرح والسرور في حياته:

فسُبْحانَ ربّي!!! إذا قلتَ حرفاً

فحرفُكَ شهدٌ، وثغرُكَ سكَّرْ

ثم يعود بنا شماسنة إلى الوطن، والصراع مع الاحتلال. ولكن هذه المرة بقصيدة بعنوان: "العاصمة المقدسة"، ليصف، بأجمل العبارات والأبيات، حالة الصراع على القدس بين المغتصب الذي يسعى لتشويهها وإشاعة أجواء القهر والقتل والعهر في جنباتها، وبين من بنوْا فيها حضارات تشكل نموذجاً، حياً، لعبقرية الإنسان في الزمان والمكان، ومما يقوله:  

مهيبةٌ، مثْلَ وجه أُمّي

بهيةٌ مثْلَ فجْرِ يوْمي

ثم يدعوها للصبر إلى أن يأتي الفرج القريب، بقوله :

ولمْلِمي الصّبْر منْ جِراحي

وهدْهِدي الرُّوحَ إذْ تَلُمّي

بقدر التصاقه بالوطن وهمومه؛ كان شاعرنا إياد شماسنة ملتصقا بالقادة العظماء؛ الذين رفضوا الذل والهوان، وقاوموا إغراءات الأعداء بـ "الجاه الزائف" المعروض عليهم.. ويتجلى ذلك في قصيدته: "القائد الذي ترجل" بقوله: "ربما كان بعض الرجال رجلا من امة، ولكننا نعرف أن بعضاً آخرين أمة في رجل". ثم يشدو لهم شعراً، فيودعهم بقوله:

وداعاً، ومنْ حُزْنِ الرِّجالِ قوافلُ

لها في صُدورِ الشّامتينَ معاوِلُ

ولأولئك القادة سمات وخصائص، وثَّقها شماسنة لتبقى أنشودة؛ تتغنى بها الأجيال القادمة، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ليُبقي على سِيَرِ الشهداء رموزاً تضئ المظلم من الطريق، ويبث في الأجيال روح الأمل والعزيمة؛ باختيار النهايات الشجاعة-المشرفة، وليس الاستسلام والانهيار أمام قوة الأعداء وجبروتهم:

أرادوك مولاهم، وأنتَ وليُّنا

وقد بيَّتوا أمراً، وغالتْ غوائِلُ

وفي نهاية القصيدة يميط شماسنة اللثام عن القائد الذي يعني، فيكون ذلك القائد الذي أراد له الأعداء أن ينتهي قتيلاً أو طريداً أو شريداً، فقضى كما أرادها هو: شهيداً، شهيداً، شهداً.. إنه القائد الرمز الشهيد ياسر عرفات:

وأنتَ شهيدُ الصَّبْرِ، رغمَ انكِسارِه

إذا غابَ فجرٌ أوْ تعاظَمَ باطلُ

قبل أن ينهي شماسنة ديوانه هذا؛ يتوقف عند موقف العاشقين لكي يطلق لنفسه العنان للمعشوق/ة في قصيدته "موقف العاشقين" بقوله:

أنا أشتهي سحرَ عينيكَ،

والوعد في الغيب مثل السراب

ثم يغرق في وصف جمال المحبوب/ة التي تحضه/ا على الانطلاق والعمل الجاد والإنتاج، تاركاً للقارئ حرية التذكير والتأنيث، فيقول:

ولولا عيونك تجمعني ما

انطلقت وبي همة كالشهاب

وينهي شماسنة ديوانه بقصيدة يحمل عنوانها أجمل صفة يمكن أن يتحلى بها المرء: "النبيل".. تحمل خلاصة فلسفته الخاصة، ونظرته القائلة: "الشعر يمكنه إدارة أمور كثيرة، أولها علاقة رجل بامرأة لبؤة".. ويخاطب صديقه بقول:

ما كان، كان، وما وجدت بديلا

إني صبرت على جفاك طويلا

ثم يغوص في أعماق الوفاء والنبل وخصائص النبلاء والأوفياء، فيقول:

وسواي من يرضى هوان فؤاده

وسواك من يرضى المحب ذليلا

تعقيب

هذه هي قراءتي لديوان إياد شماسنة التي استغرقتني ساعات طويلة.. فكنت أقرأ وأعيد القراءة.. أتمعن وأعيد التمعن؛ دون كللٍ أو ملل، لماذا؟

لأنني في كل مرحلةٍ كنت أنهل منه ما يريح البال ويسر الخاطر من مفاهيم، وأفكار توثق للوطن، وللهوية، وتحث على الوفاء للحبيب، والتضحية دفاعاً عن القيم النبيلة والمبادئ الوطنية والإنسانية..

لأنني وجدتُني أمام شاعرٍ-فيلسوف لا يقبل إلقاء الكلمات على عواهلها؛ بل يدرك ماذا يكتب، ولمن يكتب، وعن ماذا يكتب، وحول ماذا يكتب..

لأنني وجدتُ في كل ما يكتب رسائل لا بد من التوقف عندها بالقراءة والتحليل، والتفسير لتقديمها للقارئ الساعي لامتلاك الثقافة بأبعادها المعلوماتية والمعرفية والتنموية والقيمية؛ سياسياً، ووطنياً، واجتماعياً..

لأنني وجدتُ تلك الرسائل مشبعةٌ بالقيم، والمثل العليا، والوفاء للحبيب وللصديق.. الوفاء للآباء والأجداد وأجداد الأجداد.. الوفاء للزوجة التي تعطي الحياة طعماً خاصة، ونكهة لا يعدلها شئ في هذه الدنيا.. الوفاء للإبن يخطو خطوته الأولى، وينطق حرفه الأول.. الوفاء للأبناء، وللأحفاد، ولأحفاد الأحفاد.. وفوق كل ذلك الوفاء للشهداء، والقادة العظماء الذين حفروا في صخور الوطن ما يجمع كل هذه الأشكال من الوفاء..

إنه ديوان "التاريخ السري لفارس الغبار" الذي لا يُشَقُّ له غبار..  

فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 7/آيار/2013م