مَلحَمةُ "كَفْر توُتْ"

مَلحَمةُ "كَفْر توُتْ":

وَثيقَةٌ تَارِيخِيَّةٌ.. بِنَكْهَةٍ شِعْرِيَّةٍ

عزيز العصا

[email protected]

عبد اللطيف البرغوثي.. أخاطبه مباشرة؛ بلا ألقابٍ ولا مسمياتٍ، فالألقاب تُلصق بمن يسعى لها.. أما عبد اللطيف البرغوثي؛ فقد فتشت في جعبة التاريخ فوجدته يزخر بسيرته العطرة بدءاً من الكُتّاب، الذي احتضنه طفلاً، وانتهاءً بصخور فلسطين، وجبالها، وتلالها، وروابيها التي حفر فيها، هذا البرغوثي، نبراساً للأجيال في معاني الانتماء للأرض-الوطن..

كَفر توت؛ ملحمة شعرية تربض في غلافين: فأما الغلاف الأول؛ فيحمل ملامح البلوطة، وأما الغلاف الأخير؛ فيحمل سيرة صاحب البلوطة، ومسيرته الوطنية والشعرية والتوثيقية، التي تنتهي بالإشارة إلى مؤلفه القاموس العربي الشعري الفلسطيني المنشور عام 2001..

ولهذه البلوطة، ذات العمر الممتد لمئات السنين، قصة حب أبدية مع الأرض والإنسان في بلدة كفر عين الفلسطينية وقرى الجوار. لذلك؛ قام الاحتلال باقتلاعها بوحشية طالت جذورها، لاعتقاده ان البلوطة مجرد شجرة ينتهي فعلها باقتلاعها.. ولم يدر في خلد هذا الاحتلال البغيض أن البلوط الفلسطيني كنعاني الأصل والفصل؛ فهو أقوى من أسنان جرافاته وأعمق من أن تطاله أذرع روافعه.. فرغماً عنه عادت البلوطة إلى مكانها، وعادت أوراقها ترفرف فوق رؤوسنا بخضرتها اليانعة وجمالها الأخّاذ..

بلا مقدمات.. ولكي لا يُضيع وقت القارئ؛ يبادرك البرغوثي بإهداء ملحمته هذه لوطنه الذي يسكن "شِعَاف قلبه"، ولبلاده التي "شَابَ الزَّمانُ وما شابَتْ نواصِيهَا".. ثم يصطحبنا في جولة تاريخية على مدى سبعة أيام تشكل، في مجموعها، توثيقاً "شعرياً" لمرحلة ناريخية عمرها يزيد عن خمسة آلاف عامٍ ونيف، تنتهي بـ 15/2/1981م..

يبدأ اليوم الأول؛ الذي يمتد لـ "2300" عام، "تحْت مِظلَّة البلوطة الشَّماءِ"، إذ يستحضر البرغوثي تاريخ الأرض والإنسان، في هذه الديار، وبطلتها "أم كنعان" التي تعشق الحياة، وتشحذ الهمم نحو التنافس لتحقيق الأفضل بل أفضل الأفضل..

"أم كنعان"؛ رمز الوفاء والعدل؛ فتمنح جائزة لمن يَسبِق وأخرى لم يُسبق.. وفي هذا اليوم؛ استخدم البرغوثي "الشير" لقياس المسافات، ووظف نباتات فلسطين كالنتش، والخرفيش، والقوص، والشَّيرق والزعرور، في الذود عن كنعانية الأرض بشهادة "المقدون" و"الإغريق"، وبإشراف "بان" إله الرعاة والقطعان،  و"الفجر" احد الهة الكنعانيين، فيقول:

أكَانْثُوْس، شَوْكُها جَبَّاْر

يَصُدُّ المُعْتَدي الزِّنْديقْ

خُؤُولَتُهَا بَنُو المَقْدُونْ

عُمُومَتُهَا بَنُو الإِغرِيقْ

في اليوم اليوم الثاني؛ يغطي "200" عام تبدأ في 1200 ق.م، ويستهله بإطلالة "ام كنعان" مرحة تغني وترقص مع نسيم البحر يداعب البلوطة الكبرى.. وفي هذا اليوم يصف البرغوثي الجغرافيا الفلسطينية المتصلة مع العالم، فقد حدد مسار دعوة الإغريق إلى أرض كنعان، انطلاقاً من البلوطة الكبرى، نحو يافا، فالبحر، فإيجا، فإثنا ويستقر به الأمر في الأَكْرُبُلِسْ؛ موطن حضارة الإغريق. كما جعل من فلسطين مركزاً لبلاد الشام؛ فأسماها "ارض الشهد واللبن". والشهد (العسل) نتاج ما جناه النحل من أزاهير الشام الجميلة-العطرة، ومنه من هو "فَذٌ طَعْمُهُ زَعْطَرْ" حيث أن هذا النحل لم يتركْ بِبَرِّ الشَّامِ عُشْبَاً ما سَبى عِطْرَهْ.ويشير البرغوثي إلى خصائص الكنعانيين ذات الملامح العروبية، حيث يقول:

عُرُوبَتُهُمْ تُنيرُ لَهُمْ

سَبيلَ العَدلِ والإنصافْ

ثم ينقلنا البرغوثي، في أجواءٍ من الفرح والسرور والرقص، إلى حيث يغمر الفرح شعب الإغريق تلبية لدعوة أم كنعان صاحبة أرض اللبن والشهد؛ فتدافعوا الى ميناء بِيرَايُسْ لينتظروا هُبُوبَ الريحِ التي يطلقها إله البحر بُوزَايْدُونَ. وفي لحظات الانتظار تلك؛ يمتعنا البرغوثي في وصف رجال الإغريق الأشداء، ونسائهم الحسناوات الرشيقات اللاتي يُخضعن البحر والريح؛ لحسنهن وجمالهن، لكي: تحظى الرحلة الغرّاء بالتوفيق والبركة. وعلى رأس حسناوات تلك الحقبة كانت فلسطين "زهرة الإغريق" و"درة اليونان"، وهي تلك الحسناء المتمسكة بجمال الطبيعة وزهرها الجميل، ومما وصفها:

فَتَاةً حُسْنُها صاعِقْ

وَنُورُ جَمَالِها دَافِقْ

وقَدْ حَمَلَتْ بِيُمنَاهَا

أكَانْثُوسْ مِنْ زُهُورِ البَرّْ

ثم ينتقل المشهد إلى يافا حيث يكون وفود كنعان في استقبال الضيوف الإغريق لكي يمضي الكل، في فرح وفي بهجة، إلى البَلُّوطَةِ الكُبْرى. فكانت حفلة نهارية انتهت عندما "مال قرص الشمس للغرب.. ومس محيط السفلي سطح الماء في اليم. ثم انتقلو الى الحفلة الليلية الكبرى بأدواتها: الناي الذي يعزف"فان" وال"يرغول" والشبابة وهما من صنع جبريل (رمز العرب الكنعانيين) من قصب ضفتي الاردن والعوجا.. وفي تلك الاجواء الصاخبة قامت أم كنعان إلى التاريخ تكلله بتاج الغار.

ثم ما يلبث البرغوثي أن يفاجئنا بأن هذا الاحتفال المهيب هو تقديم لحدث جميل، بقوله:

وحين أتت فلسطين

أعلن بعدها كنعان

بصوت عامر رنّان

قرار زفافه الميمون

وهنا تصدح حناجر"المعازيب" "والمعازيم" و"الضيوف"؛ من كنعانيين واغريق بتبادل التحايا، والتقدير، وإعجاب الواحد منهم بخصال الآخر وخصائصه؛ من طيب، وكرم، وشجاعة، ويعبرون عن ذلك من خلال"السحجة"

على شكل هلالين كبيرين

لكل منهما حادي

ويبتادل الفريقان العبارات الرقيقة، المعبرة عن مشاعر الحب والوفاء، ورفض الظلم والقهر والدعوة الى مقاومة الباطل.. ثم يظهر فتىً قمحى يغني"لجفرا"؛ وهي الاسم الكنعاني الفلسطيني قصيدة طويلة ينهيها بقوله:

ضَرْبُ الشَّبَاري وَلا

حُكْمُ النَّذْلِ عَلَيَّا

في اليوم الثالث؛ يغطي البرغوثي الفترة 1200 ق. م حتى 1000 ق. م. في تلك الأجواء الموصوفة تتعمق العلاقة بين الكنعانيين والإغريق الذين أسموا بلادهم هذه "فلسطين" تكريماً لجدتهم، جميعاً، فلسطين

فتمتلئ البلاد بهم

ويكثر نسلهم فيها

ونسل النسل والأحفاد

وينتهي هذا الوفاق والاتفاق والتعاون على أرض جميلة غناء؛ تسر الناظرين، لما تنتجه من الخوخ، والرمان، والتين، والبرتقال، والأعناب، والزيتون، والنخل، والموز، والقثاء، ولما تزخر به من حبوب ضاقت بها متاجرها.. ولما عليها من حضارة وعمران أبدعوه معاً.

اليوم الرابع (وقد اسماه البرغوثي النكسة الاولى)؛ يمتد لحوالى 1700 عام (من حوالي 1000 ق.م حتى الفتح الاسلامي). وفي هذه المرحلة "يتلهى" أهل فلسطين بالحضارة والنعيم عن السلاح. وعندئذٍ؛ يدور الدهر دورة غدره الأولى، حيث يداهمهم الغادرون وتسود شرعة الغاب، وينتشر الظلم والإرهاب والفتنة..

ويستمر ذلك الحال الى أن يَبْلُغ إِيْلَ ما فعلت ذئاب السوء في بلده.. فيرسل بـ "نوخذ نصر" الذي يداهمهم ويأسر ما نجا منهم ويسبيهم إلى بابل..

إلا أن ما قام به نبوخذ نصر مجرد ومضة: تلاشت في ظلام الليل حيث:

أعقب ذاك إعصار من الشرق

عنيف كل طغيان

تفجر من ربى فارس

وغَرَّبَ يقصد اليونان

واستمر الحال كذلك إلى أن

جاء مقدونيا طوفان

شديد البأس والطغيان

فأغرق من عناة الفرس

بالطغيان طغيانا

أما آل كنعان، وخلال هذه الفترة، فإنهم صامدون حيث أنهم اعتصموا بصبرهم، وظلوا في فلسطين، حتى أنهم حاربوا الاسكندر المقدوني، صاحب الجيش الفاتح الكبير، الذي داهم غزة فجأة وذبح أهلها.. وبعد أن قضى الاسكندر وجيشه تنهض غزة الشماء منبعثة، كما العنقاء.. ويبقى الأمر كذلك إلى أن جاء بعده الرومان الذين كانت كتائبهم قد اجتاحت قلاع القدس

وجالت في مغانيها

تجندل من بني الميتة

علوجا[1] رأسها قاسي

وهكذا تمكن الرومان من تنفيذ أفعالهم الشريرة أما العرب من أبناء كنعان فبقوا على هذه الأرض وهم يرددون: بها نحيا، بها نبقى، بها نفنى، بها ندفن. ثم يتجول بنا البرغوثي في خصائص البيزنطيين الذين هم خليط من بني الرومان والإغريق؛ فاكتسبوا "سفالات" الفريقين؛  من ظلم، وجور على العباد، وحب السلطة، وقطع الأعناق، وفساد الأخلاق حتى

صار الناس اقنانا

وساءت حالهم حالا

اليوم الخامس؛ من الفتح الإسلامي حتى سقوط بغداد (من القرن السابع – منتصف القرن الثالث عشر)، ويستهله البرغوثي بحقيقة أنه من حتمية التاريخ أن النصر للعدل. ففي هذه المرحلة

قد صاحت ديوك العرس

صوتاً يحمل البشرى

لمن ظُلموا

وينفث في فؤاد الظالم الذعرا

أما ملامحها فهي، ما أسماه البرغوثي "خيول النور". وقد أسهب في وصف الخيول وفرسانها: فالخيول: سريعات عريْقات أصيلات عروبية، وهي تأتمر بأوامر الفاروق، انطلقت تدك معاقل الطغيان والقهر. وأما فوق تلك الخيول فقد جاء العُرْب عقبانا. ثم يطيل البرغوثي في وصف راكبي تلك الخيول ومناقبهم وخصالهم وصفاتهم الحميدة حتى

نادت كُل الكونية اصواتاً ربّانيهْ

فلتسقط بيزنطا الروم ولتحيا العروبيّه

ثم تلتحم الجيوش وتتشابك السيوف وتتعالى صيحة الإيمان، لينتهي الأمر بأن

ولى الروم اشتاتاً ذميمينا

وأجلتهم بحدِّ السيف

قسراً عن فلسطينا

وهكذا أصبح الناس أحراراً في ديارهم؛ حيث هبوا أرواحاً وكانوا قَبلُ أشباحاً. وراحوا يتمتعون ويُنبتون الأرض جورِيَّاً ونسريناً وتيناً وزيتوناً وبرقوقاً ورماناً وإجَّاصاً وتفَّاحاً.. أما النتيجة فهي أنهُم شادوا دولة كُبرى على أسس حضارية. ومن أبرز ملامح هذه الحضارة أنها

تساوي بين كُل الناس في الأحكام

وصرح العلم يعلو شامخ البنيان

ثم يشير البرغوثي إلى "الدرر الحضارية" المتمثلة بخزائن الفرس والرومان، وكنوز الهند واليونان. أما "الحدود الشم" لهذه الحضارة فهي من إسبانيا إلى الصين. وداخل هذه الحدود يحيا أبناء الأمة وهم يتنعمون بما أسماه البرغوثي" نعمة الأمن" حتى أنها أصبحت كما يصفها "سيدة الحضارات". ولم ينسَ البرغوثي الإشارة إلى قصة غيمة هارون الرشيد عندما أصبحت الحضارة في عصرها الذهبي، ثم ينساب بكل فخر واعتزاز إلى "المأمون" الذي يرقى بالحضارة ذروة أخرى، فالمعتصم وقصته المعروفة عندما ثأر للمرأة من "علوج" الروم.

وأخيرا؛ يصف البرغوثي انحدار هذه الحضارة التي ظلت سيادتها لسبعة قرون إلى أن نسي الناس قيم الفروسية، وصار السيف في يدها حبيسا يتشكي الغمد. وهكذا يستمر البرغوثي في وصف ما آلت إليه الأمة من تشتت وتباعد حتى أصبح حالهم: لا دين يوحدهم، وتمزقهم كراسيهم، ويهلكهم تآمرهم، حتى داهمتهم الحروب الصليبية التي باطن أمرها حقد على الشرق، وأطماع بما يحويه من خيرات، وسيطرة على الطرق التجارية. وقد نجحت جحافلها إلى حين.

إلا أن البرغوثي يعيد لنا الأمل، في تلك الحقبة، بمجئ صلاح الدين الأيوبي عندما

رفرف بيرق الوحدة

عليا خافق السير

يتيه به صلاح الدين

ويصعد قاصدا حطين

ويتوقف البرغوثي عند معركة حطين ونتائجه وانعكاساتها على الأرض والإنسان حيث يوم الفرحة الكبرى التي ردت لهذي الأرض، بعد القهر والغربة، هويتها العروبية.

ولم يشأ البرغوثي أن يغادرنا في هذا اليوم من ملحمته، قبل أن يذكرنا، شعراً، بأنه ما إن زالت الأخطار، من بعد الصليبيين، حتى ذرَّ قرن الفتنة السوداء في المجتمع؛ فلا دين يجمعهم ولا الأرحام مرعية.

اليوم السادس: النكسة الثانية: من سقوط بغداد سنة 1258 حتى 1981 ميلادية؛ يستهل البرغوثي، وصف هذه المرحلة من تاريخ الأمة، بعلو الجهل فوق العلم والأدب على أيدي المغول. ويتعمق البرغوثي في وصف مرارة هذه الحقبة وحدَّة تأثيرها على الأمة.. إلا أنه يرى، وبالرغم من ذلك كله، أن الأمة قد صمدت؛ ولم تغرق نهائياً

بل اقتدرت على أن تحتضن السفحا

وتغرس فيه أقداماً

وعندئذٍ؛ تتوحد الشام مع مصر إلى أن يمضى الكل سيلاً واحداً هادراً، يقود خطاهم بيبرس إلى أن دقوا أعظُم التتار. ولم تطل هذه المرحلة من الانتصار؛ حيث عادت الأمة تعيش انتكاسة أخرى، ويصور البرغوثي الحال الجديد بأن زعامات الأمة أصبحوا  

أرانبَ تَرتَدي للغُشِ والتمويه

جِلْدَ الذِّئبِ والأَسَدِ

وتصعق لو رأت في الماء

صورة شخصها الزائف

واستمر الأمر كذلك إلى أن جاء الأتراك الذين لم يكونوا، بحسب البرغوثي، أصحاب فكر وعقيدة؛ فالتحقوا بالإسلام الذي هذبهم، وصقلهم؛ فأصبحوا قادرين على الانطلاق نحو أوروبا فاتحين، وفرضوا سيادتهم وهيبتهم الكاملة، حتى أن الأم الأوروبية كانت تُسْكِتُ ابنها وترغمه على النوم بمجرد ذكرها لـ "إسم السلطان". ولكن أغوى الترك ما صنعوه من نصر، ومن سطوة، وشدَّتهم رؤى عصبية عمياء إلى التمييز بين العرب والترك، حيث رفع الاتراك راية تجهيل العرب، عن عمد، حتى أطبق عليهم ما اسماه البرغوثي، مثلث منكود

ففقر مدقع كاسر

وجهل شامل آسر

وأمراض بلا حصر

وهنا فلنتوقف مع البرغوثي عندما رفع الأوروبيون راية "تحرير!" العرب من الأتراك، في حين أن أهدافهم استعمارية بحتة، فتنطلي على الأمة أكذوبة الدولة العربية الكبرى، كثمن للاصطفاف إلى جانب الغرب المخادع ضد تركيا الظالمة. ثم ينطلق البرغوثي واصفاً الاستعمار البريطاني لفلسطين، بأجمل شعر، ومما يقوله:

وتزأر في فلسطينا

أسود التاج

أتت من لندن الرعناء

وتقسم إنها جاءت

ديمقراطية الأظفار

والأنياب واليأفوخ والعُفرة

ثم يصف البرغوثي دور الإنجليز في ضرب عناصر القوة والاقتدار لدى الشعب الفلسطيني ويمهدها، أرضاً وسكناً، فقراء ضعاف لا يقوون على الحركة؛ لينتهي الأمر بمداهمة ما أسماه "قطعان مهاجرة" نفاها الغرب عن دنياه كي يرتاح. ثم أجلى الإنجليز جندهم وغادروا تاركين الشعب الفلسطيني، بلا عِلم ولا مال ولا وعي ولا تسليح؛ فكان لطغمة الظلام ما قصدوه من بغى ومن عدوان، وتم تشريد الشعب، صاحب الأرض، إلى الأكواخ من ذاك الصفيح البخس لتنشأ "دولة الظَرِبانْ".

وما هي إلا برهة من الزمن، حتى يثور الشعب الفلسطيني، ويبدأ بالانقضاض على محتلي أرضه من كل الاتجاهات ويهزَّ "دولة الظرِبان" الموصوفة. إلا أن الغياب المفاجئ لـ "جمال عبد الناصر" الذي شبهه بـ "اخشيد"، ومجئ نائبه "السادات" الذي أطلق عليه "عبده كافور" الذي أولى الأمة عقوق الحقد والنقمة وخان زمالة الثوار والثورة، و"باع" بقية القدس لـكي

يرضى عنه كلب الروم نقفوز

ويرضى العم سام عن مسيرته

وتابع البرغوثي في وصف السادات، حتى تحداه  بأن الأمة بخير؛ وأن ثورة الأحرار ماضية وهي تظلل موكب الثوار حتى النصر المؤزر.

وفي اليوم السابع والأخير؛ يقودنا البرغوثي بـ "سراجه" ليضئ لنا النفق لنرى المستقبل خلال ما أسماه "النهضة الثالثة" التي يستهلها بإسماعنا طبول الفجر وهي تعلن قرب مَقدَمِهِ. هذا الفجر الذي، بنوره الساطع، سوف يدك عاشقات الظلمة السوداء. كما أن الشمس، أم الفجر، سوف تشرق لكي تبعث في البلاد الدفء الذي ينعشها ويحييها؛ فيصهر ما تراكم من جليد في أماقيها. ويبشرنا بأن أرضنا ستزهو بالحنون الذي يُكسب خدها حمرة وجمالاً أخّاذاً، وبالنرجس الذي يفري أضلع الصخرة، من شدة بأسه وقوته. وأما النتيجة فهي أن الجَمْع سوف يمضي بهمة

إلى بلوطة الأمة

هناك بقمة الخربة

فيطرحون أسمالا من الغربة

وتجمع تلكم الأسمال في الساحة

فتصفح قمة أخرى على القمة

وهكذا؛ يثبت فينا البرغوثي الأمل ويعدنا بأننا سوف نحتفل بـ "عرس العودة الكبرى على أنغام يرغول وشبابة. وهي نفس الشبابة التي شهدت عليها بلوطة البرغوثي قبل 5,000 عام مضت. وكأني به، رحمه الله، يقول: إن التاريخ يعيد نفسه، فيذكرنا بأخلاق أجدادنا الكنعانيين، أصحاب الأرض الأصليين، بأنه عند الخلاص  من براثن الاستعمار الاحتلالي-الاحلالي، والانتصار عليه، ممنوع القتل والإلقاء في البحر، كما يفعلون هم، وإنما إعادتهم إلى حيث جاءوا؛ فيقول البرغوثي:

اصطنعوا لهم سفنا

مهيأة لتشحنها

وترجعها لمنشئها

تعقيب

بقي أن أعتذر للقارئ الكريم في قراءتي المختصرة هذه، لـ "ملحمة كفر توت" التي وجدتها فاكهة تخلو من القشور التي يمكنك التخلص منها، وتنعدم فيها البذور، ذات الطعم المر، الذي يدفعك للخلاص منها.. فكلها "لب" يغذي القلب لما فيه مما يريح البال من جمال الوصف، وروعة الأداء.. يغذي العقل لما فيه من حسن المعرفة والثقافة ورصانتها.. يجعلك تعشق اللغة لما يغرفه البرغوثي من بحوره اللغوية الرصينة، الجميلة. ومترادفاتها التي تنقلك، بسلاسة وهدوء، من حدث إلى آخر، ومن حقبة إلى أخرى؛ فقد استخدم البرغوثي مصطلحات قلما سمعناها من قبل، مصطلحات يتجنبها اللغويون لشدة "ارتباكهم" أمامها. ولكي نشهد للبرغوثي فلنذكر أنه قد أورد مصطلح "العلوج"، في جمل مقيدة وواضحة، قبل "محمد سعيد الصحاف" بحوالي ربع قرنٍ من الزمن..

وفوق هذا كله هي منهج تربوي-فني-راقص لتعليم التاريخ وتعلمه.. فعلى من يريد تعلم التاريخ، في أبهى صورة وتجلياته، أن يقرأ "ملحمة كفر توت".. وعلى من يرغب بتعليم التاريخ لطلبته ليحفر في الذاكرة ما لا يُنسى أن يُقرِئَهُم "ملحمة كفر توت".. وفي جميع تلك المراحل فلنتجه، جميعاً، إلى المرحوم عبد اللطيف البرغوثي بجعل ملحمته هذه نموذجاً من نماذج الصدقات الجارية في الفكر والأدب، وأن نتوجه لزيارة بلوطته التي صاحَبَها وعشقها لأنها رمز التجذر، والبقاء، والتحدي..

ولأبناء "صاحب البلوطة" أقول: هنيئاً لكم بمن وضع التاريخ في قبضة يدنا، فقد شدا لنا حتى أرقصنا، وسرد لنا "حدّوتة"، عمرها خمسة ألاف عامٍ، حتى أعادنا أطفالاً، مشاكسين-دلوعين، لا ننام قبل سماعها..

إنها "ملحمة كفر توت" التي تزودنا بزادٍ نحتاجه في رحلتنا الثقافية، والمعرفية، واللغوية، ولما نحتاجه من قدرات على سرد التاريخ بسلاسة وسهولة ويسر.. برواية تعيد الحق لأصحابه الشرعيين، دون الاستسلام لمنطق القوة الذي يسعى للعبث بحقوقٍ عمرها آلاف الأعوام.

عزيز العصا

فلسطين، بيت لحم، العبيدية

               

[1] البرغوثي استخدم مصطلح علوج قبل الصحاف العراقي