أثر وسائل الإعلام في اللغة العربية، قراءة في كتاب للدكتور جابر قميحة

" أثر وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية في اللغة العربية (1) " واحد من أهم كتب الشاعر والمفكر الأديب الدكتور جابر قميحة ، وهو ــ كما نرى من العنوان ــ كتاب بسيط ، لكنه عميق الفكر والمعاني .

وأريد هنا أن أتوقف أمام عدة ملاحظات تستحق مزيدا من التأمل والدراسة سجلها الكاتب في مقدمة كتابه :

أولا : اللغة العربية ليست كيانا جامدا لا حياة فيه ، وإنما هي أشبه ما يكون بالكائن الحي الذي ينمو ويتطور ، كما يكون عرضة في أوقات الضعف والانكسار للوهن والمرض ، وقد يصاب بالشيخوخة وقد يدخل في طور الاحتضار ،  أو حتى الموت ولكنها في كل الأحوال : سرائها وضرائها ومنشطها ومكرهها لم تفقد هويتها ، ولم تذو شخصيتهاويرجع ذلك لسببين :

الأول : ارتباطها الوثيق بالقرآن الكريم ، فهي وعاؤه العظيم الكريم ، وهي أداؤه التعبيري المعجز ، وهي لغة العبادات والذكر ، فارتباط الناس بالعربية لا يمثل مجرد ارتباط بلغة ، ولكن يزيد على ذلك بأنه ارتباط بدين قيم  ، ومثل عليا.

والثاني : طبيعتها الذاتية ، وكثرة مفرداتها ، والروافد التي تغذيها وتجدد نسيجها ، مثل القياس والاشتقاق والنحت والاقتراض والالتصاق والمجاز ، مما ينفي عنها تهمة التحجر والعجز وضيق المدى.

ثانيا : اللغة العربية مرآة ، وما كان للغة أن تحتفظ بعافيتها ورونقها وكرامتها في مجتمع تصدعت أركانه وتدهورت منظومة قيمه وأجهضت أحلامه واحدا تلو الآخر، بل واستبيحت كرامته في مجالات عدة . ذلك أن اعوجاج اللسان هو علامة على اعوجاج الحال كما قال ابن حزم بحق ، إذ حين عم الشعور بالهزيمة الحضارية ، لم يكن مستغربا أن تنتهك الكثير من مواطن العفة وركائز الهوية في المجتمع ، ولم يكن مفاجئا أن تسري الهزيمة في أوصال اللغة المستخدمة ، فيهجرها بعضهم ، وتتكسر على ألسنة آخرين ، وتهان في مختلف منابر التعبير.

ثالثا : وسائل الإعلام لها أشد الأثر في رفع مستوى اللغة العربية ، أو تخريبها والإساءة إليها.

                              **********

      ثم تصدى الدكتور جابر قميحة للمؤامرات التي حيكت بليل للقضاء على اللغة العربية ومحاولة تخريبها وهدمها وذلك عبر الدعوة إلى :

ـ  إحلال الحروف اللاتينية محل الحروف العربية.

ـ إحلال العامية أو العاميات محل العربية الفصحى.

ـ تمصير اللغة العربية ( دعوة لطفى السيد ).

ـ القضاء على النحو العربي وإلغاء حركات الإعراب وتسكين أواخر الكلمات.

       فقام بتفنيد كل هذه الدعاوي الساقطة التي ماتت في مهدها ولم يكتب لها البقاء :

ـ لأنها دعاوى كان وراءها نوايا خبيثة ، إذ كان هدفها القضاء على العربية ، لا نشرها ، ولا إنماءها ، ولا تيسيرها كما زعم هؤلاء.

ـ ولأنها دعاوى غير مدروسة ، ولم تقم على أساس سليم متين ، بل اعتمدت على أكاذيب وأباطيل لا تتفق مع الواقع ، ولا مع الحد الأدنى من العقل والعلم.

ـ ولأن طبيعة اللغة العربية معنويا وبنيويا وقاعديا لا تتفق مع طبيعة هذه الدعاوى ، فليس من اللازم أن يكون الصالح للغة ما كان صالحا لغيرها من اللغات.

     واعترف الدكتور جابر بأن وجود هذه الأصوات المنكرة المنكودة لا يلغي وجود أصوات إصلاحية ، وراءها رصيد عظيم من العلم وطيب النوايا ، مثل الذي عرضه الأستاذ محمود تيمور وإبراهيم مصطفى وشوقي ضيف من اجتهادات لتيسير عرض العربية وإنمائها ونشرها على أوسع نطاق.

                                  **********

       غير أننا من حقنا أن نسأل : وما علاقة ذلك بموضوع البحث " وسائل الإعلام وأثرها في اللغة العربية "؟

هنا يؤكد الدكتور قميحة أن العلاقة جد وثيقة :

ـ فمن البدهي أن نتعرف على طبيعة " المتأثر " وقيمته وأصالته حتى نستطيع أن نعرف مدى قابليته لتأثيرات " المؤثر " وتوجيهاته.

ـ ولأن الصحافة ـ وهي أقدم وسائل الإعلام ـ هي التي كانت تعرض الدعوات ، والدعاوى والآراء التي تمثل ـ في أغلبها ـ سهاما موجهة للغة العربية .

وبذلك يكون البحث ـ وقد خاض هذا المخاض ـ في دائرة الموضوع سائرا ، بل في جوهره ولبه مستقيما .

      ولم يفت الباحث الإشارة إلى ما حققته وسائل الإعلام من إيجابيات في التعامل مع اللغة العربية وأنها تكاد تتلخص فيما يأتي :

ـ المباشرية ، والوصول إلى أفكار الموضوع وصولا مباشرا دون التوقف عند نتوءات فكرية فرعية ، ويظهر ذلك بصفة خاصة في نشرات الأخبار والتعليق عليها.

ـ السهولة والوضوح ، فلم تعد تستخدم الغريب أو المهجور أو الممات من ألفاظ اللغة ، وتصدق هذه الخصيصة على البرامج التراثية كالتفسير ، والتوعية الدينية ، وتقديم الكتب القديمة وتحليلها.

ـ التخفف من الأثقال اللغوية والخيالية ، إلى حد التخلص التام أحيانا من الصور البيانية ، فأحلت التعبيرات المباشرة السهلة محل العبارات البيانية.

ـ استطاعت لغة الإعلام التقريب بين اللهجات المحلية ، واللهجة الأم : لهجة القاهرة ، وهي أسهل اللهجات فهما بالنسبة لشعوب المنطقة العربية ، فضلا عن المصريين في شتى بقاع مصر ، كما أنها أقرب اللهجات المصرية إلى لغة الإعلام.

ـ أمدت وسائل الإعلام ، وخصوصا  ، اللغة العربية بكثير من الألفاظ والعبارات والتراكيب الجديدة المولدة ، وكثير منها مترجم عن اللسان الأجنبي.

                                      **********

     على أن وسائل الإعلام لم تكن دائما خيرا وبركة على اللغة العربية ، فهي إذا كانت قد قدمت نفعا للغة العربية فإنها ـ كما يقول الدكتور قميحة في كتابه ـ تسببت في الوقت نفسه في تأثيرات ضارة كانت أفدح وأعتى :

ـ فالتليفزيون يصرف الأطفال والناشئة عن القراءة ، وعن أوجه نشاط أخرى مفيدة.

ـ والإعلانات ـ وخصوصا التلفازي منها ـ كانت انتصارا للعاميات ، وترويجا للغات الأجنبية ، ونشرا للنطق المعيب لكلمات العربية ، وإفسادا للذوق الفني والحس اللغوي .

وقد حققت الإعلانات ذلك في سرعة عجيبة لأنها تعرض بأسلوب فني فتان ، موظفة ـ بإمكاناتها الضخمة ـ أحدث الوسائل التي تحقق جمال العرض وبراعته ، فأصبح الأطفال بخاصة متعلقين بها إلى أقصى مدى.

ـ وفي الإعلانات الصحفية أصبحت الأخطاء اللغوية والقاعدية هي الأصل ، أما سلامة اللغة فهي الاستثناء . زيادة على أن كثيرا منها يكون مطعما بالقوالب والكلمات الأجنبية بحروف لاتينية ، أو حروف عربية.

ـ ويأتي بعد ذلك ما أسماه المؤلف " بأخطاء الكبار " في الإذاعة والتلفاز بخاصة . وخطأ " الكبير " من الساسة والمفكرين والكتاب أشد خطرا من أخطاء " العاديين " لأن الآخرين يتلقفونه ويستخدمونه مطمئنين إلى " صحته وسلامته " لأنه صدر من " كبير مشهور " .

ـ كما تبنت هذه الوسائل ، وما تزال تتبنى الأخطاء الفادحة في المفردات ، وفي الجمل والتراكيب والحوار والمناقشات والأخطاء في مخارج الحروف ونطق كلمات العربية بلكنة عامية أو أجنبية .

                                    **********  

     وفي ختام بحثه أجاب الدكتور قميحة على السؤال الكبير الذي يثور الآن وهو : أين المخرج ؟ كيف يتأتى للعربية الفصحى أن تكون أداة لنهوضنا وتقدمنا ، حتى تتبوأ أمة العرب مكانا عليَّـا بين سائر الأمم ؟

    في رأيه أن إجابة  هذا السؤال رهن بقدرتنا على تحويل اللغة العربية إلى مادة جذابة ، يحبها أبناؤنا ، ويقبلون على دراستها ، وتذوق ما تزخر به من مواطن الجمال ، ثم على جعلها تمتزج بنفوسنا وتعيش فينا ومعنا وتلبي متطلبات العصر وتواكبه ، بحيث لا نشعر إزاءها بغربة أو انفصام عن واقعنا المعيش .

    ويتطلب ذلك في رأى الكاتب وتقديره التحرك بصدق وإخلاص في الاتجاهات التالية :

ـ بذل أقصى جهد ممكن لضمان أن يتحدث أهل التربية والإعلام والسياسة بالعربية الفصحى ، ذلك أن اللغة العربية لا تكاد تصافح آذاننا إلا في النادر . وأي لغة تتوقف في إجادة استعمالها على الممارسة والاعتياد ، وهذا أمر بدهي.

ـ التأكيد المستمر أن التعليم رسالة وليس مهنة أو حرفة ، فلا يتصور أن يحب التلميذ اللغة العربية إلا إذا كان من يدرسون له يحبون ويعشقون اللغة العربية ويتحدثون بها.

ـ تقديم برامج للأطفال باللغة العربية السليمة من خلال الإعلام المسموع والمرئي.

ـ الاجتهاد في مهمة تجديدها وربط مفرداتها بكل ما يطل برأسه من مستحدثات ومخترعات وابتكارات ومعارف جديدة

ـ يجب ألا يشغل وظيفة إعلامي ـ ويعني به الصحفي والمذيع في الراديو والتلفاز ـ إلا من كان جديرا بهذا العمل ، وذلك باجتيازه امتحانات جادة تبين عن شخصيته وقدراته.

ـ إصدار معجم إعلامي شامل : يضم الأعلام العربية والأعجمية ، والألفاظ والعبارات التي يحتاج إليها الإعلامي أكثر من غيرها . وكذلك الأخطاء التي تشيع بين الإعلاميين ، مع بيان علة الخطأ وصورة الصواب.

ـ مراقبة الإعلانات مراقبة جادة ، وعدم السماح بعرضها إلا إذا كانت بالعربية الفصحى ، ملتزمة بعدم الخروج عن ديننا ، وقيمنا الروحية والأخلاقية.

ـ تطوير البرامج التعليمية المقدمة من التلفاز ، بصفة خاصة ، وبعدها عن النمطية المملة.

ـ الاهتمام بالملاحق الأدبية في الصحف ، وتخصيص مساحة منها لنصوص تراثية ودروس نحوية ، وعرض الأخطاء الشائعة ، ويكون ذلك بصفة دائمة ثابتة.

ـ تطوير المجلات والصحف الدينية لتستوفي العناصر الجمالية الفنية في الإخراج ، حتى ترتفع نسبة توزيعها.

ـ تطوير برامج محو الأمية التي تعرض في التلفاز بخاصة ، وتعميمها على مستوى الوطن العربي ، بصورة عصرية جذابة.

ـ نشر طروحات المجمع اللغوي على أوسع نطاق حتى لا تبقى هذه الطروحات حبيسة الكتب والمجلات المتخصصة التي لا يسمع بها إلا الأقلون . وعلى وسائل الإعلام أن تتلقف كل جديد يصدره المجمع من ألفاظ الحضارة ، وتقدمه للناس بصورة دائمة منتظمة .

ـ يجب تصدير اللغة العربية لدول العالم الثالث ، وخصوصا الدول التي ترتفع فيها نسبة المسلمين ، ويكون ذلك عن طريق برامج تعليمية مخطط لها بدقة ، تذاع عبر الراديو والقنوات الفضائية.

ـ أن يكون من بين لجان المجلس الأعلى للصحافة من يتابع ما تنشره الصحف من لغة مبتذلة ولهجات عامية تسىء للذوق العام ، سواء في المواد التحريرية أو الإعلانية ، لتحاسب وتؤدب من يخرج عن الفصحى  أو اللغة السليمة ، وأن تتبنى القيادات الصحفية احترام الفصحى والتمسك بها باعتبار ذلك من آداب المهنة أو شرائطها.  

ـ أن يكون هناك على مستوى الدول العربية كلها " هيئات الرقابة اللغوية " ، مهمتها الأصلية رصد استشراء العامية والسوقية واللغة المبتذلة في الفضائيات العربية ،وتوقيع العقوبات الرادعة على المخالفات منها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)            من إصدارات نادي المدينة المنورة الأدبي ـ الكتاب رقم 105 مؤسسة المدينة للصحافة ( دار العلم ) بجدة ط 1418هـ .  

وهو البحث الفائز بالمرتبة الأولى بين كل البحوث التي قدمت في الندوة المفتوحة بالرياض وكان موضوعها " ظاهرة ضعف اللغة العربية " في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي.  

وسوم: العدد 647